* إلى معز زيود ..
بداءة ، دعونا نتفق ، ولن يتناطح كبشان كما يقول الفقهاء ، أننا نعيش التفاهة في عالم تافه لا يؤمن سوى بتسليع وتبضيع وتضبيع كل شيء ، درجة أن هذا التتفيه أمسى خردة وبدون ملح ولا سكر ولا نكهة حتى .
وعطفا على ما سبق ، فالتفاهة تعني في قواميس اللغة ومناجدها ، الخلو من الطعم و النكهة ، وشيء تافه بمعنى حاف وعار من الأهمِّيَّة والشَّأن، وهذا يعني ان كل شيء في أيامنا تحول حامضا كما ّ المرق البائت ، ثقافيا وسياسيا وعلاميا و حتى الجسد تم ترخيصه وتتفيهه ، وكل ما حولنا يجرفنا إلى دائرة التفاهة والرخص ، وأضحت حياتنا فارغة كبئر ناشفة ، وحلوى بدون طعم ولا نكهة .
وعليه ، لا شعار الآن سوى التفاهة ثقافة مبررة وبضاعة مرغوب فيها ، ولا يسعنا سوى أن نفول مع ” آلان بو ” ، في أن ” المعركة حسمت لصالح التفاهة ، والعصر الذي نعيشه هو عصر تافه بامتياز “وأن ” التافهين ربحوا الحرب، وسيطروا على عالمنا وباتوا يحكمونه. فالقابلية للتعليب حلَّت محل التفكير العميق” .
لا شك أننا نتمشى في عالم مقصديته البحث عن المتعة واللذة والترفيه السريع والعابر ، وتجنب الالم وكل ما يوخز،فالسوق اصبحت تؤمن بالرداءة ومدى تأثيرها في نفسية المستهلكين ، إنه ” زمن القمل” ، أو” اقتصاد المشاعر ” كما يسميه ” مارك مانسون ” في كتابه ” الخراب” .
هكذا ، لم يعد مهماً أن تحب بجنون كما قيس بن الملوح ، أن تتفلسف كما هيجل ، أن تفكر بعمق وحرقة في جوهر الأشياء كما الملسوعون بالمباحث والحفريات في تجاويف الأشياء ، ولا أن تكون “مثقفاً غرامشيا ” ، ولا “مناضلاً بلعيديا ” ، لكي يُعترف بك، بل الأهم أن تكون تافهاً وسطحياً وسطلا خاويا ، وهادئا كما بقرة هندوسية .
أن تكون من دون رؤيا ،ومن دون خلفية ثقافية ، ومن دون سياسية أو إيديولوجية ، أو اهتمام بالقضايا الإنسانية الكبرى والغير الحقوقية ، فلا حاجة للإنسان المبتدأ والخبر ، ولا جدوى من الأسئلة الحارقة القلقة والمقلقة في نفس الوقت ، فالتتفيه التبضيع والتضبيع من شأنه أن يمكنك من الرقي في السلالم بسرعة مكوكية ، كي تصبح زعيما سياسيا ، أو مثقفا ” قد الدنيا “، ويمكنك من أن تحصد مئات اللايكات لقصيدة رديئة ، لأن زمن التفاهة يريد أكثر من دزينة لحفاة الشعر وعراته، ونفس حصاد اللايكات تجنيه إن كنت ممن يصنعون الفضائحية والبؤس القيمي، لأن ذلكم هو “الواعر 1” في منظومة التفاهة السائد.
نعم ، نحن نعيش في عصر التفاهة ، حيث ” حفل الزفاف أهم من الحب ، ومراسيم الدفن أهم من الميت ، واللباس أهم من الجسد ، والعبد أهم من الله” كما يرى ادوارد جاليانو، نعم نجن نعيش التفاهة، فيسمح فيه لحفاة السياسة ، أن يتحولوا في رمشة رداءة إلى نواب برلمانيين ورؤساء حكومات ، ووزراء بحقائب ولا حقائب ، نحن نعيش في عصر التفاهة ، يسمح لتافه جاهل بقواعد النحو والإملاء ، أن يغدو أميرا للشعراء ، كما يغدو كل من يضع على أرنبة أنفه نمشة أو لطخة فحم ، يملأ الوطن ويشغل المواطنين بأنه حداد ماهر، ويغدو النهيق صوتا ملائكيا تقام له السهرات واللقاءات لتوقيع ألبومه ، ويغدو كل جاهل لا يفرق بين الألف والعصا منظرا . و.. كل الاشياء غاب عنها معناها الحقيقي، انطفأ التفكير العميق في القضايا الكبرى ، وأضحى الوقوف عند الموضوعات التافهة والقابلة للاستهلاك هي القضايا الكبرى ، ومن الواجب الانخراط فيها رغم أنفك ، وأن تأكل وجبة سريعة بلا لذة ، أن تحتسي فنجان قهوتك سريعا ، أن تعود للبيت سريعا ، لتمارس الحب سريعا وكما القطط على أرصفة الشوارع أو في أنهج حالكة ظلماء ، كل شيء بلاروح وبلا حميمية .
وختاما ، يمكن القول ان السمة الغالبة والطاغية التي تتحكم في علاقتنا بذواتنا وبالعالم من حولنا هي سمة استهلاكية ، والأكثر منه ، “رأسملتها” وتكنلجتها ” و” عولمتها” و” تسطيحها ، وفي المقابل، تغييب العقل والقدرات الخلاقة ، وتحويل الكل إلى أداة استهلاكية تستمد قوتها من الترويج الاجوف للمتعة واللذة ؛ ومن ثم ، لاشيء سوى حياة مغشوشة، والنية في تحويل المواطن إلى ماركة بشرية مسجلة .
—
الواعر : العلامة