لما تجاوز الخمسين بست سنوات، أصبح يشعره العمل بعياء شديد يتناول كل أعضائه،خاصة، عندما يكون الجو معتدلا، او حارا. جلس بالبهو. تناول “ساندويتشه”، واتكأ واضعا رأسه على أعلى الأريكة. فغط في نوم عميق، فحلم: أنه لما بلغ الستين سنة، اصفرت ورقة عزوبته، فسقطت أرضا. لم يعرف كيف ولماذا تخلى عن الصفة التي دافع عنها وسط المتزوجين ووسط الذين يؤمنون بجدوى الزواج.
وجد نفسه داخل قفص الزواج الذي يعتبره تكبيلا للحرية، وسجنا … ونفيا للاستقلالية، أما العزوبية فحرية مطلقة، كما يدعي. يكره كثرة طلبيات النساء، قبل وبعد الزواج، كثرة أسئلتهن: إلى أين ذاهب؟ متى ستعود؟ هل انتظرك عند الغذاء؟… يكره من يشاركه قراراته و..
بعد ازدياد مولوده الأول تبددت نظرته الأولى حيال النساء، فأدرك إن النفس توسوس لصاحبها وتحثه على تصديق وساوسها دون سجال، فتصد عينيه وبصيرته عن وساوسها وممارءة مصداقيتها. أدرك أن التبصر مرآة النفس وأن النقد والجلد إن اقتضى الحال يكبحان تسيدها وتجبرها وتعنتها، ويقتلان كبرياءها، ويهبطانها من برجها العاجي إلى أرض الواقع، ويفتحان عين بصيرتها على كذبها ويصححان مسارها وينومان الغرور فيها. النفس كالأسد ان لم يجد فرائس يتآمر مع نفسه على أبنائه،
نظر إلى زوجته ثم إلى ابنه وألقى ببصره أرضا وراح يفكر في الزمن الذي ولى. زمن مهدور بسبب تعنت النفس وغفوة الضمير. وجريه وراء سراب كاذب.
إن الولاء يصنع الطاعة العمياء، ويدخل التبصر في نفق لا مخرج منه… إنه كالذي يقف على يمين حصان ويقيس اليسار على يمين الحصان يحاجج بالذي يرى عن الذي لا يرى ويقسم بأغلظ أيمانه أن الجهة الأخرى مبرقعة في حين أنها بيضاء لا أثر للبقع فيها على خلاف التي يرى.
كبر ابنه وأصبح محاميا. سلك طريق أبيه. آثر هو الآخر حياة العزوبية. لذلك تجند للدفاع عن صواب رأي أبيه الذي رفع دعوى ضد نفسه التي ارتكبت جناية في حقه. صدح الابن حتى زعزع صوته أسوار المحكمة منافحا عن حرية نفس أبيه، ومطالبا القاضية بإلغاء الدعوة، وإلغاء زواج الإكراه كذلك، والحكم بعودة الأب إلى حبه القديم، وامتطاء جواد العزوبية، و”التبوريد” في ملعب الهوى.
نسي أن عودة أبيه إلى العزوبية تعني عودته إلى العدم. لما تذكر ذلك، دفعه حب الحياة وحب البقاء، إلى فتح عينيه عن علة وجوده، فتغير رأيه، وطالب بإدانة نفس أبيه بأشد العقوبات لأنها أخرت زواج والده، وأخرت استمتاعه بالحياة، كما منعه من نعمة الإيخاء. وحرمت أمه من سنوات فحولتها. وها هي الآن ستعيده إلى العدم. وستعيد أمه إلى الوحدانية.
صدح مرة أخرى حتى صم آذان الحضور بأن تحكم المحكمة على هذه النفس الشريرة التي ارتكبت مجموعة من الجرائم في حق نفسها وفي حق المجتمع بالاعدام حرقا في ساحة عامة حتى تكون عبرة لكل نفس حادت عن صراط عمارة الاستخلاف، وهدفت إلى تقليل السلالة وتهدد سلامة الحياة.
أخذت القاضية رأي مستشاريها وقبل النطق بالحكم، طلبت منه أن يرفع يده إلى الأعلى ويؤدي القسم، قال: أقسم بالله الذي قال: “إن النفس لأمارة بالسوء إلا مارحم ربي”، وقال: ” المال والبنون زينة الحياة الدنيا” أن أقول الحق، والحق هو أن نفسي التي حكمت علي بأزيد من أربعة وثلاثين سنة سجنا في معتقل العزوبية وحرمتني من متعة الزوجة وزينة الأبناء تستحق الاعتقال في معتقل المجانين حتى تجن.
نطقت القاضية بالحكم، ولم تحدد المدة، بل رهنت ذلك بصحته النفسية. قالت: فإن تأخر العلاج وطالت المدة، فإنه سينقل إلى دار رعاية الشيوخ المسنين. وأوصت أن يبقى أمره بين يدي طبيبة المستشفى الأمراض النفسية. فإن تأكدت لها، بعد إجراء الفحوصات اللازمة، سلبية التحاليل وخلو نفسه من أوهام، ووساوس العزوبية، والاستشفاء التام من فوبيا الزوجي، فستفتح له الطبيبة أبواب المرستان ليلج الحياة العادية.
وقع محضر الحكم، فوسطاه شرطيان طويلان وقويان يتطاير الرعب من نظراتهما، وأمسك كل منهما به واقتاداه باتجاه باب المحكمة ومنه إلى مستشفى الأمراض النفسية لمداواته.
فتح عينيه فوجد نفسه يرتجف. ويده إلى الأعلى مثلما يريد أن يؤدي القسم، فأتم قائلا: أقسم بالله العظيم أن أتزوج قبل متم هذه السنة، وأن أحقق أحلام هذا المساء قبل الستين، وأن أطرد شبح العزوبة الذي يكره الزواج ويعتبر الفطرة السليمة والسوية سوءا وشرا، فالسوي لا يسلك إلا الطريق السوي والنفس المريضة تحب المعوج الذي يناسب طبيعتها. فما اعوج الطريق إلا وطال وما استقام إلا وقصر بلوغ الهدف.
بعد صلاه العشاء. دق الباب، فجابت ذهنه مجموعة من الأسئلة في رمشة عين. قام إلى الباب متسارع الخطوات. وجد فقيه الحي والحاج سالم، وأخوه عبد الحي الذي أخبره بمنامة الأمس التي يوصيه فيها أبوه في حضرة أمه بأن يتزوج من فاطنة ابنة الحاج سالم ويسميان ابنهما البكر عبد الواحد. قبل عرض أخاه الذي كان مترددا وشاكا في قبوله ولوج مملكة الزواج. شرع الفقيه في قراءة الفاتحة، فساروا على دربه.
وبذلك تكون قد سقطت آخر نجمة من سماء عزاب الحي. وانتهى حب مملكة الأوهام.