خص الروائي علي جاسم شبيب روايته الثانية ( صيد الحمام –من منشورات اتحاد الادباء والكتاب في البصرة طبعت على نفقة اسيا سيل للاتصالات ) للناشئة كما فعل في روايته الأولى ( وردة الفرح) واستثمر الرحلة واستكشاف المكان بعيون اليافعين حمزة وصديقه شهاب صاحب الأسماء المتعددة ، ويمكن عد هذه الرواية نموذجا خاصا من الروايات وليست جنسا قائما بذاته بل هي سرد يستفيد من فئة الفتيان وتطلعاتهم نحو المغامرة والاستكشاف وخوض غمار المغامرة للتعرف على العالم المحيط بهم كما انها تستفيد من منجزات الرواية كجنس ادبي له تاريخ طويل وتجارب متنوعة مطروحة في نماذجها المنشورة والمترجمة،وسوف نتفحص بنية هذه الرواية دون الدخول في تجنيسها
لقد حرص الروائي على تثبيت زمان ومكان انجاز روايته ( صيد الحمام) ليسجل مفارقة ملفتة للنظر تتعلق بالفضاء الروائي الذي احتوى شخوص الرواية وزمن الاحداث التي عاشتها هذه الشخوص نسبة الى مكان الكتابة وزمنها ، وهو امر يحتاج الى اضاءة مثمرة تتعلق بهذا الحرص ودلالاته الخفية التي تلقي ظلالها على الخطاب ومغزاه الذي أراده الروائي من هذه الرواية .
حدد الروائي تاريخ انجاز روايته ( صيد الحمام) بالشكل التالي:(الخميس 4-3-2004 المانيا –لايبزك) اما مكان وزمان احداث الرواية فكان في مدينة البصرة في احدى المحلات الشعبية التي بنيت بشكل عشوائي في زمن بعيد عن زمن الكتابة يتجاوز الخمسين عاما – منتصف خمسينيات القرن العشرين- والمفلت للنظر ان مدينة لايبزك الألمانية لم ترد في النص الروائي سوى في ذيل نهايتها ،اما احداث الرواية فقد اقتصرت على مكان وزمان تلك الحقبة البعيدة.
واذا افترضنا ان الرواية قد كتبت في فترة ما (بين 2003عامي و2004) فان ذلك يعني ان المؤلف قد كتبها في كهولته (تاريخ ميلاد الروائي 1946) محفزا ذاكرته المرئية على الاستجابة في بناء عالم الماضي البعيد مما يطرح أسئلة عن ذاكرته التي اتسعت لأحداث حقيقية عاشها واحداث خيالية مرفقة بخلفية واقعية في تجسيد المكان وزمان الاحداث،ويبدو ان تقدمه في العمر قد زاد من رغبته في العودة الى عالم الطفولة تدفعه عبارة طائفة في السرد تلخص هذا الخطاب الروائي المحتشد بالاحداث والشخوص بان رحلته كانت بحثا عن مكان فيه( كل شيء حر (….) الغزلان والأرانب تقترب منه دون خوف.) كانهانكيدو الذي لم يتدنس حين لامس الانسان.
وهناك أسئلة عن علاقة هذا الماضي البعيد الذي يسكن ذاكرة الروائي مع واقع متحرك ومتطور في مدينة لايبزكالألمانية لا تربطه اية علاقة بأحداث الذاكرة التي وردت مفصلة في الرواية.
ان الإشارة الى مكان كتابة الرواية وانجازها في التاريخ المذكور يرمز الى ان رحلة البحث التي بداها حمزة من صيد الحمام لم تنته بعد، وبقي (حمزة/المؤلف) غريبا معلقا بين سماء الطفولة الأولى وبين مكان الكهولة الذي جسد غربته الأبدية وضياع هويته بين الأمكنة الكثيرة التي جاستها قدماه دون ان تجد الملاذ الذي يبحث عنه، ليستقر جسده أخيرا في ارض سامسونك/تركيا بعيدا عن صيد الحمام بألاف الكيلومترات.
