منذ ما يقارب نصف قرن على ظهور خبر قصيدة الهايكو في اللغة العربية بين سطور مقالة مترجمة للأستاذ الأميركي دونالد كين عن الشعر الياباني نشرتها فصلية “عالم الفكر” الكويتية في عام 1973 (المجلد الرابع، العدد الثاني)، انتشر هذا الجنس الأدبي الياباني بصورته العربية، وخاض فيه عدد من الكتّاب، ومن أجل تسليط الضوء على التجربة العربية في الهايكو، وما الذي يحمله النص من روح التجربة الأصلية اليابانية، وتحولات القصيدة في نصوصها العربية، جاء هذا الملف ليجيب عن بعض تلك التساؤلات، وهو ملف خاص بالهايكو شارك فيه عدد من الزملاء الأدباء والكتاب الذين نقدم لهم خالص شكرنا وتقديرنا لمشاركاتهم وتلبية دعوتنا في أن يتضمن الملف كل الآراء المختلفة، ومختارات من قصيدة الهايكو..
محتويات الملف:
1- الشاعر والناقد محمد صالح عبد الرضا (رأي)
2- الشاعر سعد جاسم- الهايكو بوصفهِ مشروعاً شعرياً وإبداعياً، وليسَ نزهة سياحية وإستعراضية وتجارية
3- الشاعر علي السالم- الهايكو
4- الشاعر والناقد سوران محمد- نحن وهايكو اليابانيين
5- القاص والناقد نقوس المهدي- قصيدة الهايكو وتحولاتها
6- الباحثة اشبيليا الجبوري- لمحة مبسطة عن: صرامة فكر الهايكو و قوة مرونة كتابته البلاغية (نص مترجم)
7- الكاتب محمد أسد الخليل- (الهايكو) في الشعر العربي.. هل هو تقليد أم تجديد؟
8- اشهر شعراء الهايكو (مختارات)
9- الكاتب بنيامين يوخنا دانيال – ترجمة قصيدة عندما تتسخ الايادي وسيرة الشاعرة اليابانية موموكو كورودا
– المحرر-
—–
الشاعر محمد صالح عبد الرضا
ثمة خلط ملحوظ عند اكثر كاتبي الهايكو بين الهايكو والومضة فلا يفرقون بينهما وأهم فرق هو ضرورة فهم الهايكو بأن اشطره تنقل بذكاء لقطات من الطبيعة تكاد ان تكون قريبة من منظور القارىء وانها تخلو من المجازات والتشبيهات والصور البلاغية التي ترد في أشكال شعرية ما عداها.
——-
الهايكو بوصفهِ مشروعاً شعرياً وإبداعياً
وليسَ نزهة سياحية وإستعراضية وتجارية
* رؤية وشهادة : سعد جاسم
يُعتبر الهايكو جنساً ونوعاً ونمطاً وفضاء شعرياً مختلفاً ومغايراً لما هو سائد من انواع وانماط وأشكال الشعرالأخرى.ويُمكنني القول انني سبقَ لي أن قرأت وأطّلعت على الكثير مما تُرجمَ من كتب ودراسات ومقالات ونصوص تعتمد أُسس ( الهايكو ) واصوله وطرائق كتابته اليابانية الاساسية. وقد تمكّنت الاستفادة منها بوعي وعمق وإستيعاب وتلقٍ . ومن ثم حاولتُ ان أُكرّس فهمي وخبراتي لكتابة هايكو يعتمد وينهل من الطبيعة العراقية وكائناتها وحيواتها بكل انواعها وأجناسها وعناصرها وحالاتها وعوالمها المشهدية والتصويرية والعجائبية والغرائبية . وكذلكَ سعيتُ بدأب وجديّة وإصرارعلى كتابة تفاصيل ومفردات ومشاهد البيئة والحياة العراقية بكل ابعادهما وتفاصيلهما وإشكالياتهما في ازمنة الدكتاتورية والحروب الفنطازية والعبثية والحصارات الخانقة والانكسارات والخسارات التي تكبدّها شعبي العراقي المظلوم والمجروح تاريخياً وروحياً وحياتياً… وكذلك فقد كرّستُ اهتمامي بالاشتغال على نصوص تتناول الطبيعة والحياة والوجود والعالم ؛ وكنتُ قد بدأت الاشتغال في هذا الفضاء الشعري منذ بدايات
التسعينيات وكان ذلكَ تأريخياً بالضبط في بدايات العام (1994) ويُمكنني الاشارة الى مسألة اعتبرها مهمة في تلك الفترة، ألا وهي انني كان يُزاملني ويُرافقني الاخ الشاعر والسارد )علي خصباك( الذي هو يُقيم ومنذ سنوات في الولايات المتحدة الامريكية . حيث ان علي خصباك كان وبحكم صداقتنا وعملنا المشترك في اتحاد الادباء والكتّاب في مدينة )بابل -الحلة( فقد كان علي شاهداً حياً وحقيقياً على بدايات اشتغالي على مشروعي الهايكوي .
وكذلك اريد القول : انني وبمناسبة تقديمي لرؤيتي وشهادتي الهايكوية هاتين فانني أَذكر ان ثمَّة واقعة ذات علاقة جوهرية
كانت قد حدثت لنا وبيننا انا والصديق علي خصباك ، وكانت تلك
الواقعة قد حصلت ذات صيف عراقي لاهب . حيث اننا كُنا قد قمنا
أَنا وعلي برحلة الى بغداد . ولاأُخفي ان رحلتنا تلك كانت محض مغامرة ؛ وكنا قد أطلقنا عليها وقتذاك: )الرحلة الاسطورية ( .
وذلك لما حفلتْ به رحلتنا تلكَ من مواقف وتفاصيل فنطازية عجيبة وغريبة . وقد حدث ذات ليلة من ليالي تلك الرحلة الصيفية وفي لحظة تجلٍ خمري تفجّرت مخيلتي بفيض من (الهايكوات) التي كانت تمورُ في مخيلتي وتتلاليء في ذاكرتي والتي لا أُخفي أنني كنت أحلم بكتابتها منذ فترة ليست بالقصيرة وذلك تتويجاً لقراءاتي ولحبي واندهاشي بما تُرجم من نصوص في هذا النمط والنوع الشعري المدهش والمثير ؛ وفي ليلتنا البغدادية تلك حدث ان تجلّتْ مخيّلتي بومضات احسستُها مدهشة ومتوهجة.. فرحتُ لحظتها
اتهجد بها ، وكان ” علي ” يدوّن ماأفيض وأَتجلى وأُشرق به.
وقد بقيتُ او بالاحرى بقينا لساعات نترنم ونُرتّلُ بتلك النصوص
حتى أَدركنا سلطان النوم اللذيذ . وفي حقيقة الأمر أننا وحينما صحونا من نومنا الطويل في اليوم التالي ؛ كانَ صديقي خصباك قد فاجأني برزمة من الاوراق التي كان قد دوّن فيها فيوضاتي الهايكوية .. وعندما قرأناها معاً شعرنا بالدهشة وغمرتنا حالة من الفرح الخفي : هو فرح الشعر واشراقاته الباذخة .. وبعد العودة الى مدينتنا الحلة – بابل الجميلة قمتُ بقراءة النصوص ثانية وثالثة وعاشرة وقد أعدتُ كتابة بعضها من جديد وإجريتُ تعديلات على البعض الآخر وأضفتُ لمسة هنا ولمسة هناك. ولااخفي كذلك انني كنت قد قمت بتمزيق بعض النصوص لأنني وجدتُ انها لاتتوفر على شئ من الدهشة وليست هي الذي أريده . وبعد فترة قمتُ بنشرعدّة اقسام من مشروعي هذا في عددٍ في الصحف والمواقع الألكترونية العراقية والعربية تحت تسمية (هايكو عراقي –او مفاتيح النصوص) وقد كان البعض من محرري الصفحات والمواقع الثقافية يحذفون عنوان ( هايكو عراقي ) ويبقونَ على عنوان ( مفاتيح النصوص ) . وعندما كنت اعترض وأعاتبهم على حذف عنوان ( هايكو عراقي ) كانوا يردّون عليَّ اما مازحين او ساخرين: (ياأخي هل نحن يابانيون ؟) أو (نحنُ لسنا يابانيين ياصديقي ) الا أن بعض المواقع الثقافية الألكرونية كانت قد نشرت العنوانين معاً وأذكرُ منها مواقع (الحوار المتمدن ومركز النور الثقافي والبيت العراقي وبنت الرافدين وأبسو قبل توقّفه وغيرها من المواقع الثقافية الألكترونية .
