استمتعت كثيرًا بكل قصة رسمها المبدع الجميل ( مصطفى الضبع) في مجموعته ( جامع الأحلام الميتة ).. فقد منحني كمتلقي جزءًا من روحه أسعدنى كثيرًا.. وجعلني أفكر في كل كلمة، فمن الجميل أن يمنحك المبدع وقتا بين صفحاته لتفكر وتتأمل.. بعد الانتهاء من المجموعة توقفت مع نفسي دقائق؛ لأمضي نحو أحلامى..
حدث جاد فى (وقت) كل واحد منا، أن يجد كتابا يهديه طاقة وسعادة، ووقتا للتأمل والتفكير..
كانت ( القراءة ) هى النقطة المحورية لروح المجموعة، هكذا أكد الكاتب في
كل كلمة، وكأنه وحى جديد إلينا بالأمر ( اقرأ).. فبدون القراءة لن نجد أوراقنا الضائعة فى كتاب الحياة الكبير، فعن طريق القراءة سنجد كل مانريد.
( المبدع / الناقد ) فى جامع الأحلام الميتة:
يجمع الكاتب الأحلام الميتة من وطننا العربي، من منازلنا وجامعاتنا والمكاتب والمدارس والشوارع والحقول ومن عقولنا وقلوبنا… يجمعها ليعيد زراعتها مرة أخرى فبعضها ينبت وبعضها يثمر وبعضها يظل ميتا.
بعيون الناقد التقط قصصًا قصيرة وقام برسمها بهدوء شديد، ثم وضعها أمام أعيننا؛ لنتأمل كل خُلق وكل فضيلة وكل علم، أراد أن نرى كل كلمة بوضوح، وبقلب ( معلم ) كتب عن كل الأوضاع الخربة التى رآها وعايشها، فأزاح بذلك كل هم عن عقله وأراد أن نشاركه همومه بمستقبل وضعنا الإنساني والعملي والثقافي، موجّها عقل المتلقي لنقاط ومواقف محملة بكثير من الفلسفة والتأمل والثبات أمام مشاهد ربما نراها باستمرار، وما نراه باستمرار عادة نألفه فلا نتأمله كثيرا وهو ما يضيّع علينا أهميته؛ لذلك نجده يقف ويرصد تلك الحياة لنفكر معه في كل كلمة كتبها وكل مشد رسمه لنا، ويختار كل منّا طريقا محددا لنفسه.
دعانا الكاتب في هذه المجموعة؛ لنعيد جمع أحلامنا ونرويها مرة أخرى لعلها تنبت مرة أخرى، فهى دعوة للأمل في حياة تبدأ بذرتها بالأمر الأول : ( اقرأ ..)
الحزن/ التاريخ:
الحزن هو رفيق للكاتب طوال رحلتنا معه في قصصه القصيرة.. والتأريخ لوقت مصاحبة الحزن والإشارة لسببه بكلمات تنقل كل شخص منّا إلى عالمه الخاص، ليصطحب حزنه ويحاوره ويتساءل متأملا: متى بدأ حزني الأول؟ وما هو تاريخي المميز في حياتي؟ متى انحفر تاريخ بعينه وتحولت حياتي بعده وأصبح حدثا مميزًا، وعتبة لفراق حياة، وطريق لقاء واستقبال لحياة أخرى، لطريق أكثر سعادة، أو أشد ظلمة وحزنا، نتأمل تحولنا ونكتشفه بوعي يجعلنا نعيد صياغة هذا التحول والتغير فى فكرنا وروحنا، ومن ثم نعيد تشكيل وعينا بالحياة والذى يترتب عليه اختيار طرق مغايرة لحياة أخرى أفضل.
لم يذكر في المجموعة كلها سوى تاريخ واحد فقط هو ( 19 أغسطس 1986..) يطالعنا هذا في قصة ( الحزن ) بالتاريخ دون الشهر، ولاحقا في قصة ( من حكاوي الزمن الأصيل واه ياعبد السميع ) باليوم والشهر( 19 أغسطس) لنفس العام..
في القصتين حمل التاريخ حزنا كبيرًا ، ارتبط الكاتب بهذا التاريخ فذكره بداية في قصة الحزن ولاحقا في قصة ملأها الحنين والحزن.. ربما ليحملنا على الوقوف لنتأمل أمام تواريخنا التي نحملها بداخلنا وما يمثله كل تاريخ لنا؟ أتساءل متى يتخلص الإنسان من التواريخ العالقة به؟ ولماذا تصر عقولنا حفظ تواريخ بعينها؟ لماذا نتخطى الأوقات والمساحات الشاسعة من الأعوام ونحن نحمل تاريخ بعينه يحملنا لمنطقة الحزن ولا نبرحها؟ فلا يتركنا ولا نتركه، وتظل الذكرى المتعلقة بهذا التاريخ تحمل إلينا الحياة الماضية كاملة فى عالمنا الحالي.