وتسرد الرواية احداثا من زمن خمسينيات القرن العشرين في مدينة البصرة عن حياة مجموعة من النساء اللائي امتهن جمع الملح من الصحراء الغربية للمدينة حيث يتجمع من المياه المالحة التي تغمر هذه الصحراء الشاسعة في الربيع وجفافه في فصل الصيف ثم بيعه في أسواق المدينة، ويسرد القسم الثاني من الرواية تفاصيل عن رحلة اليافعين حمزة وشهاب ذي الرائحة في الصحراء وتعرفهما على تضاريسها وتفاصيل معيشة أهلها فيما يسرد القسم الثالث رحلتهما الى الهور وتفاصيل تلك الرحلة ، ثم عودة حمزة الى بيته القديم في رحلة دائرية الشكل مغلقة على احداثها وقد استثمر الروائي العنوانات الجانبية بدلا من الفصول والاقسام ، ليعطي المتلقي اليافع ححرية القراءة من أي مكان يشاء فسيجد الطبيعة والشخوص في علاقة مصيرية متداخلة ،تسرد تفاصيل مقربة لعالم الطبيعة في الصحراء او الهور بعين الكاميرا يتناوب على إضاءتها حمزة وشهاب والسارد العليم.
يتصدر الرواية إهداء موجه إلى روحي والدة الروائي وخالته وهما شخصيتان تتواجدان في العالم الروائي أيضا ولهما دور في إضاءة زمن ومكان الأحداث ، وهما جزء من السيرة الذاتية للروائي التي اشتبكت مع الأحداث الروائية الخيالية والحقيقية، مما يصعب على قارئ الرواية الفصل بين العالمين ، خاصة وان الأمكنة ومعظم شخوص الرواية من النساء لها علاقة بسيرة المؤلف مثل (عيدة ،غدنه الخيرة ،وسمرة ،وزهرة ورضية إضافة إلى أسماء المكان ( صيد الحمام ، ام جذيع،جسر الرويطة، الروف العالي،وغيرها)مما يسهم في إضفاء ضفيرة متجانسة بين السيرة والخيال الذي احتضن السيرة وارتقى بها الى عالم روائي متجانس الاحداث والشخوص وهي تجسد رحلة البحث عن عالم مجهول تحاول الشخوص الروائية الوصول اليه والاستقرار في ارضه.
ان الكتابة في مكان مكتظ ومتحرك ومزدحم بالسكان ( لايبزج)، وفي زمن متقدم على زمن الأحداث الروائية (عام2004)،ثم الإهمال المتعمد لوصف هذا الفضاء، يشير الى ان السارد،/ المؤلف الضمني يجري استبدالا واختيارا مقصودا لإعلاء عالم الذاكرة على عالم الواقع المعيش حين يجسد عالما اخر مختلفا وأحداثا متقاطعة مع مكان الكتابة، ليؤسس للذاكرة فضاء محتشدا بالمشاهد المتنوعة التي تشي بسيطرة الطبيعة البكر وكائناتها بوصفها ذاتا تخضع الجميع لسلطتها سواء في الصحراء او المستنقعات المائية المعروفة في جنوب العراق بالأهوار، ليبدو المكان الطبيعي بديلا عن العالم الصناعي :عالما ينبض بالحياة ،عالما حلميا من نتاج الذاكرة.
صيد الحمام والبيت القصي
تنهض ذاكرة الشخصية، وهي تستعيد أحداث وأمكنة الماضي البعيد،بعين مقربة هي عين الصبي حمزة الذي يرى الأشياء شاخصة أمامه وينظم السارد العليم /المؤلف هذه المشاهد ليبدو عالم الذاكرة متصلا يبدا من مركز الذاكرة ( البيت القصي) الذي ( كان يقضي كلّ الوقت فيه حتى عودة والدته ) حتى العودة اليه في نهاية الرواية بتفاصيل كثيفة الحضور تحكمها الصفة الواصفة:المعزى المكللة بالشعر الأبيض الغزير.. شجرة التوت بظلمتها وبعض أغصانها عارية تلامس الأرض .تلال الملح في الحجرة الطينية الصغيرة الملاصقة لحجرة والدته ،تلال الملح , التلال البيضاء , مخروطية القمة , تخرج من قماطٍ مصنوع من قصب أصهب)، فأساً عريضة السنّ وذراعها من خشب التوت ممحيّة من وسطه ) إضافة الى ما تلتقطه عين السارد من عالم الصحراء والهور المكتظ بالكائنات والبشر.