وكذلك كنت قد نشرتُ قسماً منها في كتابي الشعري( موسيقى الكائن ) الصادر ضمن ) سلسلة الـ 64 كتابا ادبياً( والتي ) تعنى بنشر النتاجات الابداعية لادباء المحافظات( السلسلة الشعرية ( 7) منشورات اتحاد الادباء والكتاب العراقيين في عام -1995-
وهُنا أُريد الاشارة الى قضية مهمة جداً ، حيث انني لااتردد عن التصريح والبوح بالبعض من جوانبها واشكالياتها بكل أَلم وشجن . والقضية هي قيام السيدين الخبيرين والمشرفين عن وعلى كتابي الشعري ) موسيقى الكائن (، حيث انهما كانا – آنذاك – عضوي المكتب التنفيذي للاتحاد العام للادباء والكتّاب العراقيين وكذلك كان احدهما يعمل في دار الشؤون الثقافية العراقية في ذات الوقت , حيث انهما كانا قد قاما بحذف قسم شبه كامل من كتابي
” موسيقى الكائن ” قبل صدوره وبدون الرجوع لي او أخذ رأيي
ولا حتى التحاور معي بأي شكل من الاشكال .حيثُ انهما حذفا من ذلك الفصل اكثر من عشرين هايكو من نصوصي الهايكوية ولاسباب كثيرة وأَبعد ماتكون عن الشعر والثقافة والابداع .
ولاأُريد هُنا ان اذكر اسماء اولئك الخبيريْن والمُشرفيْن ” غير الخبيرين والعارفين بشعر الهايكو على الاطلاق ” وكذلك لا أُريد الخوض في هذه القضية الآن على الاقل لأسباب خاصة وعامة انا الآن في غنى عنها ، لأنني أصبحت صاحب مشروع هايكوي شعري ومصيري وحياتي وكوني وليسَ نزهة سياحية وإستعراضية
وتجارية ، كا يعتقد البعض من المُتشاعرين والادعياد والطارئين والتجّار والاستعراضيين والحمقى ، حيث أنني استطعت وعلى مدى اكثرمن ثلاثة عقود من الزمان ،وبعد قراءات متواصلة وتأملية وأركلوجية وانسكلوبيدية لمصادر ومراجع وكتب متخصصة بعلم وفن وشعر الهايكو من النشأة والتأسيس الى يومنا . وقد ولد ونشأ ونرعرع مشروعي الشعري والهايكوي هذا ، نتيجة لجهود حقيقية ومثابرة واجتهاد وعناد ، وليسَ لعباً ولهواً ودسائيس ومؤامرات وسرقات وبهلوانيات وأشياء وأشياء ووووو إلخ … الخ .
وأَعود لأقول بأنني كنت قد نشرتُ أَيضاً مجموعة هايكوات اخرى
في مجموعتي الشعرية ( طواويس الخراب ) الصادرة عن دار الخليج للنشر في العاصمة الاردنية عمان في عام 2001.
ولكنَّ المفاجئ والغريب والمثير والمدهش في الأمر ؛ أنَّ هناك من كانَ قد حاول ومازال يحاول ممارسة طرق ملتوية ومافيوية وملوّثة وغبية وحمقاء من اجل الاستحواذ على مشروعي الهايكوي هذا ،والمؤسف والمخجل في أمر هذا ” البعض ” من الادعياء والطارئين والحمقى ، انه راح يصرّح ويدّعي انه هو صاحب هذا المشروع ؛ متوهماً ومتناسياً إن الادعاء شيء والمنجز شيء آخر ومختلف تماماً ؛ حيث أنني وعند اطلاعي وقراءتي للبعض من ( هايكوات) هؤلاء الأَدعياء والمُنتحلينَ , فقد وجدتُ انها ليس لها اية علاقة بهذا الجنس الابداعي الصعب الذي يعتمد التكثيف اللغوي والدهشة والمفاجأة والومضة والصعقة الشعرية ؛ وانا الزاهد والعارف فلا تضيرني مثل هذه الادعاءات والاساءات لأنني مؤمن بـ ” وأمّا الزبد فيذهبُ جُفاءً ) والحقيقة لاتُغطّى بغربال كما قيل ويقال . وأريد الاشارة الى انني ومنذً ذلك الوقت ولغاية الآن مازلتُ مستمراً بالاشتغال على مشروعي هذا ؛ حيث أنني وبين آونة وأخرى اعود اليه وأكتب مجموعات من الهايكوات الجديدة . وقد تسنّى لي أن أُنجز مجموعة من الكتب الشعرية الهايكوية وهي الآن بعض منها قد طُبع ، والبعض الآخر في المطابع
وأذكر منها :
1- ( غابة هايكو ) صدر في عام 2016-عن مؤسسة فكرة –القاهرة –مصر .
2- العالم هايكو- تحت الطبع الآن .
3- مهرجان لضفادع باشو( – مخطوط
4- ( زهور سوداء ) مخطوط .
5- (الحياة هايكو) تحت الطبع .
6- (تابوت تحت المطر) مخطوط .
وفي البدء واللاختام : فام هذه رؤيتي ازاء ( الهايكو ) بوصفه جنساً ونوعاً ونمطاً وفضاء شعرياً وابداعياً مختلفاً ومغايراً،
وله تاريخه ورواده وأثره وحضوره المتوهّج في شعريات العالم . وإزاء مشروعي الهايكوي الذي افخر واعتز به الى اقصى الحدوء والابعاد، لأنه كان ومازال وسيبقى مشروعاً ابداعياً خالصاً وناصعاً وحقيقياً وفي تجدد وازدهار واشراق وهّاج وخلّاق وأصيل .
، وكذلكَ فان مشروعي الهايكوي الابداعي بعيد وشاهق ومتسامٍ عن الأَكاذيب والإدعاءات والدسائس والمآرب والمُتاجرات والإخوانيات والمُجاملات والسلوكيات العُصابية والمافيوية التي تُشير وتؤكد ان الذين يقومون بها او يقفون وراءها هُمْ مجموعة
من الأَدعياء والجهلاء والمرتزقة وباعة كلام وكَتَبَة المقاهي والبارات الموبوءة، أَي بمعنى أَصح وأوضح أنهم ليسوا شعراء حقيقيين ولا ” هايكستيين ” مبدعين ولا صُنّاع آداب وفنون
وابداع ومحبّة وجمال .
——
الهايكو
علي السالم
التعبير عن المألوف بشكلٍ غير مألوف، قصيدة الهايكو هي التركيز والتكثيف والايجاز والصورة والمفارقة، بلغة بسيطة سلسة، بعيدة عن المحسنات اللغوية والتعقيد . فرضها ظرف تاريخي واجتماعي، وجد فيها الياباني نفسه، أمام الشجرة والغصن والنهر والجبل والدوري وزيز الحصاد والعنكبوت ليشكل منها قصيدةً ايحائية.
تتكون قصيدة الهايكو في اليابانية ، من خمس “مورا” في السطر الأول والثالث ، وسبعة في السطر الثاني ، تتبع هيكل الهايكو القياسي 5-7-5. مورا هي وحدة صوتية ، تشبه إلى حد كبير مقطع لفظي ، ولكنها ليست مطابقة لها. غالبًا ما يضيع هذا الإيقاع في الترجمة للغات الاخرى، حيث لا تحتوي كل كلمة عربية على نفس عدد المقاطع ، أو موراس ، مثل نظيرتها اليابانية.
كان هناك أربعة من شعراء الهايكو من اليابان ، والمعروفين باسم “الأربعة الكبار”: ماتسو باشو ، وكوباياشي عيسى ، وماساوكا شيكي ، ويوسا بوسون. لا يزال عملهم نموذجًا لكتابة الهايكو فيما يلي ثلاثة أمثلة من قصائد الهايكو لماتسو باشو (1644-1694) ، والذي يعتبر أعظم شاعر للهايكو:
ماتسو باشو
فيما يلي ثلاثة أمثلة من قصائد الهايكو لماتسو باشو (1644-1694) ،
بركة قديمة صامتة ..
ضفدع يقفز إلى البركة ،
يرش! الصمت مرة أخرى.
ضوء قمر الخريف-
دودة تحفر بصمت
في الكستناء.
في مطر الغسق ،
هذه الكركديه ذات الألوان اللامعة –
غروب الشمس الجميل
فيما يلي ثلاثة أمثلة من قصائد الهايكو ليوسا بوسون (1716-1784) ، شاعر ورسام الهايكو الرئيسي:
عبور نهر صيفي يا له من متعة وأنا
أرتدي
الصنادل في يدي!
ضوء القمر
يتحرك غربا ، وظلال الزهور
تزحف شرقا.
في ضوء القمر ،
يبدو لون ورائحة الوستارية
بعيدًا.
كوباياشي عيسى
فيما يلي ثلاثة أمثلة على هايكو من كوباياشي عيسى (1763-1828) ، وهو شاعر هايكو مشهور:
أيها الحلزون
تسلق جبل فوجي ،
لكن ببطء ، ببطء!
وثقت في بوذا ، الخير والشر ،
أودع
سنة المغادرة.
كل شيء أتطرق
إليه بالحنان ، للأسف ،
ينتقل مثل العوسج.
ماساوكا شيكي
فيما يلي سبعة أمثلة على قصائد الهايكو من Masaoka Shiki (1867-1902) ، التي يُنسب إليها إحياء الهايكو وتطوير شكله الحديث:
أريد أن أنام
سوات الذباب
بهدوء من فضلك.
