(1)
تناول عمر يوم عطلته ملعقتين كبيرتين من مخدر (المعجون)*، وذهب إلى السينما صحبة نرجس.
تركب نرجس دراجة (ميني)* تخفي إعاقة في رجلها اليسرى. تقف بعيدة عن المقهى ببضعة أمتار. عندما يراها بعض أبناء الحي الواقفين بالجوار، يلتفتون يمينا وشمالا بحثا عن عمر. يعرفون مسبقا بأن اللعين سيظهر لا محالة ، ولو من تحت الأرض. يقف معها مرتين أو ثلاث يتحدثان مثل عاشقين لمدة ساعة تقريبا، قبل أن تستجيب للذهاب معه إلى السينما يوم الجمعة.
نرجس فتاة جميلة، ذات وجه صغير مدور مثل القمر، وعينين واسعتين. في المساء يوصلها قريبا من الحي الذي تسكنه، ويعود بمفرده.عيناه شديدتا الاحمرار، ينظر بخجل إلى الناس في الزقاق. ربما يفعل ذلك بدافع تأثير (المعجون).
يدخل إلى المقهى، ويجلس مع ثلة من الأصدقاء. يسأله إبراهيم، وكأنه يريد أن يفتح شهيته للحديث:
ـ قضيت وقتا ممتعا في السينما؟ لا بد أنك قبلتها في الظلام!؟ وعبثت بشعرها الجميل أيها الشيطان!؟
لم يجبه. بقي فقط ينظر إليه، ويبتسم كأنه يوافقه الرأي.
التفت ناحيته عبد الله المرشد السياحي المزور*، وقال مبتسما:
ـ نهدا صديقتك مثل رمانتين نضجتا حتى تشققت قشرتهما. أنت محظوظ يا عمر! لست مثل هؤلاء المكبوتين الذين لم يسبق لهم الذهاب مع فتاة إلى السينما!
طلب قطعة خبز محشوة بالبيض والجبن، وفنجان قهوة بالحليب، وأشار للنادل بأن يُكثر من الكمون، ويقلل من الملح، ويناوله كأس ماء بارد.
تناول الوجبة، وهو يستمع لتخيلاتهم عما فعله مع نرجس في السينما.
عندما انتهى من الأكل، نادى على بائع (الديطاي)*، وطلب سيجارة (مارلبورو).
أشعل إبراهيم عود ثقاب، وقربه من السيجارة. اتكأ عمر، وأخذ نفسا طويلا، ثم نفت سحابة دخان كثيفة أمامه، وقال بصوت منخفض:
ـ كلامكم جميل، لكنه غير واقعي. علاقتي بأي فتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة مثل كأس، نصفه مملوء، ونصفه فارغ.
نعم أنا محظوظ لأني كل يوم جمعة أقضي حوالي ساعتين أو ثلاث مع فتاة جميلة في السينما، نتبادل الهمس والقبل، وهذا هو النصف المملوء من الكأس. ولكن حظي أيضا سيئ. عندما تلمس يدي فخد نرجس الأيسر، لا تلمس غير الحديد البارد، فأحس بخوف رهيب، وأتخيل وأنا مسطول، ِرجلا ضخمة تسقط من سماء مظلمة فوق رأسي، فأسحب يدي، وأتمنى أن ينتهي الفيلم بسرعة، ونخرج من السينما. أسبوعان أو ثلاثة وأضطر إلى إنهاء العلاقة.
قال إبراهيم وهو يغمز عبد الله:
ـ عمر أصبح غاوي الفتيات من ذوي الاحتياجات الخاصة، وينتقي أجملهن بعناية.
رد عمر بصوت يمزج بين الفخر والحسرة:
ـ نعم في البداية أشعر بلذة وسعادة، ويدي تتحسس نهديها، أو تلعب في شعرها، أو عندما تضع شفتاها على عنقي، أو تلعب أناملها بشعيرات صدري، ونستسلم لبعضنا في النهاية، كما يفعل بطلا الفيلم في السينما، وتنام على كتفي. لكن أشعر بالرعب عندما أتذكر بأني أجلس في الظلام مع فتاة بساق من حديد بارد. وعندما أتخلى عنها ينتابني إحساس بألم فظيع، وأخشى بألا تخرج عاقبتي بخير. ربما سأدفع يوما ثمن هذا الجرم الذي ابتليت باقترافه، وهذا هو النصف الفارغ من الكأس.
نفث سحابة كثيفة من الدخان وقال مداعبا ومغيرا الموضوع:
ـ بكم هزمت البارصا الريال؟
لم يجب أحد. انصرف عبد الله إلى طاولة لعب الورق، وبقي إبراهيم يحملق في شاشة التلفزيون.