ان احلال الصفة بديلا عن المشهد المفصل الذييظهر جليا في مواضع كثيرة في هذه الرواية ،يعني ترصيع المشهد بلوحات تشكيلية معلقة في فضاء السردالمتحركاوا لساكن، كتلال الملح البيضاء مخروطية القمة او قماط من قصب اصهب او معزى مكلله بالشعر الأبيض الغزير، وهي لوحات مقربة ومضاءة اضاءة ساطعة تخترق عدسة العين وتسكن في أعماق الذات بوصفها تجربة شخصيةـ
ومن مميزات تشكيل المشاهد واللوحات انها تضاء بالألوان المناسبة مشفوعة بالرائحة التي تواكب تجسد المشاهد وتغير الأمكنة والشخوص فالرائحة تواكب السرد المشهدي، وتغمره بنكهتها،(عندما يقترب من ضياء البحيرات الملحية ، يشمّ رائحة والدته) وعندما يتأمل شجرة التوت في بيته ي(شّم منها رائحة غريبة , كأنها آتية من هامة الشجرة)، وحين يغفو في المغارة البيضوية التي صنعها في حدبة الروف العالي يفيق ( على رائحة الماء تدخل أنفه, مزيج من رطوبة الهواء الشرقي ورائحة سمك..)
وتشيروظيفة هذا التشكيل الذي يقطع حركة سرد المشهد ويؤطره بجملة ترسم لوحة تشكيلية، مرة او جملة شعرية تضيء اعماق الذات مرة أخرى الى نزوع ،التشبث بمكان الطفولة وهي تهم بالمغادرة والرحيل عن هذا العالم المحدود الى عام مجهول اشارت اليه هذه الجمل التي تنير دربا محفوفا بالمجهول والترقب والخوف متجها(إلى فضاء الفجر) في ليلة (كانت ليلة صامتة وكانت الدنيا تنهال بتراب ظلمتها حول عينيه ) وقبل الرحيل ((\رأى الفجر الرصاصي صامتاً أيضاً)ثم يتاكد ذلك بالتكرار (الصمت شاسع مثل أشعة الشمس) وهي صورة منبثقة من احساسه العميق بالوحدة والضياع وفقدان الهوية .
وعلى وفق ذلك يرى امه واباه وخالته وزوجها على شكل ايقونات ثابتة في سماء مشاهد السرد كما حفظتها عين اليافع عبر هذا الزمن البعيد وهي لقطات ملونة للشخوص الذين عاش معهم تلك الفترة منها اقتران صورة والدته ( وضفيرتيها تتأرجحان بين يديها القويتين ،عينان مغمضتان(والفم مزموما , أزرق باهتا, كأن كلمة تيبّست على الشفتين.. بثوبها الأزرق المبقّع بزخارف على الجسد ,) ويظهر ابوه في صورة ثابته متلفعا بكوفيته حد العينين وهو يحمل فانوسا او وهو يحمل فاسا عريضة السن يهشم بها اكوام الملح في الغرفة الصغيرة المخصصة لإيداع الملح (وعن خالته وعيدة واشياء البيت هناك التماعات مكثفة على شكل صور مضيئة تطرز مشاهد السرد منها مشاهدة خالته بملابسها السوداء وفوطتها التي لطخها العجين الأسمر والطحين الأبيض تمسح عينها وأنفها يقطر وهي تنظر إليه وتنشج وعلى صوت رخيم أليف
ويظهر زوجها (بفانيلته البيضاء وسرواله القصير الأبيض)كما يصف المذياع بعينه الزرقاء مشتعلة ,اما عيدة فتظهر بعصابتها الخضراء او السوداء
(لمح عيدة تشدّ رأسها بعصابة خضراء وهي تدور بجسمها في كل الاتجاهات .