بعد قتل
العنكبوت ، كم أشعر بالوحدة
في برد الليل!
من أجل الحب والكراهية
، أضرب ذبابة وأعرضها
على نملة.
قرية جبلية
تحت الثلج المتراكم
صوت الماء.
ليل؛ ومرة أخرى ،
بينما أنتظرك ،
تتحول الرياح الباردة إلى مطر.
نهر الصيف:
بالرغم من وجود جسر ، إلا أن حصاني
يمر عبر الماء.
وميض برق:
بين أشجار الغابة
رأيت ماء.
ناتسومي سوسيكي
كان ناتسومي سوسيكي (1867-1916) روائيًا محترمًا على نطاق واسع وله أيضًا العديد من الحكايات الخيالية ونشر الهايكو. فيما يلي ثلاثة أمثلة على الهايكو:
المصباح يخرج مرة واحدة
النجوم الرائعة تدخل
إطار النافذة.
معبد زهرة البرقوق:
ترتفع الأصوات
من سفوح التلال
طار الغراب بعيدًا:
يتمايل في شمس المساء ،
شجرة بلا أوراق.
الهايكو كما اسلفتُ قطعة شعرية مكثفة ومركّزة جدّا، تتوسّل بلُغة بسيطة، بعيدة عن التمحُّل والحذلقات الأسلوبية والشكلية، لكنها بساطة من السهل المُمْتَنِع، وقادرة على التقاط اللحظة الإنسانية الهاربة، وعلى تناول معانٍ عميقة، وموضوعات مألوفة يَرِينُ عليها حضورُ عنصر الطبيعة وما يتمحّض لها، وتؤطّرها رؤيا جادّة ينطلق منها الهايكيست.
يحاول الشاعر، من خلال ألفاظ بسيطة بعيدة عن التأنُّق وزُخْرُف الكلام، وَصْفَ مشهد بعفوية، ومن دون تدبُّر أو تفكير أو مشاعر سَلبية، والتعبير عن مشاعر جيّاشة وأحاسيس عميقة بنظرة تأملية يُظهر الهايكيست فيها عنصر الذهول والدهشة أمام هذا العمق للجمال والحركات البسيطة التي مِنْ حوله، والتي عادةً لا يُنتبَه إليها”.
و الهايكو العراقي على ندرة كُتّابهِ، لم يلتزم بكل هذه الشروط، واختلط الأمر على معظمهم، فصار يكتب الومضة والقول المأثور واللمحة ولم يحافظ على الشروط المعروفة للهايكو، وبلغ الوهم لبعضهم إلى درجة تصوره، اية ثلاثة أسطر هي هايكو. رغم اعتقادي ان جذور الهايكو العراقي موجودة في التراث الشعبي العراقي، مثل شعر الدارمي الشعبي الذي هو أقرب الأشكال الشعرية العراقية للهايكو.
أما بالنسبة لنصوصي فاكتبها بطريقتي العراقية مانحا إياها دفقا محلياً من بيئتنا وشيئا من الفكر، وهذه نماذج لقصائدي في الهايكو
أصابعُ الشَّمسِ
تُفتِّحُ أزرارَ قميصِ الليلِ
فيندلِقُ النَّهار
*تَرفَعُني كطفلٍ من تحتِ ذراعيَّ
وتَقْذِفُني في الهواء
موسيقى عينيكِ
*وَصيتي للنبيذ
ان يبتَكرَ الوصفةَ
من شَفَتيها
*ذُبابةٌ تحكُّ قوائمَها
قُبالة حلوايّ
طنينٌ إمرأةٍ
*قَلَقٌ على أَرَق
كلَّ يوم في َغمرةِ النوم
تُوقظُني دَمعة
* يتفجرُ قلبُ العصفور
إذا منعوهُ من الحطِّ على الغُصنِ
فكيف بقلبي دون غصونِكِ
*من عُنقوديِّ صَدرِكِ
فمي ينتِزعُ
حبّاتِ العِنَب
* قُرصانان
لا يكفان عن مُداهمةِ قلبي
عيناكِ
*أبهى مَدفن
شعرَها وصدرَها عليَّ
ضريحٍ من العطر
*قُبلٌ و هديل
رغمَ العاصفة
حمامتا قلبينا
*ريحٌ وِقحة
ترفعُ فستانَ الغيوم
لتظهرَ مفاتنَ القمر
*تَنّورُ مُسجَّرٌ قلبي
تتحمصُ فيهِ
أرغفةُ همساتِك
* هاويتان سحيقتان
إستدرجَتا زلةَ قلبي
غمازتاكِ
*هَزيمُ الرعدِ
اطفالُ النجوم
يلوذُون بعباءةِ الغيوم
*في مأدُبةِ فُستقِ شفتيها
تنهمكُ شفتايَ
بتقشيرِ المعنى
*حين أشرقتِ
أستأذنتِ الشمسُ بالرحيلِ
مكسوفةً
* هذا المُرفرفُ
النازِفُ بين فكِّيها
هو قلبي
*رغمَ قطفِها
تُصرُّ على أقوالهاِ المُشذاة
وردةٌ عابقة
*ذراعايَّ
دائماً عابقتانِ
بشذاك
*يسيلُ من يديكَ الظلام
من فرطِ ما قتلتَ فيَّ
من نجوم
*عند بَهاءِ حبيبتي
تنتظمُ الزهورُ بصفٍ طويل
تضرُّعاً لبعضِ الشذا
*وصفةُ الطبيب لي
حب وحب وحب
في كل الأوقات
*كلاهما مُثقَّبٌ
وديدنُهُ النزيف والأنين
قلبي والناي
*كرزُ شفتيكِ
وجُمارُ عُنُقِكِ
مُقبلاتُ حُب
——-
نحن و هايكو اليابانيين
سوران محمد
هنالك عبارة متعارف عليها حول قصيدة هايکو تتكرر بين كل حين وهي تعريف هايكو بأنه: ‘ ألفاظ بسيطة، تعبرعن مشاعر جياشة أو أحاسيس عميقة، تتألف من بيت واحد فقط، مكون من سبعة عشر مقطعا صوتيا، وتكتب عادة في ثلاثة أسطر خمسة، سبعة ثم خمسة’.
وبما ان جذور هذا النوع من الشعر يرجع الی القرن الثامن الميلادي المنحدر من (رنغا) الا اننا بصدد سٶال مهم وهو ما مدی تأثير البنية الفردية والمجتمعية علی الأدب؟ علی سبيل المثال نجد في أسلوبية الهايكو بأنها تحد الشاعر من حرية استعمال عدد الكلمات حيث تخلو من الحشو و التطريز، ومن ثم هل ان الايجاز و عدم الاسراف في استعمال الدوال يذكرنا بطريقة التفكير العلمي والعيش العملي للفرد الياباني المسكون في جزيرة نائية؟ ولم لا؟ فان الادب ليس الا مرآة دقيقة و صافية للطبقات الداخلية داخل نفوس أفراد المجتمعات، مع معطيات كل المواريث والتراكمات الاجتماعية والتأريخية والجغرافية.
لا ضير فان هذا التعريف ينقسم الهايكو ککل جنس أدبي آخر الی جزءين: الشكل والمضمون، ولو عرفنا مسبقا عدد الاسطر والمقاطع شكلا، الا اننا نلاحظ في كثير من ما يكتب بأسم هايکو في عصرنا هذا لا تمت بصلة الی هايكو الياباني المنشأ، بسبب الاختلاف مع طبيعة المضمون للهايكو.
نعم لقد ازدهر الهايكو بفضل باشو في القرن السابع عشر لكنه مازال هنالك شعراء معاصرين في عصر العولمة والتكنلوجيا الحديثة يتقاسمون و يشاركون في انتاج و تطوير هذا النوع من الشعر والسبب يرجع الی تشابه الاساليب الحياتية و طريقة التفكير و ما يتطلبه منا العصر الرقمي من الاختزال و السرعة و الدقة.
أنا متفق مع من يذهبون الی ان أكثر ما يكتب بأسم الهايكو لا ينطبق عليها شروط الهايكو من حيث الشکل أو المضمون، فلو القينا النظرة علی محتوی النصوص نادرا ما نجد هايكو و فيه عفوية في التفكير، مستلهما من الطبيعة جمالها العابر مع تفاصيل دقيقة و معبرة. کما جاء في النصف الاول من التعريف ( ألفاظ بسيطة و مشاعر جياشة أو أحاسيس عميقة) لكننا لا يسع لنا ان نحذف تلك النصوص من خانة الشعر بل ألبسناها بطابعنا حيث لا يجوز نتصنفهم تحت اسم هايکو.
يطرح (شريف الشافعي) في هذا الصدد رأيا صائبا عن الهايكو بأنها تنحو نحو التخلص من الذهنية وترك القصيدة تنساب تلقائياً وفق تدفّقٍ شعوري زاخم، مع طفوليّة في التعبير، وانسجام مع الطبيعة حدّ التماهي معها، مع خصائص التلقائيّة وغياب الطرح الأيديولوجي.
