لكي ترصد شعر ناظم الحمداني ، فالأمر هنا يحتاج ادوات خاصة بالرصد ، المعاول والازاميل ومجارف الكلمات لا تشفع لاستلال دلالات النقد تلك ، فالكلمات خابية تتستر بظلها لاسيما وهو يغّلب رصدا لطالما يتوارى خلف شخصه / اربعة وعشرون نصا ضمها ديوانه وباكورة اعماله (اخيرا تنفس النخل) الذي قدمه الشاعر (مهند عبد الواحد العلي ) مستهلا مقدمته بتأكيده على عزلة الشاعر التي قرنها بانعطافة شعر الحمداني من مدرسة احمد بن الحسين الى السياب ، الامر الذي يضع غشاوة امام بوصلتي القاصرة بعد ان تقفز ثيمة الاغتراب شاخصة في شعر الحمداني ، ولا اقول الغربة التي تستعمرنا جميعا بكل ما تمتلك من سطوتها / لا اتكئ على المقولة او التعريف التقليدي للاغتراب على انه حالة سايكواجتماعية تسيطر على الفرد سيطرة تامة فتجعله غريبا بعيدا ، فلعمري انه تعريف لا يرقى الى ما يعتمل في دخيلة الشاعر من مخاض الحدث وتجلياته ، استدعاءاته / اعتمالاته / ارهاصاته .. ففكرة الاغتراب الآن تسيطر على الادب الحديث ، كما سيطرت على واقعه الاجتماعي ، فهي ظاهرة انسانية متعددة الابعاد ، وازمة معاصرة كونها تؤكد على تمركز الذات والالتصاق بها وشعور الشاعر بانفصاله عن الجوهر الاجتماعي ، وما يحتمل على التشتت والغموض والابهام وفي مختلف مناحي الحياة .اعتقد هنا ان الامر يتحدد بالشعراء كنتيجة طبيعية في تعدد مصادر الفلسفة والفكر ومناهل المعرفة المتعددة . وبالمناسبة هي غير ظاهرة الاغتراب التي تتحدد باقتلاع الفرد جذور المحيط وانتقاله الى بيئة اخرى ، فاغتراب هيجل حدده بتفسير غرائبي انحصر بالحياة المتحركة بالأموات والصدام بين ما هو ذاتي وواقعي ، وهو غير اغتراب ماركس الذي تحدد بالتفسير الاقتصادي ومعالجة النشاط الانتاجي وكل ما له علاقة بالعمل والانتاج او ما اسماه بالعزلة الاجتماعية ، لكننا نجد سارتر يجعل في الوجود والعدم الاغتراب اغترابا عن الذات الموضوعية اي ان نظرة الآخر تجعلني اشعر بموضوعيتي اي وجودي كما يراه الآخر ، وهو ما يختلف عن تفسيرا وتأويلات النفسانيين وهم يضعونه في مربع التصدع النفسي / اعتلال الشخصية / العزلة / عدم الاندماج النفسي والفكري ..
قد اعزو ذلك الى علاقة ناظم الحمداني بالشعر والتي بدأت قبل ما يزيد عن عشرين عاما ، وهنا اقفز الى البعد الفردي والجماعي الذاتي والموضوعي لتكون مهيمنة الضياع / الحزن / الالم قائمة في مرحلة ساد بها الاستلاب / الانغلاق/ القهر /التسلط .. وهي مرحلة كانت ابرز احداثها تتحدد بالحروب والقتل والدمار والحصار والدم .. اذن هذا الاغتراب تباركه بواعث متعددة مرهونة بالمهيمنة الاوليغاركية / الاستبدادية التسلطية / القمعية / القسرية .. قد يطارد الشاعر هاجسا لطالما الف له ولقومه هاجسا آخر ، او عقدة جمعية اخرى ، فتتأرجح روحه هنا بين التحدي والاستجابة ، وهو يلبي ذلك النداء الخفي او يتجاهله ، اذا ما سلمنا انه يؤلف لسان حال قومه ، هنا تبدأ عقدة النكوص ، او مركب الشعور بالإثم الذي دفع اغلب الشعراء ضريبتها ، فخضعوا لغربتهم قبل اغترابهم ، مع ملاحظة ان الغربة التي اعني لا تنتمي الى غربة مالك بن الريب ، او ابن زريق البغدادي او بعض اصحاب الواحدة ، انها غربة تتمثل بضريبة الاذعان التي دفعها الشاعر ولو بصمته .
خبر ناظم الحمداني دروب الشعر قديمة وحديثه ، وخاض غمار المدرستين ، وهو ما افصح عنه ديوانه المذكور الذي جمع بين لونين من اجناس القصيدة او اكثر ، ولكنه لم يغفل هنا انفتاحه على القصيدة الحديثة ، وذاك هو حال اغلب الشعراء ، حتى ان بعض نقادنا يؤكد ان عود الشاعر الحقيقي لا يستوي ويستقر اذا ما لم يمر بالقصيدة العمودية ، وتحول الى غيرها . اذن فالشعور السائد في تلك الفترة هو شعور بالانفصال النسبي عن الذات والمجتمع ، او كليهما . نعم ، تأكدت تلك الغربة بعد الانعطافة التي حققت قيمة الاغتراب الحقيقي ، وبعدما تفاجأ الشاعر بتواطؤ المخلص المنقذ المهدي السياسي الذي استكمل ضحكة القدر ، فقدم اغترابنا هذه المرة معلنا غير متوار .
نماذج :
(هذه الارض ليست لنا يا جعفر ) / (لم ازل احفر في الشهور والايام) / ( انا من انا من اكون ) / ( هناك على التل سأفترش الرملة) / ( ما تبقى ملكنا انكسار الروح في غيبوبة الذكرى ) / ( وحيدا اراك نبيا غريبا ) / ( وجهه ذو الغضون نافذة لزمان مضى ) / ( تستبق الاحزان خطواتي استباقا) …