يضاف الى ذلك التشخيص المركز للشخوص والاشياء بما خبرته شخصية اليافع حمزة عن خفايا المكان الواقع غرب الروف العالي واستكشف تضاريسه والتماهي معه دون خوف او وجل ، كما انه تعرف على شرق الروف العالي حيث بساتين النخيل والخضرة الدائمة واشكال الطيور والنباتات المتنوعة وكان ذلك يثير في نفسه العجب من تفاوت هذين العالمين
( كان يتعجب من هذه الأرض فغربها بطاح واسعة ومستنقعات ملحية وشرقها اخضرّ ببساتين النخيل والعصافير والبلابل غير المستقرة بذيولها الخضراء والصفراء الطويلة , ما أن تحطّ نظرتك عليها حتى تختفي بين السعف وقامات النخيل العالية..
ومن بداية الرواية يبدو عالم الشخصية محدودا ساكنا يؤطره موت الام المبكر وغياب الاب في المجهول،وسط علاقات هامشية أساسها العطف عليه من قبل خالته وعائلتها لتعويضه عنغياب الام والأب،(وسمع مرّة أنهم يتحادثون بأن لا يزعجوا اليتيم فسقطت هذه الكلمة في أعماق روحه وبدأت تكبر كل يوم ومعها تكبر الأحزان) كل ذلك يدفعه الى انتقاله في مكان واحد غرب بيته يسمى صيد الحمام مستكشفا تضاريسه وكائناته وهو مكان للمستنقعات الملحية وللطيور تأتي وتروح مع اثار بائدة من اعمدة تحمل نقوشا وكأنها شواخص لعالم قد كان قائما ثم اتلفه الزمان ، لكن ذلك لن يدوم طويلا ، فهو يبحث عن عالم اخر،في مغامرة لم يحسب لها حساب،اذ كان يفكر بما وراء بيته الصغير، متخذا من ( الروف العالي)الذي (ينبطح طويلا , وتغيب نهايته في السراب الذي تشكل مثل سنام , حدا فاصلا بين المكان المأهول بالناس وبين الاحراش الممتدة على مد البصر ( بطاح شاسعة، براري , هي مملكة للشمس , تسكب عليها أشعتها فتلتهب أطرافها البعيدة بسراب من الماء المتلاطم . أرضها مستوية , وعند طرفها الجنوبي هضبة يرتفع عليها بناء مهدّم تلّمه صخور عالية كَأنها شواهد قبور , تعيش فيها أسراب من الحمام وطيور برية,)
في هذه الاحراش والبراري الشاسعة تلتقط العين صورا ساطعة وراسخة في عمق الذات وحية في الذاكرة منها (فتحة مأكولة من جسم الروف) على شكل مغارة بيضوية ومنها (الاعمدة الطويلة يقطعها سراب الماء مننصفها )او(نباتات من الحمض والعكرش وشجيرات شوكية صغيرة) و(حصران العاقول بإبرها المسّودة)وفي الجانب الشرقي تلتقط عدسة العين (مشارات الجت الأخضر الذي بسط لونـه وفاحت رائحته على المكان كله )
ان تكثيف الصورة وحسيتها العالية تكشف نزوعا لدى السارد/ المؤلف،بالاحتفاظ بالدهشة الأولى التي أحاطت بشخصية اليافع حمزة وهو يرى الطبيعة البكر لأول مرة ،وتبقى هذه النزعة حتى بعد لقائه بذي الشعر الطويل واتفاقه معه على رحلة في المجهول من المكان .
استثمر المؤلف علي جاسم شبيب العنوانات الجانبية بديلا عن الفصول كما اسلفنا وهي عنوانات كاشفة لحركة السرد وموجهة إياه الى غاياته المضمرة حين تشير الى الحدث القادم وتوزع مشاهد السرد على وفق هذه العنوانات ، ويمكن للمتلقي ان يقرا على وفق هذه العنوانات دون التزام بتسلسل الصفحات ، ففي كل عنوان يتكشف مشهد وصفي عن المكان او الشخصية من امثلة ذلك ما يجسده العنوان المراوغ ( الفوانيس الضاحكة) حيث يسرد السارد العليم بعين اليافع حمزة قصة الفوانيس الضاحكة :(كان المساء , مساء الفوانيس الضاحكة , نسوة تدخل من الباب المفتوح , تنسرح العباءات على أكتافهن, بأقدام ثابتة لها وقع.. إنهن الملاّحات، مبتسمات , يضحكن وكأن الزغاريد على طرف شفاههن.. يتهامسن كأن شيئاً كبيراً سيحدث غداً . وكانت عيدة تحدثه عن السوق , وهنّ يتنصّتن بفرح إلى خالته التي يتحشرج صوتها من الفرحة وكانت تدور بكل جسمها بين النسوة اللواتي تمايلن من الضحك والغبطة. قبلته خالته على خدّه وتمددت على فراشها وكانت عيناها تشعان وهي تتمتم بالتعاويذ ..) وهو مشهد ضاج بالحركة والمرح ويشير الى فرحة باكتشاف منخفض ملحي اكتشفه حمزة واخبر خالته به وهي بدورها اخبرت الملاحات بذلك .
