عرفنا سعيد الغانمي باحثا ومحققا ضليعا في التراث والمخطوطات من خلال العديد من مقالاته وكتبه المنشورة وكذلك مترجما حاذقا يشار له بالبنان .. رغم أن هذا النوع من الاشتغالات يتطلب مجهودات كبيرة في البحث والقراءة الموسوعية والدراسات العميقة والتحليل والاستنتاج إلا أن الغانمي آثر على نفسه إلا أن يكتب مايخصه سردا أو شعرا وفعل ذلك بذكاء حين استثمر اشتغالاته كلها ليبني عليها سردياته الخاصة فيخرج إلينا بمتعة مختلفة في القراءة بكتابه الذي صدر عن (دار نشر الرافدين بواقع ١١٩ صفحة في آب ٢٠٢٢) تحت عنوان( أبعد من واق الواق.. أقرب من حبل الوريد ) والعنوان يكشف لنا طبيعة السرديات التي يحتويها الكتاب وكان مدخلا جميلا ومميزا أراد منه الغانمي تيسير الأمر على القاريء وقد فعلت ذلك كل العناوين الداخلية للمجموعة ولكنه جعل مفاجآتها في خواتيمها التي أضافت نكهة مميزة لها. وقد تنوعت العناوين فكانت مصادرها القرآن وحكايات التراث بالإضافة إلى الحداثة. مزج بين الواقع والخيال على طريقة الحكايات القديمة ليقول شيئا جديدا يحاكي حياتنا اليوم وبذلك هو يؤكد أن القديم هو جديد بالضرورة وإن لم نعد نؤمن بالخرافات والأساطير ولكننا لانزال نؤمن بحكمتها ونأخذ بعبرتها.
تبقى الحكايات تحتفظ بخصيصتها في امتاع المتلقي وإثارة دهشته رغم كل التطور الذي حصل على أشكال السرد وهذا ما أثبته لنا الغانمي في هذه المجموعة.. فهو على حد قوله في التمهيد ” حين حاولت إحداث بعض الثقوب بأجساد بعض الحكايات لاحظت أن التداخل بين الضروري والممكنات قد يتحقق حين نرائي بأن الخرافة جسر نسير عليه لنعبر صوب الحقيقة “ص٩
فمثلا في حكايته( كهف الحروب السبعة) يعتمد على حكاية أهل الكهف المذكورة في القرآن الكريم لينتج لنا حكاية ممتدة إلى كل الأزمنة..
” أليس من العجائب أن تفرق بيننا الأزمان والأزياء واللهجات والأهواء، لكن أن توحدنا الحروب؟ ألم نجئ للكهف من أجل الفرار من الحروب؟” ص٣٥
نجد الكثير من الحكمة في هذه المجموعة الحكمة التي تلائم عقولنا. في حكايته الأشباح في ظلمة المزرعة من حوار يقول أحد الأشباح:
_ اعتقد أن تبادل الكلمات سوف يفضي بنا إلى الافتراق
الكلام خطير جدا. الكلام نور، ونحن أشباح تخشى النور وتعيش في هياكل الظلمة.
بينما في حكايته (العثور على حجر الفلاسفة ) يكتب واصفا بطل الحكاية ” كان دائما خائفا من الجانب المظلم، لكنه لم يطمئن أبدا إلى الجانب المضيء في ذاته.”ص٧٧ الحكمة هنا تنحو نحو علم النفس لتقدم علاجا للباحثين عن حجر الفلسفة.
لا أريد أن أحرق على القاريء متعة القراءة في تناول كل الحكايات التي امتلأت بالحكمة والجمال السردي وقد يطول المقال، لذا أنتهي بالقول أن كتاب الغانمي هذا هو جهد متراكم يستحق القراءة إذ يشعر معه القاريء بالتماسك أكثر بالعودة إلى الجذور وفي ذات الوقت الإمساك بالثمار الطازجة الآن.