ينقلنا أحيانا بملاحظة دقيقة إلى فكرة التصرفات البسيطة التي يمارسها كل شخص منا بعفوية، فتفضح عقلية شخص ما وتفضح مدى ضحالة ثقافته، ففي قصة ( الصعود تنازليا ) يرسم مشهدًا مقززًا بوجود الطبيبة التي تضع المنديل بعد استخدامه في الكوب، ما الذى يدفع طبيبة لفعل ذلك السلوك؟ وانتقالا من الطبيبة إلى تفاصيل كثيرة لأشخاص لا يميزون المبادئ الأولى للتعامل بنظافة مع كل شيء حولنا، أو يراعي حرية عيون الآخرين فى عدم رؤية أفعال مقززة، فمتى ننتبه إلى كل فعل ولو كان صغير أنه انعكاس لعقل وثقافة وفكر وتربية ؟
يؤكد المبدع بشدة على القراءة وأهميتها في قصة (الورقة العاشرة)، فيلتقط الشاب كتابًا يجد الورقة بداخله ويقرأ كلمات كعهود زواج، أمنية يطرحها المبدع في تعريف الزواج وكيف يكون كما ينبغي، في تفاصيل غائبة وغائمة حولنا، ومجتمع ارتفعت فيه نسبة الطلاق كثيرًا لغياب هذا النوع من الوعي، ولم يجد الورقة سوى من أحب القراءة ولم يجد الورقة التي تحمل حقيقة ماهية الزواج سوى في كتاب.. وكأنه يؤكد على القراءة التي ستنقلنا من عالم إلى عالم آخر، ولن نعرف أي خير أو حقيقة إلا بالبحث في الكتب والقراءة الجيدة.
يلخص من خلال هذه القصة الوجود النسائي في مشهد واحد مشهد نزول الباحثة من القطار واحتضانها لبطل القصة، فالحضن باختصار شديد حياة، الحضن يعنى الاحتواء العقلي للبطل والاحتواء الروحي وأن تجعل المرأة الرجل مشروعا لها، بمعني أن يتطور معها على كل المستويات، هكذا ينبغى أن تكون المرأة فى عالم الكاتب، ولا يهمه مطلقا استكمال العلاقة بوجود جسدي.
يطرح الكاتب فكرة فلسفية وهى:” أن الأفكار كالبشر لها أمكنتها المحددة للميلاد ولها أوقاتها كذلك “.. وعلينا ألا نضيع أى فكرة نبتت في مكان أو في وقت ميلادها، فهو يؤكد على التركيز على أي فكرة تاتي إلينا وعلينا الحفاظ عليها والحرص عليها كعلاقتنا بالبشر تماما؛ لأن إذا أضعنا وقتها ومكانها ضاعت الفكرة بكل بساطة، والأفكار غالية كالبشر تماما، فهي من لحم ودم .
الزمن/ اللغة :
ارتبط الزمن باللغة ارتباطا كبيرا، فاللغة مكثفة تليق بزمن الأحلام، فالأحلام زمنها الفعلي قصير ورموزها تحتاج للتأويل لأنها تأتينا مركزة حاملة رسالة ومعنى لنا، تحمل كثير من التفكير والتأمل.. كذلك اللغة في المجموعة القصصية هى لغة الأحلام المكثفة، فلسفية، تحتاج للتأمل، فالزمن مناسب تماما مع اللغة التي استخدمها المبدع.
أمّا في جامع الأحلام الميتة:
وضع المبدع مسؤولية كبيرة على كل من أمتلك وعيا مغايرًا، وكأنه يوضح مهمة الكاتب فى مجتمعنا، فقد جمع كل الأحلام الميتة ليعيدها للحياة، ولم تكن كل الأحلام تخصه، ولم يكن مسؤولا عن موت أي حلم، لكنه بنوع من المثالية والحلم بحياة أفضل لنا جميعا، جمع كل الأحلام ليعيدها إلى الحياة مرة أخرى قدر المستطاع، وفكرة إحالة الأحلام لشئ مادي ملموس يجمعه ويعيد زرعه تعكس مسؤولية كبيرة وإحساس أكبر بكل حلم تم تجاهله من صاحبه سواء بإرادته أو بعدمها، علينا ألا نهمل أحلامنا، علينا أن نعيد زراعتها ربما ردت إليها الحياة أزهرت مرة أخرى.