وهناك بعض الاحداث تشي بأرصاد مستقبل مرعب تكشفه بعض الاحداث الجانبية التي ترد عرضا ولكنها تؤشر على أعماق اليافع الذي يجد فيها إشارة الى مواقف مرعبة قادمة وتلخص قصة الطائر والكلاب ذلك (ولمح على البعد كلاباً تُطارد شيئاً يتقافز وخمّن أنه طير مقصوص الجناح , سرعان ما تجمعت الكلاب وسمع من بعيد حشرجة الطائر بين الأنياب , فأمسك بنعليه وركض سريعاً نحوها ـ أمطرها بالحجارة فتفرقت , تتلفّت وتلعق أبوازها بألسنتها , ورأى بقايا الطائر متناثرة , فصرخ بها عاليا فتملكته غصة بكاء سدّت بلعومه..
كانت هيئة الطائر في منظر عينيه وهو يدلف إلى بيت خالته فاستقبلته رائحة التنور , شعر بصداع ورأسه تدور , فجلس قريباً من سريره وتقيأ بصوت عال..
ذو الشعر الأسود الطويل
يمثل ظهور شخصية ( ذو الشعر الأسود الطويل) نقلة نوعية في عالم حمزة المحدود الذي تعرف على معظم تضاريسه وخبر شخوصه المحيطين به ليجد في شخصية ذي الشعر الطويل عالما اخر لم يألفه او يقترب منه،وقد اتضح هذا العالم بعد رحيل عيدة الى العالم الاخر ، فلم يبق له من انيس في بيت خالته او في عالمه المحدود، و(كان الغيظ يدفعـه للابتعاد عن هذا المكان , كل المكان)وبهذا المعنى فقد حفزته حكايات ذي الشعر الطويل ومغامرته بالذهاب الى الصحراء للرحيل واكتشاف عالم الصحراء والهور ، ونلاحظ ان عين ذي الشعر الطويل تتطابق مع عين اليافع فهي عين تقرب الأشياء وتسكن حركتها وتضيء مفرداتها من امثلة ذلك وصف اليافع حمزة للصورة المقربة لوجه ذي الشعر الطويل (جسد نحيل وأصابع طويلة مسوّدة الأظافر, وبثور كحبّات النبق سوداء وحمراء على وجنتيه وجبهته وحنكه.. متقشّرة عن بياض مصفرّ ) مقارنة بوصف ذي الشعر الطويل للمكان الجديد/ الصحراء (أفرغ الراعي الجراب على مقعد من جلد الخروف.. حزمة من العشب ، صفراء ذات أوراق مدورة خضراء ، عيدانها عريضة مثل الكـراث ، ملأت رائحتها القوية أجواء الخيمة ، وذيلان أسودان قصيران للماعز ، وعلبة مدورة من الفافون كأنها ثمرة الحنظل لها فتحة صغيرة مغلقة بقطعة من التمر .. )
لقد تعلق اليافع حمزة بياة الصحراء لانها كما هتفت اعماقه (حب هذه الحياة .. لأنها طيبة وحرة ..)