و کما قال الناقد (هربرت ريد) بأن الشکل والمحتوی مندمجان في عملية الخلق الادبي. لذا فان في النهاية سنتعامل مع نصوص هايكو ککتلة واحدة و بنية متکاملة من حيث ايقاعاتها و موسيقاها الی صورها و مقاطعها و ايحاءاتها المتفاوتة، و يزداد الامر صعوبة عندما نحاول ترجمة الهايکو و نتمسك بتوفير شروط الشکل للهايکو في آن معا، لأن في الغالب يترجم للشعر المضمون وليس الشکل، الا نادرا ما قام بالترجمة شاعرا وهو ملم بأمر الهايکو و يكتب الهايكو في نفس الحين.
* في الختام أود أن أأتي بأمثلة و نماذج جميلة من الهايکو العربي المترجم و غير المترجم، ثم نترك التعليق و التقييم و المقارنـة للقاريء الحاذق الشغفوفمع نموذج من هايكو الياباني:
١
جبنة وربطة نعناع
فطور الطاووس
في الحقل!
– أكد الجبوري –
٢
أيتها الجرادة
لا تسحـقـيها
لآلىء الندى اللامعة
– ياتارو كوباياشي/ت: جمال مصطفى –
٣
من صخرةِ جبلْ
تَطلعُ بعناد
زهرةٌ عاطرة
– سعد جاسم –
٤
منزل مهجور –
يعشعش اللقلق
فوق المدخنة
– سيزار سيوبكا / ت: بنيامين يوخنا دانيال-
٥
أسيرة
داخل حبة كهرمان
حشرة
– مريم لطفي-
٦
عباءة الليل
في ستر الظلام تنسدل؛
مواجع الرحيل!
– كريمة علي اللوبلبي –
* مثال علی هايکو الاصل المنشأ لباشو مع المقاطع الصوتية:
古池や Fu-ru-i ke ya البركة القديمة
蛙飛び込む Ka-wa-zu to-bi-ko-mu تقفز فيها ضفدعة
水の音 Mi-zu no o- صوت الماء
——
(الهايكو) في الشعر العربي.. هل هو تقليد أم تجديد؟*
(مقال من اختيار المحرر)
محمد أسد الخليل
(الهايكو) اليابانيّ نوع من الشعر اليابانيّ، يعبر فيه الشاعر عن مشاعر جياشة وأحاسيس عميقة بألفاظ قليلة بسيطة، من بيت واحد مكوّن من سبعة عشر مقطعاً صوتيّاً (باليابانيّة) تُكتب عادة بثلاثة أسطر (خمسة، سبعة، خمسة).
في إحدى ليالي عام 1694 بينما كان معلّم الهايكو الأوّل الشاعر اليابانيّ (ماتسوو باشو 1644ـ 1694) يلفظ أنفاسه الأخيرة وحده في حلكة الليل شارفت روحه على إطلاق شهقة موت أخيرة، فأخذ ورقة سقطت لتوّها من شجرة وكتب عليها:
مريض وقت ترحالي/ وأحلامي تتجوّل طافيّة / في الحقول الذابلة”(1)
ويقول أيضاً:
“على جانب الطريق/ أزهرت نبتة/ قضمها الثور”.
وقد أصبح الشاعر باشو ملهماً ومعلّماً للعديد من الشعراء اليابانيّين الذين ساروا على نهجه في جعل الطبيعة وفصولها وجمالها وعناصرها مصدراً وملهماً لكتبة شعر الهايكو.
فالقارئ لشعر الهايكو اليابانيّ يدرك وبوضوح تأثّر هؤلاء الشعراء بالطبيعة وبفصولها؛ فلا يكاد يخلو هايكو من ذكر للطبيعة وعناصرها وجمالها.
يقول الشاعر (شيكي):
“وبل في الصيف/ المطر يهطل / على رؤوس أسماك الشبّوط”.
وكتب الشاعر (بوسون):
“أصبع البنّاء/ المجروح/ وزهور الآزاليا الحمراء”.
وفي هايكو آخر، كتب الشاعر (أونيتسورا):
“تغوص روحي في الماء/ ثمّ تطفو/ مع طائر الغاق”.
إنّ المتذوّق لهذا النوع من الشعر، يدرك أنّه أمام لغة شعريّة تقوم على عدّة خصائص/ سمات فنيّة متعارف عليها عند شعراء الهايكو التي يأتي في مقدّمتها الإيجاز وبساطة الألفاظ ووضوح المعاني التي غالباً ما تتجه إلى السهل الممتنع وصياغة المعاني في تراكيب تتخذ من الخيال والإيحاءات وتكثيف اللغة أسساً لكتابة هذا النوع من الشعر.
وعلى هذا فإنّ الهايكو يعتبر رمزاً للثقافة اليابانيّة وروحها، وبه يُعبّر عن الطبيعة وما يدور في حياة اليابان العقليّة والروحيّة متجاوباً مع عقيدة اليابانيّين القائمة على التأمّل والاستغراق في التفكير للوصول إلى حالة من اليقظة والاستنارة.
عالميّة (الهايكو)
ولأنّ الشعر كغيره من الفنون الأدبيّة والعلوم المختلفة التي لا يمكن أن تبقى حبيسة البيئة والجغرافيا، ولأنّ الأدب والثقافة لا يعترفان بالحدود كان لابدّ لهذا النوع من الشعر -الهايكو- أن ينتشر ويتلاقح مع أنواع الشعر المختلفة على مستوى ثقافات الشعوب الأخرى؛ فها هو الشاعر الأميركيّ جيمس هاكيت(1929ـ2015) قد تأثّر بالهايكو وكتب مجموعة من القصائد تحت عنوان “ما الذي ليس حلماً”. ولشدّة إعجابه وبراعته في كتابة هذا النوع من الشعر فقد أُعلن بعد وفاته عن جائزة باسم “جائزة جيمس هاكيت” الدوليّة السنويّة للهايكو.
ويعدّ كتاب “طريقة الهايكو” الذي صدر سنة 1969 في طليعة وأهمّ مؤلّفاته التي ضمّت عدداً كبيراً من قصائد الهايكو التي أظهر فيها إحساسه العالي وتكثيفه الرائع للغة والمشاعر، فيقول في إحدى قصائده التي ترجمها أسامة إسبر:
“أشجار الكينا/ بكثافة اخضرارها تهمس/ عطر الصيف”.
ويقول في هايكو آخر:
“يتوقّف التفكير الآن/ يمنح الذهن الانتباه للعين/ عالم الخريف”.
(الهايكو) والشعر العربيّ
ظهرت أنواع جديدة وحديثة للقصيدة الشعريّة العربيّة لتناسب روح العصر، فجاءت متطابقة تماماً مع قصيدة الهايكو، ولكن أُطلق عليها تسميات مختلفة مثل: التوقيعة الشعريّةـ الومضةـ الشذرةـ اللقطةـ القصيدة القصيرةـ القصيدة القصيرة جدّاًـ الأنقوشةـ البرقيّةـ التلكس. اللافتة..
التوقيعة أو الومضة الشعريّة، كانت التسمية الأكثر رواجاً في أوساط الأدب، وهي كما عرّفها أحدهم: لحظة أو مشهد أو موقف أو إحساس شعريّ خاطف يمرّ في المخيّلة أو الذهن يصوغه الشاعر بألفاظ قليلة جدّاً لكنّها محمّلة بدلالات كثيرة، وتكون الصياغة مضغوطة إلى حدّ الانفجار.
وفي الواقع، فإنّ شعر الهايكو “تعدّى حدود الجغرافية اليابانيّة لتهبّ رياحه حاملة معها حبوب الطلع، فوجد له مساحة واسعة في الذائقة العربيّة والغربيّة على حدّ سواء، فقصيدة الهايكو بفلسفتها العميقة وكثافتها المتوهّجة غيّرت أفق توقّع المتلقّي العربيّ والعالميّ، مجسّدة ومضة سريعة في استنطاق الطبيعة”(2)
وبرزت أولى المحاولات للهايكو العربيّ في ستينيات القرن الماضي، “بدءاً بتوقيعات الشاعر الفلسطينيّ عزّ الدين المناصرة الذي يعدّ رائداً لقصيدة الهايكو، فقد بدأ بكتابتها منذ عام 1964 وكذلك برقيّات الشاعر السوريّ نزار قبّانيّ وتأمّلات الشاعر وعالم الاجتماع المغربيّ عبد الكبير الخطيبيّ”(3)
كما يعدّ الشاعر المغربيّ سامح درويش من روّاد شعر الهايكو العربيّ والذي مثّل العالم العربيّ في ندوة طوكيو حول شعر الهايكو إلى جانب الشاعر والمترجم العراقيّ المقيم في إنجلترا عبد الكريم كاصد.