المبدع له دور حقيقي في توثيق الواقع بكل أحداثه المشوهة، ومحاولة إيجاد معنى جديدا للحياة، كما حرّض على البحث عن المعلومة وتعليم الذات، ففي قصة (صرصار ) البطل الذى أراد معرفة تفاصيل هذا الكائن الذى دخل حياته، فبدا بتعلم كل شيء تقريبا عن حياة هذا الكائن بالبحث والقراءة.. وكأنه يؤكد على دفع المتلقي تجاه تأمل كل كائن حوله، وكل ظاهرة، فقد أصبح البحث في متناول الجميع بوجود الانترنت، وسهل الحصول على أي معلومات بهذه التقنية الحديثة.
بإنسانية شديدة يطرح في قصة (عقوفأة) فكرة الأذى بالكلمات، وعدم تقدير المسافة المتاحة لنا من الآخر وعدم معرفة الحدود المسموح بها، وأي مستوى من الكلام يصح التلفظ به أو لا، تلك الزوجة التي لا تقدر قيمة الزوج العقلية والروحية، ولا يهمها سوى رؤيتها له، فهي لم تبذل المجهود الكافي للتعرف على الرجل الذي بين يديها، بل كانت ساذجة بقدر كاف حتى أنها تظهر انوثتها في الاستعلاء والتباهي على الزوج البسيط بأن حظها أوقعها فيه، في مقابل أنها رفضت خمسة رجال تقدموا لها.. وما كان من مبدعنا سوى الانتقام للبطل بشكل ساخر منها ومن الفكرة نفسها ومن الجملة التي تكررها الزوجة دون وعى بأثرها النفسي على الزوج، والذى صنع خطة للانتقام خارج الصندوق، فكرة غير مسبقة، ولطيفة حد الضحك.
يتألم المبدع من الغربة.. ويسرد ذلك الألم في قصة ( ما يشبه القصة القصيرة اسمها ) فيرسمها كأنثى بملامح خاصة، ويغزل تلك العلاقة المتوترة طوال الوقت، لكنها مستمرة من محبة مخلصة له، شديدة الذكاء تجيد ترويضه على الألم ” وتولت تدريبي على الألم، حتى ألم الانغماس فيها ومحاولاتي الدائمة ( الفاشلة ) للفكاك منها، في سطور أخرى يوضح ذكاء أنثاه ” كان يحلو لها أن تمارس بعض ألعابها التي أراها مملة حد الاقتراب من إزهاق الروح” ويصل الصراع بينه وبينها ولكنها تنتصر عليه في النهاية ” كدت يوما أصرخ فى وجهها: لم تلتصق أنثى بى قدر التصاقك المريب، لكنى عجزت عن النطق حتى شعرت بالرعب أن تكون قدري الذى لا يجب أن أثور عليه.” هكذا يجسد الغربة كأنثى وقرينة للألم الذى لا مفر منه كالقدر.
وكمبدع متصل بكل ما حوله من تطورات بائسة في مجتمعنا الثقافي يرثي الحال الأدبي والإعلامي في تناولهم للأخبار في شكل ساخر عن الصحافة وفيسبوك والمقاهي، ففي قصته (قائمة أولى) يعرض لفساد الذائقة، وانتشار المخربين للأدب، ومزاحمة الموهوبين، والتصدر للشاشات والمنصات، كما يعرض لكل الفساد الذي يطيح بالموهوبين الحقيقيين، لكن فى النهاية يغلق الصفحة بعدما حاول الاجتهاد وحده قدر الإمكان، ليعيد ترتيب القائمة من البداية، لكن فى النهاية نقف أمام حقيقة بائسة فى مجتمعنا وهى أن كل محاولات التغيير، محاولات فردية، لم نرق إلى الآن لفعل جماعي نحو تغيير وضعنا الثقافي والعلمي.
ثم يعرض لنا في (قصة عسيرة ( ناقد ومنقود وبينهما أرسطو).. أزمة النقد الموجودة وأسبابها، وصراحته أمام هذا النقد الزائف الذي يختزله شخص لشخص آخر في كلمات فارغة ويطلق عليها نقد، من وصف أو إعادة لسرد الحكاية مرة أخرى من خلال سطور بلا روح، دون معرفة حقيقة النقد وحقيقة الكشف عن الجمال الذى يعكسه كل نص فى نفس القارئ من جمال ورغبة نحو التغير، هكذا يثورعلى كل الوضع يؤخر النقد ويؤخر الإبداع، لأنه فعل دون ضمير ودون أخلاق، وأي عمل لم ينبع من عقل واع ومفكر جاد، هو مضيعة للوقت ويؤثر بشكل سلبى على جيل بالكامل، فحذار من الاستسهال في الكتابة أو النقد، واعرف جيدا ماذا تقول وماذا تكتب لأنها مسؤولية كبيرة.
