صديقي الجميل أسامة ريان.
لنجعل من أعمالنا وسائط مودة، نناقشها بصدق. مؤخرا التقيت بكم ويا لحظي الجميل، بداية في أتيليه القاهرة، ثم في ورشة الزيتون، و في صالون بثينة مكي الأديبة السودانية الجميلة.
صديقي العزيز من خلال تواصلنا الدائم حدثتكم عن شوقي لجديدكم القصصي، لتفاجئني عند لقانا بإهدائي “بجعات ابن حزم”. المجموعة القصصية التي احتوت 18 نصا. والصادرة عن دار النسيم، في القاهرة. 2021.
قرأتها بشغف، ليتبين ميلكم استخدام ضمير المتكلم لسرد قصصك، وهو ما يميل إليه أكثر الكتاب، حيث يشعرون القارئ عند قراءة النصوص بحميمة الذات الحكاءة، وكأن الكاتب صديقا يبوح بهمومه وتطلعاته، مع أن الكاتب في العادة لا يمثله السارد إلا في حالات السيرة. ثم استخدمت السارد العليم في أربع قصص فقط، هي: الضفيرة ، وأم هشام ، وربيع خريفي، وكذلك في قصة سحر الغرفة. وهو من أسهل الرواة، لكلية معرفته بظواهر الأمور وبواطنها، وكذلك قدرته على الحكي في أكثر من مسار مختلف في أمكنة وأزمنة مختلفة، في وقت واحد.
“بجعات ابن حزم” عنوان يثير التساؤل، وهو عنوان مستعار من القصة الثامنة من نفس المجموعة،. الغلاف بألوانه الغامقة. فراقصة باليه في وضع الكمون، أو قبيل وثوبها راقصة. صورت من الأعلى، ليبدو شعر رأسها المكلل بالزهور وذراعيها المتصالبتين برشاقة ورقة لافتة، ثوبها المنتشر على شكل ورق وردة مقلوبة. إلا أن وجهها غافي ولم يظهر، في المقابل برزت رشاقتها ورقة أطرافها وكأنها على وشك النهوض.
العتبة الثالثة الإهداء -جاء تقليديا- مفعما بمفرداته الشوق واللوعة، مترعا بالمحبة، وكأنك على متن سحابة تبذر بذور قلبك، تضيء قلوب أحبتك الراحلة، زوجتك. ثم أحبتك، حين تحيط من ليزالوا يولونك محبتهم ورعايته من أفارد أسرتك الصغيرة والكبيرة ومن لهم مودة في قلبك كل عرفن ومودة.
أسمح لي ياصديقي أن أناقشك كقارئ شغوف بكتاباتك، وليس كناقد. إذ أن النقد الأكاديمي الذي يدبجه البعض بالمصطلحات القديمة وأسماء لأدباء من الغرب والشرق استهلكت أراءهم. ولا يدرك من يستشهد بها بأن عليه أن يقدم أراءه التي تخصه، ليترك لقرائه بصمة تخصه، قد تتحول إلى مادة يستشهد بها الغير من الأكاديميين، ففي تصوري أن على المتخصص أن يأتي بالجديد، أو أن يكف عن الادعاء بالدكتره. إذ أن الدرجة العلمية تحتم عليه التجديد والابتكار، وليس ترديد أراء الأخرين. أن يأتي بما يعبر عن فكره، لا أن يضل صدى لأصوات أفلت في مواطنها. ورأيي أن زمن الناقد المتقعر في أفول، خاصة بعد فقدانه لمنابره التقليدية، كالصحف والمجلات الورقية، التي كانت حكرا عليه، مقابل انتشار صفحات التواصل الاجتماعي، التي تتسع يوما بعد يوم، متيحه الفرصة للقارئ أن يغرد بما يريد وكيفما يريد، لتصل أراءه إلى العشرات بل والمآت وأحيانا الألاف من القراء. مروجا لما يقرأه.
بالعودة ياصديقي إلى قصص المجموعة، أجدها وقد تنوعت بين الاجتماعي والتاريخي والسيري. بحيث حملت بعض القصص نقداً لاذعاً لأوضاع غير سوية، مثل قصة “أم هشام”، إلا أن الفقد أخذ النصيب الأكبر من تلك النصوص، ففي قصة الغرفة المقابلة، وهي من روائع القص، حيث مزجت العاطفي بالإنساني، الرومانسي بالألم، المتعة والحميمة غير المصرح بها بلحظات رفض لما يوجع. إذ نجد الزوج يفقد زوجته في نهاية تلك الأيام المفعمة بالسعادة المسروقة من بين فكي الموت. لحظات يتمازج في مرض عضال بلحظات خلق سعادة. الطبيب كان قد طمنهم في بداية الأمر، وهو يتفرس فحوصات المريضة، إلا أن غرفة الحالات المستعصية كانت بانتظارها نهاية المطاف.
في قصة “الرؤيا”، ينتهي تطابق الحلم بالواقع برحل الأستاذ جرس. وهكذا في قصة “الصامت الذي ملأ حياتنا صخبا”، قصة تتماس مع فن سرد السيرة، حين تستدعي ذات الكاتب ماضي العمر، وكأنها لحظات لا تنمحي، ولا تنسى مع أب مثل لك وللآخرين مثالا عظيما، رغم الإقصاء المتعمد من سلطة الضباط. ورغم رفض نشر نصوصه القصصية، إلا أنه ظل حيا وسيظل. وهذه ليست القصة الوحيدة في المجموعة التي استخدمت فيها ملامح السيرة. فهناك عدد منها مع الأحفاد ومع الأب والأم. تلك القصص لونتها بلغة وجدانية شاعرية تقترب من شغاف القب.
