كل شيء حدث ببساطة جداً. لم أجد تفسيراً يقنعني ويجعلني أتصرف بواقعية، الأمر كلّه محيّر. في الصباح بعد أن انهيت فطوري مع زوجتي وابني ارتديت ملابس العمل ثم وقفت أمام المرآة مثل كل يوم أرتب ملابسي وهندامي قبل أن أخرج. لكن اليوم عندما رأيت انعكاس صورتي في المرآة أصابتني الدهشة، كأنني أرى نفسي لأول مرّة في حياتي، اجتاحني شعور بالوحدة والغربة من كل شيء، وقبل أن يحاصرني السؤال (من انا؟ ولماذا انا هنا في هذا المكان بالذات دون أن أكون في مكان آخر أو في زمان آخر؟) امتدت يد غليظة جداً سحبتني للداخل، في المرآة. وجدت نفسي مسجونا لا أستطيع الحركة. مقيداً بسلاسل وهمية لكنها ثقيلة جداً. حاولت أن أصرخ، أن أنادي زوجتي، ابني، لكن صوتي لم يخرج. مرّتْ الدقائق ثقيلة كأنها الدهر، أنتظر وأتألم وأنصت لصوت حركة بندول الساعة الجدارية الذي صار كمطرقة تدق رأسي وتهشم ذاكرتي. أخيراً أتت زوجتي، وقفتْ أمام المرآة تمشط شعر ابني بحركة سريعة خوفا أن يتأخر عن باص المدرسة. ولأن صوتي كان مكتوما وحركتي مقيدة، انتظرت أن تراني كي تخلصني من كل هذا، لكنها تركتني في دهشتي وحيرتي. ربما لا تريد لأبني أن ينتبه لي فيراني بهذا الموقف المخيف، وربما لم ترني لحد الآن، لكنها أكيد سوف تعود مرة أخرى. غمرني الفرح عندما رجعت ثانية، وقفت أمام المرآة، تكمل زينتها وتمشط شعرها. منتظراً أن يصيبها الفزع عندما تراني وتبدأ سؤالها عن غرابة وجودي في المرآة جامداً كتمثال شمع في متحف قديم. لكنها تركتني دون أن تشعر بوجودي، ودون أن يصيبها الحزن لأجلي ولا لما حدث لي اليوم.
بقيت وحدي أصارع الكثير من الأفكار الغريبة التي تسبح في رأسي محاولاً الوصول للخلاص من هذه القيود التي تشلّ حركتي وتجمد لساني. خيّم السكون على المنزل بعد خروج زوجتي وابني. بدأ اليأس يزحف اليّ ببطء كأفعى رقطاء فوق رمال ساخنة فتملكني الرعب. وكلما تقدم الوقت أكثر تزداد الرجفة في كل أنحاء جسمي. لكن الذكريات أحاطتني من كل جانب وتذكرت أحداث قديمة جداً كنت قد نسيتها وتلاشت في العدم، لكنها اليوم تعود لتثبت لي كم كنت شريراً عندما كنت صغيراً بعمر ابني رغم انّي كنت من المجتهدين. لا أدري لماذا ظهرت لي صورة ذلك التلميذ المسكين الذي كنت أضحك عليه وأسخر منه كلّما تكلم وتلكأ بالكلام. كانت الكلمات تخرج من فمه ناقصة فيشعر بالحرج الشديد ويبدأ بالتأتأة وفي النهاية كان يذهب الى بيتهم يبكي.
شعرت بالجوع والعطش، وسيطرت الرجفة على أطراف جسمي، لم أعرف ماذا أفعل ولا كيف أواجه كل هذا الألم. حزنت كثيراً وتملكني الذل وأنا تحت سلطان هذه القيود الغير مرئية. أمضيت الوقت في البكاء ومواساة نفسي. وكلّما تذكرت موقف قديم يعكس مقدار الشر الكامن في أعماقي يزداد بكائي وندمي من كل ما قدمته للآخرين من اذىً. تمنيت ان يسامحوني جميعاً وأوّلهم امّي وأبي الذيّن ماتوا غاضبين مني.
أخيراً عندما فكرت بأني سوف أموت هنا وحدي دون أن يدري بيَّ أَحدْ، بعد أن أنهكتني الذكريات القديمة والتي لا مجال الآن لإصلاح ما عملته أو طلب المغفرة من كل شخص ناله حصّة من الشر المتأصل في نفسي. أحسستُ بقوة تسري بجسمي، بدأت من أخمص قدمي وحتى نهاية رأسي أنستني الجوع والعطش، واندفعت بكل قوتي خارج المرآة محطماً القيود التي كانت تشدني دون أن أراها. تهشمت المرآة وتناثرت شظاياها في أرجاء الغرفة. رأيتُ نفسي مرتميا بجانب السرير بين شظايا المرآة خائر القوى، لا أستطيع النهوض. أتت زوجتي مسرعة، انحنت علي وساعدتني على النهوض. اجلستني على السرير ثم رفعت اقدامي بحنان ذكرني بأمّي. وقبل أن تضع عليّ الغطاء سمعتها تقول: –
– ها أنت ثانية تكسر المرآة.