ففي منتصف أيلول 2019 استضافت جمعيّة هايكو العالم ـ مقرّها طوكيوـ بقيادة الشاعر اليابانيّ بانيا ناتسويشي نحو خمسين من شعراء الهايكو من بلدان العالم، ضمن “ندوة هايكو العالم” التي تُنظّم كلّ سنتين، وأقرّ المشاركون في التظاهرة اختيار المغرب لاحتضان الدورة القادمة لندوة الهايكو العالميّة سنة 2021.
ويقول سامح درويش إنّ الهايكو اليوم لم يعد يابانيّاً، فقد أصبح لوناً شعريّاً عالميّاً، وقد عرّفه وعبّر عن إعجابه به من خلال ما كتب عنه:
“أن تكتب كطفل / بخبرة شيخ / هو الهايكو”.
ويرأس درويش أوّل نادٍ عربيّ للهايكو والذي تمّ إشهاره مطلع عام 2019 في الدار البيضاء تحت اسم “نادي هايكوموروكو”
الهايكو السوريّ
يرى محمّد عضيمة، وهو رائد الهايكو السوريّ إن صحّ الوصف، أنّ الخوض في ميدان هذ النوع من الشعر ليس سهلاً كما يتصوّر البعض، وإنّما يحتاج إلى ملكة لغويّة لا تتوفّر لدى كثيرين.
ومحمّد عضيمة شاعر ومترجم وناقد سوريّ من مواليد ريف مدينة جبلة على الساحل السوريّ عام 1958، وحاصل على شهادة في اللغة العربيّة من جامعة دمشق. اتّسع ولعه باللغة العربية ليشمل فنونها الكبرى في الشعر والنقد والترجمة، فشدّ الرحال إلى فرنسا وحصل فيها على الدكتوراه، ليتنقل بعدها بين باريس والجزائر.
وفي عام 1990، توجّه عضيمة إلى اليابان وعمل أستاذاً للغة العربيّة في جامعة طوكيو للدراسات الأجنبيّة، فانتهى به المقام هناك واستقرّ بها.
وبحكم استقراره في اليابان، فمن الطبيعيّ أن يتأثّر بآدابها وفنونها الثقافيّة ومن بينها شعر الهايكو. فألّف العديد من الكتب والدواوين في هذا النوع من الشعر، نذكر منها على سبيل المثال كتابه “غابة المرايا اليابانيّة” و”يدٌ مليئة بالأصابع”.
كما ترجم العديد من أشعار الهايكو وضمّنها كتابه “مختارات من كتاب الهايكو اليابانيّ”.
ومن بعض ترجماته:
يبدو أنّه ثقيل/ ومع ذلك يطفو/ الطائر المائيّ. (أوايجيما )
يا لماء النبع الرقراق/ كيف يبرّد/ إزميل الحجّار (يوساـ بوسون)
داخل جرّة الماء/ سقطت فأرة/ هذه الليلة الباردة. ( تان تايفي)
يقول عضيمة معبّراً عن رأيه ونظرته لشعر الهايكو: “يبدو لي أنّ الهايكو على صعيد اللغة العربيّة يشكّل إغراءً للكتابة فقط لأنّه نصّ تعبيريّ قصير يوهم من حيث الظاهر أنّه لا يحتاج إلى أيّة براعة لغويّة”(4)
انتشر هذا النمط من الشعر في أوساط المثّقّفين السوريّين والشعراء، ولا سيما الشباب منهم، فأقاموا الأمسيات والندوات حول هذا الشكل الشعري الجديد، وتمّ إنشاء نوادٍ وجمعيّات وصفحات في مواقع التواصل الاجتماعيّ تعنى بنشر نتاجات هؤلاء الشعراء.
وقد نشرت مجّلة رسائل الشعر عدّة قصائد لشعراء سوريّين برعوا في كتابته، منهم: غدير حنّا ـ علي ديّوب ـ أحمد قسيم الرفاعيّ ـ باسم القاسم ـ قاسم أحمد حبابة.
أما إيناس أصفري، فقد أضافت شيئاً جديداً على شعر الهايكو، ليس موجوداً في الهايكو اليابانيّ، كنوع من التجديد وهو أنّها جعلت لقصيدة الهايكو عنواناً. فتقول أصفري تحت عنوان “الكفيف”: “أصابعه/ ترى وجه حبيبته/ الكفيف”.
غدير حنّا:
“سبْت النور/ حلب تخوطها / هالة من نار”.
“طريق حمص/ الشجر باق على ميله/ وما من ريح”.
علي ديّوب:
“عندما ولدتُ/ زرعت أمّي شجرة/ اليوم أرى عليها الاصفرار”.
آراء متباينة
خلقت قصيدة الهايكو العربيّة حالة من الجدل في أوساط الشعراء والمهتّمين بالأدب والثقافة؛ فالبعض اعتبرها دخيلة على الشعر والبعض الآخر منحها شرعيّة من خلال إلباسها ثوب الأحاسيس العربيّة لتكون قصيدة قصيرة أو ومضة شعريّة أو توقيعة. وهناك من رفضها كلّيّاً واعتبرها ضرباً من السخافة والتفاهة أو الثرثرة الشعريّة، وهناك من دجّنها على طريقته فأضاف عليها وعنونها ومنحها صبغة عربيّة.
فالشاعر والكاتب المغربيّ عبد العزيز أبو شيار يعبّر عن رفضه لقصيدة الهايكو قائلاً: “يصعب عليّ كثيراً اعتبار الهايكو العربيّ قصيدة؛ لأنّ مصطلح القصيدة له مدلول في شعرنا العربيّ، وهو الذي أصّله النُقّاد … أمّا أنّ أعدّ ثلاثة أسطر وضعت الثقافة اليابانيّة قواعد كتابتها فهذا مالا أقبله، إنّها محاولة استنبات شكل شعريّ أفرزته حضارة أقصى آسيا في تربة عربيّة لها ميّزاتها الحضاريّة”(5)
في حين كان للكاتب والناقد السوريّ د. نضال الصالح رأي آخر :
“ربّما أكون من أكثر المنحازين للتجريب في الفنّ والأدب؛ لأنّني أؤمن بضرورة البحث عن أشكال جديدة للتعبير… وضمن هذا السياق أفهم ما يمكن وصفه بالحمّى التي تجتاح المشهد الثقافيّ العربيّ فيما يُصطلح عليه بنصّ الهايكو أو قصيدة الهايكو فمن حقّ المبدع أن يجرّب مختلف أشكال التجريب وأن يختار مغامرة التعبير التي يشاء ولكن من الواجب أن يكون مزوّداً بثقافة كافية ورفيعة بهذا الشكل الوافد إلى الثقافة العربيّة”(6).
—
* عن: موقع التلفزيون السوري.
المصادر والمراجع
1ـ قصيدة الهايكو العربيّة بين القبول والرفض ـ تقرير للكاتب ميلود لقاح على موقع الميادين نت.(5)
2ـ مقال بعنوان الهايكو العربيّ بين التقاليد اليابانيّة والبصمة العربيّة في صحيفة المثقّف للكاتب بكر السباتين.
3ـ آراء متباينة حول القالب الشعريّ ذي الجذور اليابانيّةـ تحقيق بسام حميدة في الموقع الرسميّ لجريدة عمان (6)
4ـ كلام عن الهايكو العربيّ ـ مقال للدكتور عبد الله القواسمة في جريدة الدستور الأردنيّة.
5ـ مقال ليوسف أبو لوز ـ موقع الخليج (4)
6ـ مقال بعنوان شعر الهايكو من الإبداع إلى التأصيل للدكتورة فاطمة زهرة إسماعيل من الجزائر في مجلّة فكر الثقافيّة (2)
7ـ مقال لروعة ياسين في صحيفة رأي اليوم
8ـ مجلّة رسائل الشعر.
9ـ موقع ويكيبيديا الموسوعة الحرّة.