لقد عشق الصحراء متأملا سعتها وجفاف حياتها ولكنها على الرغم من كل ذلك تعطي وتحفظ الحياة (.. هذه الصحراء مليئة بالحيوانات والإنسان فيها لا يجوع.. تجد مكاناً فيه ماءً ولو قليل وتصطاد الأرنب, كل شي يكون حلواً في هذه الصحراء، كل شي يتغير فيها كل يوم وإن الأيام لاتدوم كما هي )
تمثل الرحلة رسالة تعليمية عن الصحراء والهور مشفوعة بحكايات وشخوص وعالم غريب يكشف تضاريسها ومجتمعاتها المتباعدة وطبيعة النباتات النابته فيها والحياة الجافة وهي تشعر الانسان بالوحدة فيعلو الحنين في ذاته الى لقاء الاخرين وضيافتهم واكرامهم هكذا وجد اليافعان عبعوبا واخيه مثالا لشخوص الصحراء في الكرم واننخوة والمساعدة وهي من الرسائل التي يبثها المؤلف الى الناشئة عن عالم الصحراء وحياة شخوصها .
وهذه الرسالة مرسلة عبر عين فاحصة، تبصر الغريب وغير المألوف بوصفه عالما غريبا عن تجربتها مستثمرة عدسة مكبرة ومسافات مقربة منها لتكشف للمتلقي اليافع عالما جديدا اختصت به هذه الرحلة .
لقد تآلفت عين اليافع حمزة مع عالم النساء بشكل خاص : امه، خالته، عيدة ، الملاحات ممن يعملن مع خالته ، اما الرجال فعالمهم منحى، لكن الرحلة في الصحراءافرزت اشكالا أخرى لرجال ملثمين او بهيئات غريبة عن العالم النسوي الذي الفه، وباستمرار رحلته الى الهور الى الخيرة غدنه يتكشف له عالم نسوي فاعل (وانتبه على لغط النسوة ، ينظّفن المواقد ويجمعن الحطب وأطفالهن يجلسون صامتين ، عليهم عباءات سود ، وكانت حركة النسوة تهفّ مثل طيور صيد الحمام.. ) هذا العالم تقوده امرأة عارفة ( الخيرة غدنه)وتتجسد فيه أسماء راسخة في ذاكرة الصبي الذي سحبها من منشأها الأول ( عالم المحلة الذي انطلقت الرحلة منه )وانبتها في المكان الجديد، وهي تحمل المواصفات نفسها،( الأسماء والصفات وفاعلية الحركة ) لتكون السيرة الذاتية هي القائدة التي تمول الخيال الروائي وتشحنه بشخوص ذات ملامح وطباع واشكال مجسدة في الذاكرة أصلا ومنقولة الى المكان الجديد بوصفه عالما جديدا ساحرا ، لتبدو الخيرة غدنه وسمره وزهرة ورضيه امتدادا للملاحات الفاعلات في عالمه الأول وهن الان خلية نحل تقود خطواتها الخيرة غدنه بوصفها ملكة تحكم المكان بحكمتها وعلمها وبركاتها(وتعرّفا على أشكال القيّمات وأسماءهن.. رضيّة قصيرة ، سمينة بيضاء تلبس ملابس بيضاء تغطيها حتى القدمين وزهرة تلبس ملابس سوداء تغطيها حتى القدمين وسمره بعباءتها ألحنيّه وجوربان طويلان أسودان ..كنّ ينتعلن نعالات سود مخصّرة من الوسط, ذات قبـاب تهتز عند مشيتهن وعرفا أن رضيّه تأخذ الهدايا وزهرة بيدها كيس أبيض من القماش تجمع النقود والذهب , المحابس والقلائد وهي تبسمل وتزيح فوطتها السوداء الطويلة عن عنق الكيس وهي تهــرول ما بين تجمعات النسوة.. وكانت سمرة تراقب الأطفال ومواقد النساء .)