يهدينا المبدع مصطفى الضبع ( لحظة تنوير) ويعرفنا بها بأنها تلك اللحظة التي نلتقى بها بشخص حقيقي ونتمسك به، ولحظة التنوير هى لحظة خاصة جدا بكل شخص فينا وعليه أن يدركها في نفسه، اللحظة الصديقة الخفية بداخلنا التى تدفعنا دوما للأمام، وعلينا أن نصل للحظة التنوير ولا ننفصل عنها في كل خطوة نخطوها، وهى ممارسة كشف ذواتنا أمامنا، ونحاول التدرب على ذلك، والسبب الحقيقي وراء ضياع تلك اللحظة هى عندما ننفصل عن حواسنا.
إن الأبواب للحلم واليقين والغرام، كلها أبواب لا تفتح إلا بمفتاح واحد (مفتاح غير قابل للصدأ) ذلك المفتاح الذى نجده ونحافظ عليه بشدة، مفتاح الأمل، الحياة، مفتاح قوة التمسك بحياة صادقة وحقيقية، نمارس فيها كل ما نريده بحرية، لأن هذا المفتاح الذى سيظل عندما نشعر بالانهزام في لحظة ما، في لحظة الغربة، في لحظة افتقاد الأم والأب، في انكسار الأحلام، سيكون هناك يحاورنا عن الحلم واليقين والغرام وأبواب كثيرة في الحياة قادر على فتحها لنا، علينا أن نتمسك بمفتاح الحياة لنحياها وندخل لكل الأبواب الحقيقية.
كما يأخذنا الكاتب من خلال ( وردة الأيام الخمسة ) لرسم حياة يومية لأفعال متكررة يمارسها المبدع كما تمارس عليه أفعال من آخرين، ببساطة شديدة يطرح طريقة تعامله مع اليوم، فالأيام ” تتحرك بين بوابتين وبين البوابتين تنبت الحكايات، فـ “صباحا اتخلص من الأحلام العالقة بجدار القلب، وفى الطريق اتخلص من عنصرية المحيطين وأصداء ثرثرة المتعالين”..
يعد الخطوات، ويقاوم صهد الشمس، يتنفس الأمل ويملأ روحه برائحة الشجر، ثم ينشئ حوارا بديعا بينه وبين الشجرة الأقرب له، وتعلقه الكبير بوردتها النادرة، ثم يوازى ما بين الشجرة وبين العالم الذى ترتفع فيه المعيشة، ونمو الاقتصاد وأعباء الحياة، ثم خروج الشجرة عن قانونها وماتت، ثم انعكس ضمورها على تيبس أعضاء المبدع، فالمدينة تجف والكرة الأرضية تفنى.. فحين نفقد الوقت للتأمل والحوار مع الكائنات الأخرى، حين نفقد الاستمتاع بالطبيعة ستضمر الطبيعة ونتيبس، وتفنى الحياة، نحتاج لوقت بعيدا عن احتياجاتنا اليومية للمعيشة، لممارسة التأمل والحوار مع أنفسنا ومع الطبيعة، نحتاج وقتا لنعيش.
تميز الكاتب بالإنصات لنفسه وللطبيعة، كما تميز بالمراقبة ومن ثم الالتقاط لكل ما هو إنساني يضيع في رحلة حياتنا، بفلسفته حول أهمية اللقاء مع الذات والبوح لها والاستماع إليها، البحث عن صداقة حقيقية بين عقلين أو قلبين بعيدا عن التمييز الجنسي بيننا، كما آمن بصوته وعرف تماما أن الصوت لن يموت، فالصوت يسافر مع صاحبه، الصوت إنسان خفيف الروح، ينام في ظل شجرة ويحب البراح والحرية، حين يختفى الصوت سيختفى كل ” سبت” أو سيختفى اليوم الذى نقضيه مع صديق أو حبيب أو ذاتنا ليكون هناك مساحة من البوح والأمان والحرية في الحديث.
قضايا عديدة طرحها المبدع ( مصطفى الضبع) أمام أعينا، وتركها لنفكر فيها ونتأمل أنفسنا، وترك لنا حلم ورغبة فى القراءة والحفاظ على الوقت.. لنحيا حياة أفضل وأجمل، هكذا حملنا فى لحظات كشف ليزيل من أمام أعيننا كل سبب للتراجع أو الكسل مع النفس، فنحن نستحق حياة أجمل وأفضل.
وهنا يهدي المبدع كل متلقى طريقا مضيئا من حلم ورغبة فى التغيير.. ويترك فى يده مفتاح غير قابل للصدأ.
قراءه نقديه متميزه وجاده وكلمات ذات تناسق حرفي وبسيط ألف ألف شكر لحضرتك الكاتبه المبدعه وللتفسير الرائع والراقي للمجموعة القصصية (جامع الاحلام الميته) للكاتب مصطفى الضبع والنقد والتحليل للاستاذه سحر عبد المجيد