10ـ مقال لصدّام أبو مازن على موقع الجزيرة (1،3)
——
قصيدة الهايكو.. وتحولاتها
نقوس المهدي- المغرب
الهايكو شعر شعبي ياباني المولد والنشأة، يعتمد على التكثيف اللغوي والايجاز اللفظي، ويخضع لتقنيات كتابية دقيقة جدا، لا تخلو من الرموز والايحاءات المرنبطة بالطبيعية، بعيدا عن أنسنة الإنسان، ظهر على يد شيخ الشعراء الياباني ماتسوو باشو(1644-1694)، الذي أحدث ثورة في الشعر الياباني دون قطيعة مع الأشكال التعبيرية الرائدة (شوكا، تانكا، سيدوكا، ورِينْغَا)، التي تنتمي جميعها إلى ثقافة وفلسفة “الزن” البوذية المشبعة بالقيم الروحية التي غرستها فيه البيئة الريفية، إذ أن الشاعر إنسان زاهد مرهف الإحساس، مرتبط وهائم في الجبال والوديان يتأمل عناصر الطبيعية
يعرّف الشاعر الجزائري حسين عبروس الهايكو على أنه (كلمة تشتمل على مقطعين (الهاي) وتعني (طفل) والمقطع الثاني (الكو) وتعني (الرماد). كما يعني هذا الإسم (الكلمة المضحكة). هذه الكلمة المضحكة أصبحت تغزو القصيدة العربية من خيول امرئ القيس الى البط العائم للمعلم (ماتسووباشو). الفارق عجيب وغريب حين يستولي على الذائقة الجمالية العربية هذا النوع من الكتابة التي هي في الأصل نبات تقليديّ من الكتابة العاميّة اليومية للمجتمع الياباني)*
والهايكو ليس شعر قضية، ولا مدينيا كما هو الحال الآن، بل شعر انطباعي، دون تعقيد أو تكليف، مغلف بصوفية خاصة، وينماز بشفافية وانطباعية عميقة، وتتألف من 17 مقطعاً، تكتب في ثلاثة أسطر (5–7–5، يقول علي كنعان في مقال له بعنوان: الهايكو بين التقليد والتقريد: (يطرح الشاعر في السطرين الأول والثاني الهاجس الذي يشغل باله، ثم يبحر في أعماق تأملاته ملياً ليبدع خاتمة مدهشة، مكثفة أشبه ما تكون بالحكمة في الشعر العربي، عبارة مختلفة ومفاجئة. ولا بد أن تتضمن القصيدة كلمة أو قرينة مأخوذة من الطبيعة، تدل على الوقت أو الفصل الذي كتبت فيه، وقفزة الضفدع في القصيدة التالية دليل على الربيع أو الصيف
يا لها من بركة عتيقة
ضفدع يقفز فيها
صوت الماء )*
هذه بضاعتنا ردت إلينا
هذه المقولة الأثيرة التي قالها الصاحب بن عباد حين توصله بكتاب العقد الفريد لابن عبد ربه، تكاد تصدق على أشعار الهايكو المختلفة التي كتبت في بلدان مختلفة، لأنها برغم تباينها تكاد تجسد في جزء منها الروح العميقة لشعر الهايكو الياباني وتتقمصها، في البعد العاطفي، وفي الروح البشرية، استلهمه العديد من الشعراء لمحاكاة الهايكو الياباني)*
يقول د. محمد عبدالله القواسمة: (بدأت قصيدة الهايكو في القرنين التاسع عشر والعشرين تنتشر في أنحاء العالم بفضل ترجمات الأدب الياباني إلى اللغات العالمية، خاصة الإنجليزية والفرنسية، وشُرع في محاكاتها وتطويرها خاصة بما يتصل بالمقاطع الصوتية اليابانية؛ لتتجانس مع الخصائص الصوتية في اللغات الأخرى. حتى ظهرت في القرن العشرين بأمريكا وبريطانيا المدرسة الشعرية الصورية imagism التي استفادت من قصيدة الهايكو. وكان من روادها الشاعر إزرا باوند.)*
الهايكو العربي
يعتبر المقطع التالي لماتسوو باشو (1644-1694) من أبلغ النماذج لشعر الهايكو بحسب النقاد
“هذه الطريق
لا أحد يجوبُها الآن
عدا شمس الغروب”
وعبره يمكن توصيف حال شعر الهايكو الحالي، وهو في طريقه الى فقدان هويته وأنساقه، وانحرافه عن مجراه، ويتعرض لعمليات استنبات هجينة أحيانا تقصيه عن رسالته كما سنها الشاعر اليابني ماتسيو باشو، منتقلا من ارتباطه بالطبيعة وهدوئها وصفائها، إلى الهايكو المديني الحضري الذي يتقمص روح العصر، الشيء الذي أدى إلى ظهور عدة أنماط من للهايكو، كالهايكو العربي، والهايكو الإفريقي، والأوربي والامريكي، هذا الأخير الذي ترجم منه الأديب الشاعر العراقي بنيامين يوخنا دانيال الكثير من النماذج الجيدة الجديرة بالقراءة، كما عرفت الساحة العربية العديد من الشعراء العرب من لهم نماذج ناضجة من شعر الهايكو، ولعل الشاعر بنسامح درويش هو الهايكيست الأجدر من يمثل المدرسة المغربية، وله عدة دواوين، ونظم وشارك في لقاءات هايكوية عديدة..
ومن العراق تميزت كتابات البروفيسور إشبيليا الجبوري، وأكد الجبوري، وسعد جاسم، وغيرهم حتى لا نحصر الاسماء في هؤلاء
فيما عرف شعر الهايكو اقبالا واسعا بين صفوف المتأدبين، لاستسهاله أولا، ومراهنتهم على النصوص الوجيزة جدا، مما عرضه لعدة تغييرات، وتشوهات جعلته يتماهى مع شعر الومضة والشذرة، والخاطرة، واللمحة، والالماعة، والمقطع الشعري الوجيز..، لدرجة وصفها علي كنعان بالتقريد، (تعني ما يقوم به القرد من محاكاة وتقليد لحركات البشر)، الشيء الذي جعله يدخل في الارتجال والتخريب والخلط، ويبتعد عن الروح اليابانية لقصيدة الهايكو التي تنتظمها عدة مصطلحات، وشروط وقوانين صارمة يجهلها العديد منهم
——
* حسين عبروس – الهايكو.. أو طفل الرماد – أنطولوجيا السرد العربي
* د. محمد عبدالله القواسمة – كلام على الهايكو العربي – أنطولوجيا السرد العربي
* علي كنعان – الهايكو.. بين التقليد و«التَّقريد»!..جريدة الاتحاد الاماراتية
* نفس المصدر
——–
لمحة مبسطة عن: صرامة فكر الهايكو و قوة مرونة كتابته البلاغية
إشبيليا الجبوري- ترجمتها عن اليابانية أكد الجبوري
فموضوع هذه المقالة هو تبئير أو”لمحة مبسطة عن صرامة فكر الهايكو وأثر كتابته البلاغية”، لما له من تحديات تعكسها الفلسفة وسياقات تحكمها في تدوين الحياة اليابانية، وأهمية أحقيقة موضوعاته المتجددة، وحقل بكارته، التي تخص ـ من قبل ـ بعض من ألهم لهم الشأن بخصوصه، وثمرة الدراسة الجديرة في جديد موضوعاته، وحقول قضية الإبداع فيه، وآثار فهم الهايكو في تلاحق أطواره المختلفة عن تطورات جديرة به من إضافة على الآخر. وقد يأخذ منا في هذه اللمحة إيجاز للمحات ثلاث أو أكثر، مبسطة، لتسليط الضوء عليه، والوقوف على وجه صرامته وإبداعه؛ نشأة ونموا وازدهارا.
ولأجل ذلك سأجعل هذه المقالة مدخلا أوليا مبسطا، تدفعنا متابعين حلقات لمحاتها القادمة؛ أو إفاضة اكثر بقليل مما ورد، وبعجالة عن (من كيف إلى لماذا، واين، ومتى ومن هم شيوخه ومريدوه)؟ حتى تبادل أنتقال لغة ترجماته، إن تطلب لاحقا للأمر ضرورة.
وإن كان هناك منا أغفال أو سهو غير مقصود “فنحن بشر”، سبحانه. ومن وجد إصابة، نأمل من الأخرين تسديدها ودفعها للقاريء ليسود سؤدد الحوار والتواصل، بارفع قيمة مضافة تعمها الفائدة فهما للجميع.
مع الشكر الخالص لدعوة موقع بصرياثا بالمشاركة كما أوضح لنا في (ملف الهايكو العربي)، أملين لعونكم/عونهم علينا في لغتنا العربية الركيكة (إن جاز التعبير)، وتحمل أعباءنا أن ورد سهو طباعيا أو لغويا في اللغة العربية. ونبلغ حرص بالشكر والامتنان إلي رئيس تحرير الموقع (بصرياثا) الاستاذ عبدالكريم العامري، لدعوته ودعمه وتعاونه اللطيف معنا. ونأمل دوما من الله العظيم التوفيق للجميع.
أما بعد:
هيمن تصور المهتمون بكتابة “الهايكو” الياباني، من الربع الأخير للقرن الماضي، أن البحث في الهايكو ومعالجة إشكالياته ومهامه سيقتصر على طريقة الكتابة الموجزة البارقة؛ أي قصيدة “الومضة” اليابانية كما يحلو للبعض تسميته، خصوصا بعدما أفلحت الأخيرة في الخروج من معطف المحلية على غرار أنفصال خصائص تعلم اللغات و الكتابة في فنون ترجمة لسانياتها، بمعنى اخذا اتصال تصور الكتابة فيها كحجوم للأشياء أو سائر المتخيل عن التكنولوجيا المحمولة بساطتها.
لكن بقدر ما أنصلت وصغرت بذاتها عن معارف فنون الكتابة الشعرية أشتد ارتباطها بالفلسفة وتعمق. بحيث ألفت نفسها ـ أي الهايكو ـ نفسها موضوعا لتأمل أم معارف. وخير المعارف من تأملها هو معرفة كيف تتجاوز منها نبذ مساوئ اتصالها من قطائعها، أو العكس. وتزيد نفعا مجالا من مجالات أشتغالها، ونظرا لأهمية تلك التأملات أو المعارف في الكتابة به، تطور بأعتبار أن أغلب الفلاسفة والمفكرين عنوا الأسلوب والمنهج به وبإشكالاته، خصوصا في القرن العشرين والعقدين الأخيرين ليومنا هذا على مستوى الثقافة العالمية أو العربية خاصة (=كتاب المغرب العربي ـ بنحو أدق، لأسباب معروفة لدى لجميع).
