اولا: عندما يكون الناس في غفلة، لا يهتمون بحياتهم ولا يفكرون بمستقبلهم، ولا يعيرون اي اهتمام لمصير بلدهم، فتراهم ياكلون وينامون ويتكاثرون {كالبهيمة المربوطة، همها علفها، او المرسلة شغلها تقممها، تكترش من اعلافها، وتلهو عما يراد بها} على حد وصف امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام.
ثانيا: عندما يتحول المجتمع باكمله الى جلاد، يظلم بعضه بعضا، وياكل بعضه حق بعض، ويتجاوز بعضه على حقوق بعضه الاخر، عندها لن يكون هناك فرق بين الحاكم والمحكوم، ولذلك ترى الناس لا يبالون بهوية من ينزو على السلطة، لان كل من يقدر عليها هو جلاد انتجه المجتمع، لم ينزل من السماء او ينبت في الارض او يخرج من اعماق البحر، وربما الى هذا المعنى اشار الحديث الشريف عن رسول الله (ص) {كيفما تكونوا يولى عليكم}.
ثالثا: عندما يتنازع (الضحايا) فيما بينهم فيستغل الجلاد الظرف المؤاتي لينزو على السلطة من جديد، من دون ان يواجهه احد من ضحاياه لانهم جميعا في شغل شاغل عنه، فالتنازع ضعف كما هو واضح ومعروف.
ولقد اشار القران الكريم الى هذه الحقيقة بقوله عز وجل في الاية المباركة {واطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ان الله مع الصابرين}.
انها تشير الى ان النزاع يفشل، بضم الياء وكسر الشين، المشروع ويهدر الارادة، وكنتيجة لذلك يعود الجلاد حاكما على الناس من ضحاياه تحديدا.
لا اريد هنا ان اتحدث عن الحالتين الاولى والثانية، فبعد ان استيقظ العراقيون وحضروا بقضهم وقضيضهم في الساحة، يتفاعلون مع الشان العام بشكل يومي، تكون الحالة الاولى قد انتفت.
كما ان الحالة الثانية يمكن ان ندرجها في خانة الانقراض، اذا تذكرنا بان الشعب العراقي اليوم كله، تقريبا، ضحية لسياسات النظام البائد، ولجرائم مجموعات العنف والارهاب، التي ظلت تعاكس العملية السياسية الجديدة الجارية في العراق.
ما يبدو بالافق، هو ان خلافات الضحايا هي التي قد تمكن الجلاد وايتامه من العودة الى السلطة، وان كانت العودة هذه المرة تختلف، بالسياقات والادوات، عن المرات السابقة، ففي هذه المرة، سيستفيد الجلاد من ادوات الديمقراطية وصندوق الاقتراع، وسذاجة بعض ضحايا النظام البائد، الى جانب الخلافات التي تكاد تمزق صفوف الضحايا، للعودة الى السطة من جديد، لا قدر الله تعالى.
وان من مظاهر سذاجة الضحايا هو انهم يصدقون كل ما يقوله ايتام الجلاد ويشيعونه ضد الحالة العراقية الجديدة، لدرجة ان بعض الضحايا تحولوا الى ادوات تسوق، بتشديد الواو وكسرها، اكاذيب الجلاد، التي ينشرها ويوزعها بالبريد الالكتروني مثلا، الايميلات، فبتنا نروج لها من حيث لا نشعر من دون ان يسال احد عن مصدرها ومدى صحة المعلومات التي فيها.
كما ان من مظاهر السذاجها هي ان بعض الضحايا نسوا الجلاد لينشغلوا في بعضهم، وكأن الجلاد لم يحكم العراق اكثر من ثلاثة عقود سوداء دمر فيها كل اسباب ومقومات الحياة، ليس للانسان العراقي فحسب بل حتى للحيوان والنبات والبيئة وكل شئ.
كما ان من مظاهر سذاجة بعض الضحايا هو انهم راحوا يقدمون ايتام الجلاد على رفاق دربهم من الضحايا تحت مسميات المصالحة الوطنية والشراكة الوطنية وغير ذلك من المسميات التي يطرب لها الجلادون لانها وسيلتهم الجديدة للعودة الى السلطة.
ان تاخر تشكيل الحكومة الجديدة اثار الكثير من الخلافات بين ضحايا النظام البائد، لدرجة ان الجلاد تحول اليوم الى تلك البنت الجميلة التي يسعى الجميع لخطب ودها، ربما باي ثمن، وهذا ما يعرض كل التجربة العراقية الجديدة الى خطر كبير يهددها بالسقوط والزوال.
