بهذه القصيدة، تطلّ الشاعرة العراقية أفياء أمين الاسدي وهي تصف عند مطلعها الغربة من منظار حبّ معتق، فاغترفت من خزين الشعر لديها كي تقف على أطلال عشق قديم واستضاءت بقنديل يكاد أن ينفد زيته ، واستجمعت أشلاء ناي مهشم لتولد قصيدة من رحم العدم حيث تحلق فوق اللا مكان ، قصيدة مطلعها يحاكي المشاعر العميقة كما رصته سابقا ، تخاطب من ظلمتهم الحياة ومن جحدتهم القلوب ومن سكنتهم الانكسارات ، كما هي عادتها وهي تحمل ضمادها في حقيبة القلب لتحاول مداواة الجروح ومداراة الأنفس التي تكتم الآلام العظام :
لكُم ألملمُ هذه الدلالات
أيها المتكسّرون،
الداخلون من بوّابة هيروشيما،
الماكثون خلف الباب،
حاملو شبكة صيد الأيام،
الحاكمون على المرارة بالأغاني،
والمحكومون بجَلدِ ضمائركم الهشّة،
يا من تهدهدون التصحّر في قلوبكم ..
في هذه القصيدة ، التي تعد قطعة أدبية عميقة بحق ، ستكتشف أن من أصعب الصعاب الخوض في البديهيات ، أن تنسلخ عن المتعارف عليه وتكون قمرا لا يقيدك مدار ، وصورة تمزق الحصار والإطار ، ان تتساءل في المألوف فتصيب الدهشة كل من حولك ويتساءل مع نفسه عن عدم غوصه في أعماق هذا المألوف ، وكيف فاته سبر أغوار الثوابت ليكتشف أننا نحن الثوابت الواهمون ، وكل ما حولنا يتجدد ويتغير رغم ثبوته في أذهاننا كحقيقة مجردة .
فالنص الشعري يبحث دائماً عن فضاءات الرؤيا , تعينه مساحة المقدرة الشاسعة في اللغة حد الموهبة فيها ، لأنَّ الشكل وحده لا يمنح الشعر البقاء أو الحياة .
والشاعر المتمكن – بطبعه – يحاول أن يقبض على اللا محدود من الكلمات , لذلك يكاشف اللغة برموز يعرفها هو , مخافة ضيق الدلالة , فهو يتذوق ما يمكن أن ينقله للقارئ بعاطفته المليئة بفيوضات التجلي إلى عالم آخر زاخر بصور نادرة ، وتساؤلات تحمل الدهشة والجمال والرشاقة والإجابات الساحرة ، مثل قولها :
لا حاجةَ للريح بطرق الباب،
هناك نافذة من المخمل ،
مطرّزة ببصمات ليد الذكريات،
ومثل كلب مطيع تحني رأسها،
احذروا أنْ تحدّثوها عن سطوةِ الأمكنة،
أو بأسِ العطور ونفوذِ الكبرياء،
إنها تختار المكان،
لكنها لا تختار ما تلعنه،
فتضرب كلّ ما تمسّه يدُها،
وأنتم أيها الذابلون في عمق الليل،
الذائبون مثل نيّة في العرفان،
الناحلون مثل خيط في سمّ الحياة،
رافعو القناديل ،
المشعّون من الداخل،
الذين تُربّت الحياة على أكتافكم.
إنَّ قراءة عميقة لنص الشاعرة هذا ، تشترك فيه رموز وتأويلات عدّة , منها كشف المخبوء , وترميز المكبوت , المتمثل بالآخر المحتفي بحمولات عدّة دالّة على تصورات خيالية , ومثل هذه اللغة الرامزة هي التي تمنح النص فرضية التنوّع الجميل ، التنوع الذي لا يدع تسربا لقطرة من ملل ، بمضمرات خفية زرعتها أفياء امين الأسدي في بطن القصيدة , الأمر الذي يدعو القارئ لأن يقف طويلاً عند كل بيت .
فالكشف عن المعنى لا يقل أبداً عن كونه استنفاراً لطاقة المتلقي الذي يربط وعيه بمدركات عالية ، قد تبلغ منحى (الما ورائية) وبشغف إنساني واضح لا يخفى على طفل صغير يتوق للّعب والحنان، أو طاعن في السن يشتاق ليد حانية تعينه على مبارحة كهفه الداكن المعتم ..