ولعل سبب أهتمام الفلسفة بنظم كتابة قصيدة “الهايكو” يرد إلى كونها تفكيرا في (فعل المضارع) الحاضر ـ “اللحظة”، والغرض، قبل كل شيء، وأنتباها إلى ضرورة التعايش في المنجز الإنساني العام، والأنخراط بالمشاركة والإسهام في بناءه عبر أنتشاره بين شتى الثقافات العالمية. وبالعمل على توجه الأفاق نحو المستقبل. وجلي أن انشغال صرامته في طريقة نظم نشأته الأولى منذ القرن الخامس ( كما تظهرها حفريات الدراسات المتخصصة)، وصرامته هذه فكرية، غير أنه لا ينفي أتجاها نحو الماضي، وأن مرونته تروم، في الحال ذاته، إنتشال القبلية بإنقاذ الذاكرة وضمان استدامتها واستمرارها، فهو بذلك يشكل تقاطعات مع الفلسفة (ظاهرا ومحتوى) في مجالات عديدة. بمعنى أن تكون المعنى تشكل علينا المراد لا بالمجاز فحسب، بل، أيضا مقياسا لبلاغة الكلام، في حرص منهج الكتابه فيه على أيجاد صيغة الأبداع له، فيه تفسيره الموازن بين قوة دور الحقيقة وأقتدارالمجاز في التعبير الفني ـ عند وقع الأختيارـ أي حينما يكون موضوعا للتأمل، الذي يتقدم به للحصول على درجة من المعرفة وآثرها في تدوين، وأبلاغ قضيته الجديرة بالدراسة أو المراجعة لوقعها في رسالته ـ الهايكو.
لكن العلاقة ولقاء الحقيقية بينهما يتكشف في أرتباطهما في حيز الموسيقى، العلامات اللغوية، فكلتاهما قوة “أقتدار” يعلن عن ذاتهما بصفتهما صحبة تمكن مع ما تحثه تلك العلامة من جاعلية، أي حمولة شحناتها الثقافية والنفسية والمعرفية بالعمل على توجه الأسماء الأفعال في تحولها لصفات حقيقة نحو المستقبل، مما تكون كلتاهما مضطرة. إلى فك علاماتها. فيكون كلهما، أي الشاعر والفيلسوف يوثقان تأملاتهما لما سيصدرانه عن قراءة إشارات، هي كلمات في صرامة نظمهما، وسياقات تؤلف نصوصا بلاغية رفيعة الفكر، وهما يستخرجان اسرارها الخفية من جمل أسمية تعمها، معززة بنبع مصدري، وجعل الجلة فعلية خفية بالدوافع التحفيزية تحرك جمالا جوهريا لمعنى مادي ملموس وأستدعاء توظيف للحواس بمدارك تتلذذ بالجمال المعرفي الحسي في أعماقه.
ويحدث للشاعر من خلال صرامة أسلوبية فكر الهايكو، أن يتعرف كثيرا من تلك الإشارات تأملات لم يسبق له أن تعمق بجوهرها أو ظاهرها تمام المعرفة، وما يخفي وجه الحكمة في رفض أو قبول تفسير النطم الشعري بمعنى الطريقة والأسلوب في الكلام أو إطلاقه على توالي الألفاظ في النطق والإسماع أو تلاؤم الحروف وانسجام أجراسها أو إنكارها أن تكون بمثابة الميزة البلاغية كامنة في اللفظ ذاته، ما يعني دون أن يستنفد إمكاناتها الدلالية؛ فهو يمر جانبها في كثير من الأحيان، أثناء بحثه في النص في لغته الأصلية عن الحقيقة، ولذلك تبقى معرفته بالنص وإحاطته به ناقصة، مما يسوغ تعدد تأملات القصيدة الواحدة من جهة، ويبرر قراءات متنوعة هي في الواقع أطر حوار محددة وتبادل لوجهات النظر، ودعوة إلى مجتمع المحبة والمعرفة والصداقة في تعبير عن أن الحياة سريعة الزوال. وبكلمة واحدة تغدو قصيدة الهايكو تفكيرا، لمرورها أثناء بحثها عن الحقيقة بالفهم والشرح والتفسير فالتحديث، وهي لعمرية بساطة الظاهرة سهولة الفهم نفسها والوصول إلى دلالاتها، كما هي التي تحرض عليها عمقها الفلسفة والجمالي أيضا، التي تفتأ تعيد قراءة الإشارات/العلامات، وإعطاءها معان مغايرة عما ألف، نظرا للقراءة الجديدة التي تخضعها لها، مما يحول مسير الفكر والمعرفة لتوضيح مشاكلها العلمية الجادة لقضية الإبداع “الهايكوي” .
ويؤكد الأستنتاج السابق كما هو معظم الشعراء اليابانيين الذين أسهموا في تقدم موضوعاته الفلسفية وثقافته المعرفية وأزدهارها قد يكون من العسير تفسير آرائهم وخططهم الفكرية والبلاغية تفسيرا سليما ما لم تمخض قضية الشذرية الموجزة بقيمة الدقة الوامضة، من إضافات إضاءة البرق، الذي يرى أن سر التفكير يكون نفاذ ضوئيته دوما تأويلا، أي تفسيرا وتطويرا، وترجمة لإشارات متغيرة سريعة، فلا يترك ألا وجود إيجازه سوى لمعان تكمن في إشارات قبلا في السر، تابعة معانيها ملفوفة المقياس ومطوية لبلاغة كلام، وفي حرص حال، موازنة غامضة لما يجبر على التفكير إنسجام أجراسها بين دور الحكمة والمجاز في الأسلوب الفني.
ومن ثم دفعت العلماء في وقت مبكر إلى بذل ما رخص للعين ظهورا أوغال للقلب غناه ضموره وأفصحه، بجمع الكلام له، وحفظه وتدوينه وتعليمه، مع جهد عرض تقبله، وتفسيره، ودراسة أساليب نظمه البيانية ومقابلتها بأساليب البلغاء، ثم أستخلاص عناصر الجودة في اساليبه البيانية ومواضع فجوة التقصير في سلاستة؛ ليظهر امتياز العبارة على وضح الكلام من موضع قويم أو اعوجاج، توكيد رفعة الأجراس القويمة الذين استوت لديهم ملكة البيان، ومن أجل خدمتها خاضوا في مسائل الفلسفة والبلاغة كالقول في الهايكو البلاغي، وتفضيل الكلام على كلام، وكانت أيضا وراء زيادتهم للمقايس البلاغية وتعميقها، وإرساء نظرية النظم وتقرريرها فيه، وبيان مكانته في التعبير الجميل، والتشبيه والتعمق فيه، والإيجاز والإطناب والإلتفات بالتماثل (إن صح التعبير) وبيان الميزة البلاغية من خلال أجراسه في مقاطعه الثلاثية (=النشأة والنمو والنتيجة) وأين تكمن موازنتها لمقاطع ثلاث مكونة الـ( 17 ) صوتا/أجراسا، بطريقة ( 5 ـ 7 ـ 5 )، أو، 5 ـ5 ـ7 أو أيضا 7 ـ 5 ـ5 ) حسب فهم علمية الأسلوب؟ والمقاطع “الثلاث” تعني؛ بالنشأة والنمو والأزدهار. بمعنى رسم المنهج السليم لثقافة التربية الفنية والتعاليم الأدبية القادرة على الخلق والنقد والإبتكار وتوليد المعاني الخلقية الجمالية قبل فقدانها أو الزوال؛ للوقوف على وجه إبداع الهايكو البلاغي؛ وظيفة أنبثاق المثال، حكمته، والقول بعمله المأثور. فمنذ أن وجد الهايكو أصبح سر تجدد الفكر الياباني دوما طريقا للإيمان بنور وصف لنفس الطبيعة برسمها الحياة واستمرار تجديدها بالبدء الفطر الخلقي الفطري، وأعمار الكمال، وسيادة الذوق والجمال، لتقلد تعلمه من أمور الحياة، وتعميم ثمرة فهم الهايكو في فهم قول اللحظة، و وقوف الهايكو على وجه تفرده بالزمان وإبداعه بالمكان. فهو، مثلا، يعود بأستمرار إلى تراثه الفلسفي، ويعيد قراءته قراءات جديدة؛ كحال شيخ البلغاء من اللاحقين في تاريخ هايكو اليابانيين (باشو ماتسويو 1644 ـ1694)، الذي يستحدث بأستمرار، وليس على كل مائة سنة، ومن ثم تفهم إبداعية الغرب، الذي يستلهم أرتقاءه وتطوره من إعادة ترجمة تراثه الياباني وفهمه وفك إشاراته وتأويله وتفسيره. وهذا يعضد ذهاب ما رسل إليه حق أثار لاحقة من مريدوه بعده، مثل ( بوسو يوسا 1716 ـ 1783 ، شيكي ماساوكا، 1867ـ 1902 ، كيوشي تاكاهاما، إيبيرو نوك تسوكا 1874ـ 1959 …وآخرون) إلى أن (الهايكو) هو تواصل للتفكير في العصر الذي تأتي منه وقائع حال التفسيرات والشروح ، قبل أن تكون له تأويلات لنص من النصوص، لاستعداد همة اليابايين للنهوض المستمر للفهم البارق لتغيير واقعهم وإحداث أنعطاف في معيشه وذهنيته.