ومن اجل المساهمة في وضع بعض النقاط على بعض الحروف، وددت ان اشير الى الملاحظات الهامة التالية، والتي استوحيتها من واقع الحال بعيدا عن التنظير والانشاء:
اولا: ان معضلة تشكيل الحكومة الجديدة هي معضلة داخلية بالدرجة الاساس، وليست معضلة خارجية، مصدرها الاول هو الخلافات التي تعصف اليوم في صفوف ضحايا الجلاد، فلو اتفق هؤلاء على الحد الادنى على الاقل لما وصلت بنا الحال الى ما وصلت اليه اليوم، واقول بصراحة، فان حجم التدخلات الخارجية السافرة في هذا الامر يتوقف على حجم قبول او رفض الاطراف العراقية لمثل هذا التدخل، فلو كانت الاطراف الخارجية بكل اشكالها الدولية والاقليمية لم تتلمس قبولا وترحيبا من قبل الاطراف الداخلية لمثل هذا التدخل السافر، لما كان بامكانها ان تفرض او تتحدث وقد تجبر هذا الطرف او ذاك بالقبول بهذا الراي او تلك الفكرة، وهكذا، فلو كانت الاطراف العراقية ترفض بالمطلق اي تدخل خارجي لما تجرا احد على الحديث بتفاصيل الامور، لدرجة ان القمة العربية الاخيرة، وهي التي تتشكل من زعماء ديكتاتوريين يحكمون شعوبهم بالحديد والنار، لا يشركون احدا في سلطتهم، ولا يستشيرون مواطنا في خططهم، يسحقون حقوق الانسان، ويهينون كرامته، يدعون العراقيين الى تشكيل حكومة شراكة وطنية…..تصوروا المهزلة؟.
ان دول الجوار، والانظمة العربية تحديدا لا تساعدنا في بناء نظامنا الديمقراطي، لانها ترى في الديمقراطية تهديدا مباشرا لسلطتها، فلماذا نستجدي منها ما تفقده هي؟ وقديما قيل ان فاقد الشئ لا يعطيه؟ وكيف ومتى اصبحت هذه الانظمة نقطة التقاء الفرقاء السياسيين الباحثين عن الحلول لديمقراطيتهم؟ اوليس كانوا، ولا يزالون، محل التقاء الديكتاتوريات منذ تاسيس جامعتهم العتيدة ولحد الان؟ فكيف ننتظر منهم ان يجدوا لنا حلا يؤسس لحكومة شراكة وطنية او بناء نظام ديمقراطي؟.
ان من ظل يدعم النظام الديكتاتوري في العراق على مدى نيف وثلاثين عاما، بكل وسائل البقاء والاستمرار والصمود، من خلال دعم حروبه العبثية وتبرير سياساته الهمجية ضد العراقيين، وان من ظل يدعم الارهابيين بالفتوى الطائفية والاعلام المضلل والمال الحرام، منذ سقوط الصنم في التاسع من نيسان عام 2003 ولحد الان، بهدف تدمير العملية السياسية الجديدة، كيف ننتظر منه موقفا وديا لصالح الديمقراطية؟ وكيف ننتظر منه موقفا محايدا يقف على مسافة واحدة من جميع الفرقاء السياسيين؟.
ان ما اسمعه، سرا، عن زيارات (الزعماء) العراقيين لهذه العاصمة العربية او تلك، وما يطلبونه منها وما يتحدثون عنه مع قادتها لشئ مخجل، اتمنى ان لا اضطر يوما للكشف عن بعض هذه الاحاديث التي اجزم لو اطلع عليها الشعب العراقي لسحب ثقته من كل من منحه شيئا منها عبر صندوق الاقتراع.
لقد وصلت الحال ببعضهم الى ان ينم على رفيقه عند الديكتاتور، فقط من اجل ان يحظى منه بموقف يدعم اجنداته السياسية، او ترشيحه لرئاسة الوزراء….تخيلوا المهزلة مرة اخرى؟.
فيما تمادى آخرون بتقديم التنازلات لهذا الجار او ذاك، بترولا كان ام ارضا ام مالا، من اجل شراء صوته لصالح ترشيحه لتولي رئاسة الوزارة القادمة، او على الاقل لاسكاته وضمان عدم اعتراضه، بعد ان اكتشف متاخرا، وبقدرة قادر، ان لدول الجوار حق على العراق لا يمكن التغاضي عنه.
ثانيا: ان الديمقراطية، في جوهرها، التزام بالدستور، بغض النظر عما فيه من نواقص او بعض نقاط الخلاف، فالتعديل الدستوري له مجاله، اما الديمقراطية فلا يمكن ان نتصورها خارج اطار الدستور.