جاءت نرجس ثلاث مرات في الأسبوع الماضي. وقفت على بعد عشرة أمتار من المقهى، تنتظر عمر. يمضي الوقت بطيئا. تمر ساعة قاسية. وعلى غير العادة لا يظهر عمر. تعود إلى البيت، والألم يعتصر قلبها. لا تريد أن تصدق بأن عمر ذاب مثل فص ملح، واختفى إلى الأبد. تبكي في صمت. تتضرع إلى الله، وتسأل بمرارة، لماذا لم تمنحها السماء حناحين أبيضين، مثل جناحي ملاك تُحلق بهما بين الطيور؟ ولماذا لا ينظر الناس إلا إلى النصف الفارغ من الكأس؟
2
لا يدري كيف تراقص شبح نرجس أمام عينيه. يحدث في بعض الأحيان أن يتكلم همسا مع بعض شخصياته، ويُصغي إليها بإمعان عندما تتحدث معه. وقد يبتسم لبعضها، ويعقد حاجبيه، وهو ينظر إلى بعضها الآخر. وقد تشاجر مرة مع شبح رب عمل جشع، يُمعن بدون حياء في السرقة والكذب، حتى شك بأنه ربما أصابه مسّ. وفكّر في أن يسأل بعض الرواة: هل يحدث معهم ما يحدث له؟ فخشي أن يسخروا منه. والآن ظهر شبح نرجس أمامه، من غير أن تتكئ على دراجة (ميني)، أو تقف على بعد عشرة أمتار من مقهى الحي، وهي تنتظر أن يظهر عمر، وتذهب معه إلى السينما، فتوقّف عن الكتابة.
نظرت إليه بملامح غاضبة ، لكنها خاطبته بصوت هادئ:
ـ لا أتفق معك حول المصير الذي رسمته لي فيما كتبته، وأكره الشفقة.
ثم أضافت بنبرة يغلب عليها مزيج من الحزن والاحتجاج:
ـ من قال للراوي أن إحدى ساقي من حديد؟ وأن صديقي عندما وضع يده عليها، وجدها باردة مثل الثلج؟ ومن منحه الحق في أن يتجسس علينا؟ أنا لا أحب أن يقدمني كواحدة من ذوي الاحتياجات الخاصة، ولا أحب أن أتعرف على شاب فقط من أجل أن يعانقني في ظلام قاعة السينما، ثم يتخلى عني عندما نخرج إلى الشارع، لأثير شفقة القراء. لا، ليس هذا ما أريده.
ابتسم بدهشة، ورد بهدوء:
ـ وماذا تريدين يا نرجس؟
هزت ردفها الأيسر، وفتحت ذراعيها أمام صدرها، ثم أجابت بحركة مسرحية، وهي تبتسم:
ـ أريد أن يقدمني الراوي برجلين من لحم ودم. أليس الراوي صديق يعمل معك؟ أطلب منه أن يفتح عينيه، أو اعمل له نظارات بثلاث زجاجات ليُبصر جيدا؟ وجهي مثل القمر، فأنا يمكن أن أمشي أحسن من أي فتاة سوية، وألتفت متوجسة مثل أية غزالة، أنتقي أجمل العطور، وأختار ألوانا ساحرة لملابسي، وأرقص هكذا!
ثم جرت في ساحة خالية، يرتفع جسدها، وينخفض، تنظر إلى أعلى، وتقف على أصابع رجليها، ويداها ممدودتان مثل جناحين، كأنها فراشة تؤدي رقصة باليه.
استوت في وقفتها، ثم أضافت:
ـ تخليت عن دراجة (الميني)، ولم تعد ساقي تؤلمني.
همس الراوي للكاتب في الخفاء دون أن تحس نرجس بذلك لأنها كانت مشغولة بتسوية كسوتها:
ـ ثمة شيء غريب يحدث! ولا أعرف ما هو؟ نرجس تكون الآن قد تجاوزت الستين سنة. وإذا ما تزوجت، وما زالت على قيد الحياة، فسيكون لها أبناء، وربما أحفاد، أو أنها رحلت عن هذا العالم، وتنام اليوم في قبر بارد. وقد يكون ما تراه مجرد خيال تهيأ لك بأنه يشبه نرجس!
ابتعد شبح نرجس قليلا، ثم استدارت ناحيته، وهي تهدده:
ـ سأرفع قضية ضد الراوي. قدم لك معلومات ليست كلها دقيقة، وكان عليه، قبل أن تكتب وتنشر، أن يتصل بي، ويأخذ رأيي في الموضوع. الحقيقة لها وجوه معددة تناقض بعضها أحيانا. عمر ليس شابا سيئا كما جعل الراوي القراء يعتقدون. أحببت عمر لأنه إنسان لطيف عشت معه لحظات جميلة، ولو لفترة محدودة. السعادة مثل قطعة سكر لا تحلو إلا عندما تذوب. وعندما ذابت قطعة السكر افترقنا، لأنه كان يجب أن نفترق، لنحلم بما لم نفعله، أو نحققه ونحن في أحضان بعض. وهذا هو الحب!
نظر إليها مليا حتى يتأكد على أنها هي نرجس، التي هجرها عمر بسبب النصف الفارغ من الكأس، كما أخبره الراوي، ثم قال:
ـ ربما أخطأ أحدهم التقدير! مجتمع بكامله أصبح بعضه أعرج، وبعضه أعمى، وبعضه أبكم، وبعضه أحمق. كلنا نعاني من إعاقة ما يا نرجس!
ووضع يده على صدغه مشيرا إلى عقله، ثم أضاف :
ـ لكن أخطر إعاقة نعاني منها هنا. وهذه هي الكأس المكسورة!
——-
المعجم :
ـ (المعجون) مخدر يصنع من القنب الهندي الذي يطبخ مع السمن ويخلط بالمكسرات ودقيق المحمر و(رأس الحانوت) وهو عبارة عن مجموعة من التوابل التي تسخن الجسم.
ـ دراجة (ميني): دراجة قصيرة ظهرت كموضة في مغرب السبعينات والثمانينات من القرن الماضي .
ـ المرشد السياحي المزور : المرشد الذي لا يتوفر على رخصة قانونية.
ـ بائع (الديطاي): بائع السجائر بالتقسيط.
مراكش 04 فبراير 2021