الذكرى العاصفة والحنين الى البيت القديم
تحتشد يوميات الهور بزهو الطبيعة بالوان نباتاتها وطيورها وما انجزه الانسان فيها: (أكواخ من القصب عائمة على الماء)يحيطها جمع من الجواميس الغاطسة حتى اعناقها) ويتضح انبهار السارد بهذه المناظر من توجيه عين الكاميرا لكشف تفاصيل هذه الاكواخ وتفاصيل الأثاث الداخلي فيها بشكل مقرب ومكبر (الكوخ طويل , محدّب , سقفه قوي من القصب المضفور, وتخرج منه طلعات كالمظلات أمام جداره الخارجي وواجهة الكوخ الشمالية عريضة يتوسطها باب عـال مقوّس ، توزعت على جوانبه أعمدة من القصب..، أربعة, اثنان طويلان حتى أعلى السقف واثنان قصيران متينان حتى قوس الباب , وفي الزاوية الشمالية في داخله حاجز من القصب يقطع داخل الكوخ ، له باب عُقدت على عارضته ستارة خضراء اللون وفي الجنوبي حاجز آخر له باب …) كما تستهوي عين السارد ابتهاج الطبيعة بكائناتها الملونة من خلال مقطع يصف بهجتها وزهوها بهذه الكائنات (الجزيرة غدت خضراء ، نبت العشب قرب هطيل الأمواج على الجروف ولمعت أوراق ألآس وتمايلت شعور الأشجار راقصة على هبوب الرياح الطيّبة وفتحت سمرة باب الشمال فعبّ جو الكوخ برائحة الماء والآس وسرحت الحيوانات وطيور الحضرة تحت الأشجار، فكان حمزة يدور على الأرض مثل تائه، لقد دخل الربيع إلى قلبه فأيقظهوانهالت ذكرى البيت القديم وصورة شجرة التوت والسدرة والعصافير.. عاصفة كانت الذكرى ،)
وسط جو الربيع البهيج وتفتح الطبيعة على كائنتها الملونة واحتفاء البشر من القاطنين في الهور او من الزائرين بهذا الكرنفال الساحر ينقبض قلب حمزة ويجد في القصبة ( الماصول) (ينفخها , فتطير روحه عن خوفها ووحدته تذهب,) لكن حنينه الى البيت القديم يتنامى في نفسه كلما يتنامى الفرح والسرور وبهجة الطبيعة بكائناتها وكأن صوتا داخليا يحذره ان وراء هذه البهجة مصائر لا تسر ، وكان ( سر اللمعان) من البلل على خدي الخيرة إنذارا للشؤم القادم ولذلك كان الكل فرحا لكنه ( يتذكّر الخيّرة وعينيها المشعّتين والخدّين المبلّلين) وخلال ذلك يقرر العودة الى عالمه الأول سالكا الطريق نفسه في عودته عبر الصحراء ، التي تصفها عين حمزة بالتفاصيل المقربة احتفاء وفرحا (كانت الأرض مستوية وبقايا المطر يلتمع في الحفر والمنخفضات وانتصبت على الجوانب البعيدة كثبان يلفّها اللون الأخضر وخرجت زهور متنوعة تهتز أعناقها مع الريح ورأى نبات العكرش الخشن الذي تأكله الأرانب , أخضر داكنا وأشجار الأراك تزهو بثمارها الحمراء المدوّرة الصغيرة .)
لقد تغير كل شيء وأصبحت الخضرة بديلا للجفاف الذي راه في رحلته الى الهور لكن عالمه الاثير بات مخربا (كانت أرضية الغرفة المثلثة محفورة واقتلعت المصطبات الحجرية وبان تحتها حفرا مملوءة بالتراب والنفـق مفتوح ويأتيه ضوء كثير وهناك أحجار وتراب مفروش في الزوايا , عصره الألم ) ثم راى كائنات غريبة تعلو وتهبط ولها ازيز قوي ، أجساد حديدية تحمل التراب من الروف العالي وتفرقه وتفرشه فادرك ان كل شيء قد تغير ولكنه ( لمح خيطا من دخان يخرج من بيتهم القديم )،دلالة على وجود حياة في بيتهم القديم (فأخرج قصبته ، وهرول وهو يعزف لحناً كأنه صادر من روح كانت متضايقة ، محاصرة ، وتسارعت أنفاسه مع خطواته ، يفكّر بالعصافير الكثيرة التي تعشعش الآن على شجرة التوت وبالسعال المألوف في كلّ صباح…) وبهذه الجمل المكثفة تنتهي الرواية بإشارة في صفحتها الأخيرة الى الجزء الثاني منها الذي لم ينجوه الروائي بل بقي مخطوطة ناقصة التفاصيل ورحل هو الى العالم الاخر.