تاسيسا على هذا الفهم الذي لا يختلف عليه اثنان، فان اي اتفاق بين الفرقاء ياتي خارج النصوص الدستورية، او على الاقل خارج روح الدستور، سيكون باطلا جملة وتفصيلا، فمثلا:
الف؛ ان مبدا تقاسم السلطة يعد امرا غير دستوريا بالمرة، فمواده وزعت وحددت المسؤوليات بين السلطات الثلاث التي تتشكل منها الدولة العراقية الجديدة بشكل واضح لا لبس فيه، فيما اقرت مواده كذلك مبدا الفصل بين هذه السلطات، ولذلك فان فكرة تاسيس سلطة ثالثة من خلال تشكيل مجلس رابع، سمه ما شئت، يعد مخالفة دستورية صريحة وهو بالتالي يعد ضربة موجعة سيتلقاه الجهد الوطني الرامي الى التاسيس للديمقراطية في العراق.
ان مثل هذا المجلس، فيما لو تشكل، الذي سيجمع رؤساء السلطات الثلاث، تحت سقف واحد، ليداروا من قبل شخص رابع، سيؤدي الى تداخل مهام السلطات الثلاث، ويداخل بعضها بالبعض الاخر، ما يعني انه سينفي ويلغي مبدا الفصل بين هذه السلطات، وهي بداية التاسيس للديكتاتورية.
باء: ان ظاهرة الاوراق الخاصة التي يحتفظ بها ويحملها كل تحالف نيابي، واحيانا كل كتلة نيابية داخل التحالف الواحد، للتفاوض عليها مع المرشح لرئاسة الوزراء، ايا كان، يعد ايضا خرقا للدستور بشكل فاضح.
انها ابتزاز سياسي لجهود دستورية، يجب ان لا يمررها اي مرشح لرئاسة الوزراء، بل ان عليه ان يفضحها امام الملا، فلا يقبلها وان يرفض الابتزاز، ولو قبل بها احد فانه سيساهم في التاسيس لحكومة ضعيفة تولد ميتة، ان لم اقل انها ميتة حتى قبل ان تلد، وهي بعد في رحم الظروف السياسية.
ان حال هذه الاوراق واحد من اثنين:
فاما ان تكون اوراق دستورية ومطاليب حقيقية تنسجم ونصوص الدستور او روحه، ففي هذه الحالة لا ينبغي لاحد التفاوض عليها، لان المرشح لرئاسة الحكومة سيكون لزاما عليه ان يدرجها في برنامجه الحكومي قبل نيل ثقة مجلس النواب.
وفي هذه الحالة ليس هناك من داع لمناقشتها في الغرف المظلمة، وانما ينبغي على الفرقاء ان يناقشونها تحت قبة البرلمان، وامام مرآى ومسمع العراقيين جميعهم.
واما ان تكون هذه الاوراق غير دستورية وغير منطقية، ولذلك تناقشها الكتل في الغرف المظلمة وتحت الطاولة، بعيدا عن علم الشارع، فكيف يقبل بها المرشح لرئاسة الحكومة، والتي سوف لن يدرجها في برنامجه الحكومي، بكل تاكيد، لمخالفتها الدستور وروحه؟.
واقول بصراحة، فان الشعب العراقي، ومن خلال نوابه تحت قبة البرلمان، مسؤول على تحقيق وتنفيذ البرنامج الحكومي فقط الذي ستنال الحكومة الجديدة بموجبه ثقة البرلمان، اما الاوراق الصفراء التي تسعى لابتزاز المرشحين، فان العراقيين ليسوا مسؤولين عنها باي حال من الاحوال، حتى اذا وقع عليها المرشح الذي سيراس الوزارة الجديدة.
ان مثل هذه الاوراق ستكرس الديكتاتورية، وتصنع ديكتاتورا جديدا، خاصة ونحن نعلم جيدا بان المرشح الذي يقبل التنازل لمثل هذه الاوراق من اجل ان يمرر تحت قبة البرلمان، سينقلب عليها ان عاجلا ام آجلا، اذا كانت غير دستورية، وستكون حجته في ذلك قوية امام الشعب العراقي، وعندها سيكون هو من ضحك على ذقن الكتل السياسية وليست هي التي ضحكت على ذقنه، وهذا ما يكرس ظاهر انعدام الثقة بين الفرقاء السياسيين، الظاهرة التي تعتبر اليوم من اكثر الاسباب التي تحول دون عقد الاتفاقات والصفقات السياسية المعقولة فيما بينهم لتمرير صفقة تشكيل الحكومة الجديدة.
جيم: ان مساعي البعض تهميش هذه الجهة السياسية او تلك الكتلة البرلمانية، هي الاخرى غير دستورية بالمرة، لان الدستور ساوى بين العراقيين في الحقوق والواجبات، ما يعني ان من حق كل العراقي، جماعة كان ام فردا، كتلة برلمانية ام حزبا خارج قبة البرلمان، ان يمارس العمل السياسي في اطار مؤسسات الدولة العراقية بعيدا عن محاولات الاقصاء والتهميش والالغاء والتصفية والتسقيط والتهديد.
