بالرغم من بلوغها السبعين سنة، الّا انها ما زالت لا تعرف مصدر كل هذه الأحلام والهواجس التي لا زالت تأخذ حيزاً كبيراً من ذاكرتها الهشّة. شيء غريب يفصلها عن افراد اسرتها. منذ أن مات زوجها قبل خمس عشرة سنة وهي تنصت إلى هذه الأصوات التي تشبه رفرفة اجنحة الخفافيش بين جدران الكهوف المظلمة. كلّما تذكرته عصر ذلك اليوم الخريفي العاصف ينعصر قلبها، وتتمنى لو انّها فهمت ما الذي حدث له قبل أن ينتشله الموت ويأخذه بعيداً عنها، وما الذي كان يريد أن يخبرها في تلك اللحظات العصيبة، عندما كانت شفتاه تتحركان بصعوبة وعيناه تحدقان بذهول كأنّه يبصر كائناً من عالم آخر، ربما لو فهمت لم تأخذها العزلة لهذا الحد المخيف جداً. لم تزل تتذكره حينما عاد للبيت مفزوعا يتصبب عرقاً ورغم ذلك قال لها بعد أن ارتمى على السرير
-غطيني بسرعة أرجوك، لقد رأيته اليوم.
– رأيت من؟
قالت له لكنّه ظلّ يرتجف كالسّعفة وينز عرقا ويهذي كأنّه لم يسمعها. وضعت رأسه في حجرها وحاولت أن تهدئ من روعه لكنّها لم تستطع. وقبل أن تنهض كي تنادي بناتها الأربع مات تاركا قلبها يخفق بسرعة شديدة جداً ولم يتركها المرض بعد ذلك ابداً. الأفكار الكئيبة والحزينة التي تكسر جدران وحدتها لتطلق أسوأ مشاعرها من خلال البكاء المرّ. كراهية الذات ومعاقبة نفسها على أخطاء ربما فعلتها او لم تفعلها في السابق. الهواجس القاتمة لأهميتها في العالم. الحزن العميق الذي كلما حاولت ان ترتقي به إلى المستوى الذي ينبغي أن تكون فيه تشعر بالفشل. وتستمر الحياة جالبة معها أضعف همسة أمل. من أجل الخروج من الفتحات المظلمة ألقت بنفسها في بئر الذكريات ولم تعرف كيف السبيل للخلاص من كل هذا الزخم من الصور القديمة المرّة. (هل أستحق حبه؟ هل تركت نفسي في الحضيض؟) همست لنفسها بينما يدور كل هذا في رأسها ليظهر لها وجه ذلك الشاب الانعزالي الحزين الذي لم تعرف أين رأته ولماذا ينقبض قلبها كلما حاولت أن تتذكره. تغمض عينيها فتسمع صوته الذي يشبه صوت عمها الذي كانت تخاف من هيبته فتختبئ بعيداً عنه كلما أتى لزيارتهم بعد موت أبيها. خلف جدران قاعات الجامعة كان يجلس وحيداً يقرأ اشعار محمود درويش. كم كرهته في البداية عندما تجاهل جمالها أو هكذا تصورت. لكنّها رغم ذلك اجتاحت عزلته وفرضت نفسها عليه. أمضت وقتاً طويلاً وهي تشرح له بانفعال شغفها وحبها للقراءة، ثم استعارت منه رواية بيروت 75 لغادة السمان لتفاجئه في اليوم الثاني انها قرأتها بجلسة واحدة. البرد القارص يتغلغل في جسمها، والغيوم الكثيفة ترسم اشكالاً جميلة في السماء، ربما كان ذلك في أحد أيام كانون الثاني. يستمر هذا التشتت بين النسيان وعدمه، تاركاً فيها خوفاً كبيراً، بل في بعض الأحيان رعباً يهز كيانها، عندما تفكر للحظة انها قد اقتربت من نسيان كل شيء. (ترى كيف سأكون عندما أنسى الأشخاص الذين أحبهم، الأماكن التي امضيت حياتي فيها، كل الأشياء من حولي، أنسى نفسي وعندما أقف امام المرآة لا اعرف من تلك الواقفة أمامي في المرآة تحدق بي بخوف وتوجس؟ يا ألهى ما هذا الكابوس) أسئلة تحاصرها ولا تستطيع الهروب من تأثيرها السيء في نفسها المسكينة. ألم المرض الذي رافقها خلال السنتين الأخيرتين حتى وصلت الى ما هي عليه الآن. لا تستطيع النهوض من سريرها الّا بمساعدة من احدى بناتها او احفادها. في بعض الأحيان تلهمها الذكريات للاستمرار في العيش داخل اللحظات الحميمية الرائعة حقًا، التي عاشتها في صباها بحيوية تفتقدها الآن وتتمناها لكنها ذهبت مع الرياح الباردة الكئيبة. يظهر لها مرة أخرى لكنّه هذه المرّة قريب جداً، يلامس وحدتها ويحدثها عن حبه لها متمنياً أن يرافقها الى العالم الآخر فتبتسم رغم المرارة التي تشعر بها. يمسح على رأسها ثم يخبرها انّه أتى اليها كي لا تبكي مثل طفلة فقدت أباها. تبكي عندما تتذكر تلك الأوقات الجميلة التي كانا يمضيانها معاً خلف اسوار الجامعة. فأخبرته رغم ثقل مرضها ان أكثر ما يحزنها في هذه الأيام انّها قد أصبحت عبئاً على الآخرين وخاصة بناتها الأربع.
التف حول فراشها بناتها وازواجهن وكل احفادها، تبصرهم الواحد بعد الآخر قد خيم عليهم الحزن وبين فترة وأخرى يرتفع بكاء أحدهم. ولا تستطيع أن تخبرهم عن كل هذا الألم الذي يفتك بكل جزء من جسمها المبتل بالعرق. كلّما اقترب منها الموت تتذكر زوجها عندما كان يحاول أن يكلمها لكنّه لم يستطع. الآن فهمت ما الذي كان يريد أن يقول لها. فهمت بوضوح تام جداً لكنّها الآن تواجه الرّعب نفسه الذي واجهه قبل أن يموت. وعندما كانت تودعهم بنظراتها للمرة الأخيرة رأته واقفا بينهم، الشاب الحزين الذي أحبها ولم يمتلك الجرأة كي يخبرها بحبه عندما كانت لم تزل شابة جميلة جداً. لكنّه هذه المرة كان مبتسماً، لا أحد يراه غيرها، اقترب منها جداً حتى احسّت به قريبا جداً منها. مدّ يديه اليها كأنه يريد أن ينتشلها من براثن الموت ليأخذها معه حيثما كان. رأت نفسها ترتفع معه للسماء بعد أن اعطته يديها ناسية كل ذلك الألم والحزن الدفين. تاركة جسدها ممدداً بارداً على السرير دون حركة.
(جدي لقد حان الوقت كي تنام) أيقظه صوت حفيده المحبوب. رفع رأسه من بين رجليه فتلاشت كل الخيالات التي كان غارقاً يتأمل فيها منذ ساعات. ساعده حفيده على النهوض وأخذه الى السرير وهو مستند على كتفه. ابتسم بعد أن تمدد على السرير وهز رأسه قائلا لنفسه ما هذه السذاجة التي كنت بها قبل قليل. أغمض عينيه شاعراً بدفء الغطاء، وراح في سبات عميق.