وعلينا ألا ننسى، أيضا، بأن الأصل في الأختلاف بين نظم قصائد الهايكو ليس النص بعلاماته التي قد ينظر إليها بصفتها جوهرا موضوعيا، وإنما يرد إلى إلى ما أمتازت بوصوله الذوات إليه خاليا من التبديل والتحريف والزيادة والنقص، التي يفترض فيها أنها مختلفة وأنها جوهر ذاتي متعدد، وأن كل “هايكو” يكشف في النص الذي يكتب فيه عن معنى غير متوقع، وهو ما ينعكس مباشرة على الفكر، أي على الفلسفة التي تتغذى عليه الهايكو، لميزته المرموقة هو الأشغالات اللامتناهية لحظة بلحظة، وفقا لما يتغلغل ويسود الحواس الواقعية من مصادر الحياة اليومية، أما التجريد والتعميم فهو مطلق الغياب.
تسعفنا نظم قصيدة الهايكو في تخطي ذاتنا وعالمنا، وفي الخروج إلى عوالم أخرى ما كان لنا نطلع عليه إلا بإتقان لغاتها جميعها؛ في الدلالة للتواتر وتاريخ الهايكو نفسه. ويسمح تعدد المبدعيين وكثرتهم في تيسير المهمة التي يمكننا من الوقوف على الفلسفات وفنون ومعارف وغيرها كانت ستظل في حكم المجهول بالنسبة إلينا. والأكيد أن المبدع يقدم من خلال نصه الشعري قراءته الخاصة للنص مرحلة نضج الأصل والكمال، وهي إبداية بيانية لغة تخاطب القوب والعقول معا، ادخرها أصل الشيء، حتى بلوغ الحواس مرحلة بدء النشأة ونمو الكمال ونضجه، وازدهار الجمال بفهمه، أي نصا مختلفا بالضرورة، ما يعني أنه يبسط أمامنا أختلاف قراءته عن قراءة الآخرين بالضرورة، وما يفيد بأن النص المكتوب لا يوجد إلا في الصورة البلاغة التي هو عليها في لغة الوصول، وأن لا مثيل له خارج ذاته.
طوكيـو ـ 09.02.22
أشهر شعراء الهايكو الياباني
ماتسو باشو:
واسمه الأصلي ماتسوو مانوفوسا عاش (1644-1694م) وهو شاعر ياباني، ومعلم شعر الـهايكو الأكبر (المعلم الأصل)، وكان أيضا بارعا في شعر الهاربون (النثر الياباني). رفض باشو أن يعلن انتمائه إلى أي من المدارس الشعرية بل نسبه له،ولم يترك ورائه أي مصنف في هذا الفن، وقام من بعده بعض الذين أرادوه بتجميع أهم أعماله، ومن أهمها «الدرب الضيق في أقصى المعمورة» ،ولا زالت هذه الأعمال مرجعا للشعراء الذين يبحثون عن كيفية التعبير عن شعور مميز و فريد، أي موضوع عام أو صورة طبيعية في ثلاثة أسطر فقط.
كرس باشو السنوات العشر الأخيرة من حياته يرتحل ويتأمل بالطبيعة، فتنقل في أرجاء اليابان، كان باشو يقطع تلك الرحلات بفترات طويلة يخصصها للتأمل، وقد توفي أثناء إحدى رحلاته، وقام في الليلة الأخيرة بخط بيت «هايكو» على إحدى الأوراق :
مريض وقت ترحالي
وأحلامي تتجول طافيةً
في الحقول الذابلة
– إحدى أشعاره:
.- البركة القديمة
تقفز فيها ضفدعة
صوت الماء
.- على جانب الطريق
أزهرت نبتة.. قضمها
الثور
كوباياشي ايسا:
يعتبر واحدا من كبار الشعراء في الهايكو الياباني (1763-1827) وكان رساماً أيضا، ماتت أمه في سن الثالثة لذا كان جوالا في الحقول منذ طفولته، بسبب مشاكله مع أبيه وزوجة أبيه غادر ايسا المنزل إلى مدينة أخرى بطلب من أبيه.
– إحدى أشعاره:
يذوب الثلج
القرية فاضت
بالأطفال
· عارياً
على حصان عارٍ
في مطر منهمر
· في هذا العالم
نمشي على سقف جهنم
محدقين في الأزهار
· يوسا بوسون :
ولد بوسون في إحدى ضواحي أوساكا، ثم انتقل الى طوكيو لدراسة الرسم والهايكو، حيث تتلمذ على يد هيانو يوجين الذي كان بدورة من مريدي الشاعر الكبير باشو.
إحدى أشعاره:
أربعة أو خمسة رجال
يَرْقصُون في دائرة
أوشك القمر أن يسقطَ فوقهم
· في هذه الدنيا الزائلة
هي أيضاً
لها عينان
الفزّاعة
· ناتسومي سوسيكي:
ويعتبر أشهر كاتب روايات يابانية في فترة ميجي، كان أيضا باحثا في الأدب البريطاني، ومؤلف شعر هايكو، وشعر صيني، وقصص خيالية، استخدمت صورة سوسيكي على ورقة 1000 ين ياباني في الفترة بين عامي 1984 و2007.
إحدى أشعاره :
تهزُّ نجومَ
ليلة الربيع، فتسقط
وترتديها لامعة في شعرها
· كيوشي تاكاهاما :
كان شاعرا يابانيا نشطا خلال فترة شوا في اليابان، كان اسمه الحقيقي تاكاهاما كيوشي، شاعر هايكو وروائي وناقد ادبي.
أحد اشعاره :
سَوْط الرّيح
يجفّف
الصخور
. ازدهر أدب الهايكو في القرن السادس عشر بفضل الشاعر المعلّم «ماتسو باشو» وتلاه «يوسا بوسون» ثم «كوباياشي إيسا» وكثر غيرهما، وعلى هذا الازدهار في القرنين التاسع عشر والعشرين بدأ الهايكو يتجاوز حدود اليابان ليصل إلى أميركا وأوروبا ودول الغرب. فتمت ترجمته ومن ثم تمّت كتابته وتطويره للاستغناء عن عدد المقاطع الصوتية اليابانية التي قد لا تتناسب مع باقي اللسانيات والصوتيات في اللغات الاخرى، ثم بعد تعدد الترجمات لهذا الأدب الياباني، سواء إلى الإنجليزية أو الفرنسية أو اللاتينية، ووصل الهايكو في منتصف القرن العشرين إلى البلاد العربية عن طريق ترجمة نصوص منه إلى اللغة العربية.
—–
عندما تتسخ الايادي- هايكو للشاعرة اليابانية موموكو كورودا- Momoko Kuroda
ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال
(1)
كانون الثاني
من السهل أن تغدو الايادي
قذرة و كامدة
(2)
وميض البرق
يطغي عليه اللون الأخضر
بعيدا عن الحقل
(3)
الحرارة الحارقة
لصندوق البريد في مزار شينغو *
في شهر أيلول
—————
* شينغو : قرية في ( آموري ) اليابانية , تضم مزار السيد يسوع المسيح عليه السلام بحسب الفلكلور المحلي .
_ ( موموكو كورودا). شاعرة هايكو يابانية رائدة , و كاتبة مقال. ولدت في طوكيو في 10 آب 1938. تأثرت بـ( ياماغوتسي سيسون) ( 1892 – 1988 ) . منحت العديد من الجوائز , منها : جائزة ناتسوكوسا 1975 , جائزة الهايكو الخامسة لافضل موهبة جديدة 1982 , جائزة ناتسوكوسا 1986 , جائزة جمعية شعراء الهايكو ( ايشوبوكو ايسو ) 1995 , جائزة نوبوكو كاتسورا الأولى ( 1914 – 2004 ) 2008 , و جائزة داكاتسو الخامسة 2010 . للمزيد من الاطلاع , ينظر :
I Wait for the Moon : 100 Haiku of Momoko Kuroda , Stone Bridge
Press , Translation edition , 2017 .
: مترجمة عن الإنكليزية
1 – Momoko Kuroda – haiku poetry – Red Dragonfly . https : // haikuproject . worldpress . com
2 – Kuroda Momoko , born in … – Japanese Haiku … . https : // www . facebook . com
3 – Kuroda Momoko – Introducing Haiku Poets and Topics … . https : // wkdhaikutopics . blogspot . com