ان مثل هذه المحاولات هي التي تخيف بعض الفرقاء السياسيين فتراهم يتشبثون بالسلطة خوف الانتقام او التصفية والالغاء والتهميش اذا ما قرروا البقاء خارج السلطة التنفيذية.
ان على الجميع ان يبذلوا قصارى جهدهم من اجل العمل على تحقيق:
اولا: بناء مفهوم الدولة وليس النظام، ومن الواضح للجميع مدى اتساع االفرق بين المفهومين، فالمفهوم الاول يستوعب كل الشعب العراقي اما المفهوم الثاني فلا يستوعب الا بعض من هم في السلطة.
ان مفهوم الدولة يضم تحت جناحيه الحكومة والبرلمان ومؤسسات المجتمع المدني والشخصيات والقوى السياسية النافذة وكل من يحاول ان يؤدي دورا او ينجز واجبا وطنيا في اطار الدستور والقانون، ولذلك يجب ان يكون هذا المفهوم هو الحاكم في ثقافتنا ووعينا السياسي لنتخلص من عقدة التهميش التي تؤرقنا ليل نهار، والتي ورثناها من الماضي الاسود بسبب سياسات النظام الشمولي البائد الذي صنع نظاما بوليسيا حديديا كان فيه الطاغية الذليل هو العراق، على حد وصف ادبياته آنئذ.
ثانيا: بناء مفهوم (الشراكة الوطنية) في هذا الاطار، ما يعني ان كل العراقيين هم شركاء في هذا الوطن وفي رسم سياساته الاستراتيجية، كل من موقعه، لا فرق في ذلك اكانوا في السلطة ام خارجها؟ في الحكومة ام خارجها؟ في البرلمان ام خارجه؟ في جوقة الاحزاب الحاكمة ام حزب خارج السلطة.
دال: ان اصرار الفرقاء السياسيين على ان لا تتشكل الحكومة المرتقبة الا بمشاركة كل من هو تحت قبة البرلمان، لهو مخالفة دستورية صريحة، ادت الى عرقلة كل الجهود السياسية والدبلوماسية الرامية الى الاسراع في تشكيل الحكومة الجديدة.
لقد تحدث الدستور العراقي عن نسبة (50+1) لنيل الحكومة، اية حكومة، الثقة تحت قبة البرلمان، وليس عبثا او اعتباطا حدد المشرع مثل هذه النسبة المئوية، لانه يعرف جيدا ان الاتفاق على اية حكومة، وبالاجماع، امر في غاية الصعوبة ان لم يكن مستحيلا، واذا اقتنع العراقيون بمفهوم الشراكة الوطنية التي تعني اشراك كل من هو تحت قبة البرلمان في الحكومات السابقة، فبسبب الظرف السياسي الخاص الذي مر به العراق، اما اليوم وبعد ان حدد الناخب العراقي خياراته بشكل سليم، من خلال المشاركة الوطنية العامة في الانتخابات التشريعية الاخيرة، فلماذا الاصرار على مثل هذا المفهوم الخاطئ الذي يتناقض حتى مع الدستور وبنوده وروحه؟.
ان هناك من يسعى لاستغلال هذا المفهوم، وفي اطار طائفي ضيق ومقيت، من اجل المتاجرة بهذه الشريحة الاجتماعية او تلك، ما تحول الى سبب مباشر في عرقلة جهود تشكيل الحكومة المرتقبة، ولو بقي الجميع يصرون على تحقيق مثل هذا المفهوم الاعوج فليتيقن الجميع بان العراق سوف لن يشهد ولادة حكومته الجديدة قبل مرور اشهر اخرى، وعندما سترى الحكومة الجديدة النور ستحمل في طياتها عوامل فشلها مسبقا.
ان تشكيل اية حكومة بهذه الطريقة سوف لن يساعد على انبثاق حكومة ناجحة ابدا، وسوف لن تنجح في اداء مهامها، بل ان هذه الطريقة تعرقل سير الدولة العراقية برمتها، لانها تعتمد المحاصصة عوضا عن الكفاءة والخبرة والنزاهة في تسنم المسؤوليات، ولذلك فان الحكومة الناجحة هي تلك التي تعتمد نتائج الانتخابات بشكل معقول ومرضي، لتنبثق بذلك معارضة برلمانية قوية تسند السلطة التنفيذية في عملها من خلال الرقابة والمساءلة وتشريع القوانين بشكل منتظم، وتسعى لمتابعة عمل الحكومة بشكل جاد، بعيدا عن المهاترات وروح الانتقام والتربص لاسقاطها، كما كان الحال طوال السنة الاخيرة من عمر الحكومة الحالية المنتهية ولايتها الدستورية.