كلمات مثل : أحجية النوم، مفاتيح السكينة ،وسادة القنافذ، جرأة الإيمان بالأشياء لا القوالب الدينية الجاهزة،بالإنسان في النهاية ، غايتها الكبرى العظيمة ، بالمنظور لا الخفي المستور الذي يتستر بالتكهنات ، ليتحقّق كشف النص ولذّة معانيه عبر فلسفة الاستقراء وعدم اليقين بشيء حتى تجربته ، فلسفة ليست بالمنحى البرغماتي الذي قد يتهم بالإلحاد ، فالرب عندها واحد أحد ، هو الخالق الصمد الذي لم يُخلق والموجود بذاته ، لكنها تؤمن بالعقل الذي يقف عند كل شيء مدققا، مسجّلا، محصيا ، مجربا، صانعا ومبدعا :
إنني أجمعُ لكم قطعَ الوعي؛
لتحلّوا أحجية النوم؛
وتجدوا مفاتيح السَكِينة ،
حدّقوا الآن وأخبروني؛
أيُّ خرابٍ تفشّى فيكم؟
على أيّ وسادة من القنافذ غفوتم؟
حول أيّ مسرح جريمة كتبتم : ممنوع الدخول؟
أخبرتكم أنّ الريح لا تطرق الأبواب،
أخبروني..
كم عصفورا أطعمتم هذا الصباح؟
هل أعطيتم لطفلٍ حلوى؟
لِمَ لمْ تسقوا زهرة العتَبةِ لجاركم الضرير؟
أو تغطّوا دقيقَهُ بمظلّة؟
كيف لم ترفعوا الخبز
من على الارض إلى جانب الطريق؟
أنا لا اؤمن بحرام الأديان،
أؤمن بالأشياء،
بأنسنتها..
بحُرمةِ آلامها،
حُرمةِ الإنسان فيها ، وفيّ،
كلنا حيارى في هذا العالم المرعب،
وكلّنا مذنبون ،
لأننا لا نجازف باللاشيء ؛
ونخاف الأحاديث ؛
لذلك ..
نحن مجبولون على التدلّي،
مثل كيس عالق بسلكٍ شرّير .
أخبروني
طمئنوا قلبي ..
بحقّ ما تبقّى فيكم ؛
هل رأيتم أيّ حقيقة تمرُّ من هنا؟
إن الذي يدعو للغرابة ,هو أن الشاعرة وكلما اقتربت من ذاتها , تنكّرت لها , حتى تنال حظّها من الفرادة والسمو في القصيدة , ويبدو أنها أدركت طريقها , وأعلت من قيمتها الشعرية , بعد أن علمت أن عدم الخضوع والركون إلى الواقع , هو في جوهره , انفتاح للفكر , واتساع لأفاقة الدالّة على التثمير .
ومن هنا ، تبدو القصيدة عندها إرثاً روحياً ترسّخَ فيه ذلك الصراع القائم بين الأنا والآخر , الآخر الذي يتداخل مع ذوات أخرى بقصد تهميشها . ويفترض منّا هذا التأويل , أو الظن , علاقة متبادلة بين التابع والمتبوع .
وبناءً على التأسيس , يمكن لنا أن نفهم دلالة القصيدة عند الشاعرة , على أنها نتاج تغيير وخلخلة في العلاقة بين طرفين يحكمها منطق الشوق الذي لم يثبت على حالة واحدة .
وفي مناخ هذا القصد , يصبح الفهم لدينا , انبثاقاً من تجربةٍ ذاتية روحية مفادها الوصول إلى تصوّر جديد للبحث عن الذات الضائعة بين الباطن والظاهر , والثابت والمتحوّل, عبر أفكار تحاول أن تغيرّ الواقع المفروض , وتطابقه مع واقعها هي , فتتخيّل شيئًا خارج دائرة الواقع المحسوس , بدءً من الخارج ( المكشوف ) وصولًا إلى ذلك المخبوء الذي تطويه اعمق ثنايا القلوب.