وتستمر قصص الفقد في المجموعة من قصة “النصيحة”، إلى “نبرة زاجرة ” و”عزاء الوجوه”، وغيرها. جسدت حالات من الفقد، ليس فقد للقريب أو الصديق. بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، فالفقد في قصصك تشمل فقد الذات، النبل، العطاء الدفء، والرفقة…
تميزت قصص المجموعة بدفقات وجدانية، وسلاسة لغوية، ما جعلها مكونا قصصا قريبة من القلب، قرأتها لأجد نفسي في الكثير منها، وهكذا أتخيل كل قارئ سيجد ملامح من ذاته، في بساط من السهل الممتنع.
نسجت قصصك مازجا لها بحبر قلبك. ولذلك جاءت ناضجة ذات نبض حي وصادق. اضافة إلى وصفك لشخصياتك، تصرفاتها وعلاقاتها. كما هو وصفك للأمكنة ليس كجدران أو أثاث، بل ككائنات تشع بالحياة، ما يدخل قارئك إلى إيقاع القص كمشارك فيها، مثل “تعلو حاجبه عمامة أصفر شالها المحيط بطربوش قصير مكرمش، يتسلل شعره أسفلها مهوشا أشهب، يمتد ملتفا حتى أذنه الكبيرة. ثقوب دقيقة تبدو في كتف الجبة كالحة الاحمرار، وأزرار كثيرة متزاحمة في طرف الصديرية ابيض الظاهر من فتحة صدر جبته…”. ذلك الوصف للشيخ أنيس شخصية قصة “عزاء الوجوه”. الذي يتردد على المآتم والمقابر، يمثل البركة والغفران، لكنه في الوقت نفسه لا يمت إليهن بصلة.
وفي قصة الغرفة المقابلة: “الغرفة صغيرة رقيقة الرياش، بها فراش مفرد ومقعدان حول مائدة صغيرة.. علقت سارة المحاليل .. ضبطتها.. خرجت وأغلقت الباب…” يصف غرفة زوجته في المستشفى. تلك التي قضا وزوجته المريضة لحظات مسروقة من بين أنياب عزرائيل.
ومن قصة أم هشام: “طابقان على أضلاع مربع، بكل طرقة أربعة أبواب خشبية عليها نقوش أسطورية بارزة، تفصلها مسافات، باتساع الغرفة الوسيعة عالية الجدران، وملحق بها غرفة صغيرة كانت في الأصل مطبخا، (صارت حماما فيما بعد مع دخول الكهرباء والماء)…” وصف لجزء من مبنى قديم بناه الجمالي كمجمع للقنصليات، أهمل في وقتنا، وأمسى شبه مدمر. “الغريب يا بنات”، وفي صفحة أخرى من نفس القصة”-والغريب يابنات أن كل هذه الوكالات عالية الجدران رقيقة النقوش، وعليها شعار الدولة، ببوابتها الضخمة على جانبي الشارع.. كلها تتبع هيئة الأثار وعلى كل منها لوحة تحمل أوصاف وأرقام.. لكن بقدرة قادر وغموض هي مؤجرة أو(وضع يد) لتجار يخربونها ولا يقومون بصيانتها، عملوها مخازن لبضائع رخيصة ومأوى للبلطجية والحمير…”.
ما يميز معظم القصص ذلك التلاحم بين بدايتها ونهايتها، قد تتعجب صديقي العزيز من قولي، إذ أن لكل نصوص، أي نص، علاقة مؤكدة، كون النص يكمل بعضه بعضا، لكني هنا لاحظت بأن تلك العلاقة ناتجة عن أسلوب تفكيرك، ولذلك أسألك: هل بدأت كتابة كل قصة وأنت تفكر بتحديد صيغة النهاية ونوعيتها؟. بمعنى أنك حددت النهاية والبداية قبل الشروع في الصياغة. ولذلك أسمح لي باستعراض بعض نهايات وبداية بعض القصص . مثل نهاية قصة النصيحة: “أخبرني الفيس بوك صباح أمس بمرور خمس سنوات على رحيله، وتصر أمي على الاحتفاظ بهذا المقعد في مكانه، تقول (كان يجلس عليه المرحوم.. يؤنسني في شغل البيت)”. وبالعودة إلى بدايتها: “يجلس على مقعده في منتصف الطرقة المؤدية إلى الحمام، أشعة شمس غاربة تميل للاحمرار تتسلل عبر زجاج شرفة غرفته لتغمر كتبه… مررت به أحمل جهاز الكمبيوتر النقال وشاشته مفتوحة مضيئة، تبادلنا النظرات هممت بالحديث معه…”. حضور الأب بقوة، أسطر النهاية وبداية النص، ذلك الحضور من خلال أدوات كان يسخدمها، وكأنها جزء لا يتجزأ منه.
ونهاية قصة الضفيرة: “راح يقلب في صفحات المجلة مع نانا، عادت الجدة من المطبخ تحمل صينية فناجين الشاي، تبتسم وضفيرتها مرسلة خلفها.. تتخللها شعرات بيضاء(إحنا كده في زمن واحد)”. بدية نفس القصة “لم يستغرب صوت الكعب الدقيق على أرضية غرفة التحشير خلفه.. يعرف أنها هي، تلمع تساؤلات كثيرة في عينيه، تكثفت في الفترة الأخيرة…”.
من يقرأ لك سواء في هذه المجموعة أو غيرها، يدرك بأنك مسكون بالأسرة ، بتفاصيل حياة عشتها، تلتقط أفكار وأحداث وأسماء عاشها من حولك لتصيغ بأسلوب حميمي قصصا قريبة من القلب، تدل على قارأك الالتفات إلى ما يعيشه. ليرى أن كل ذلك ماهي إلا قصص تنتظر من يسبكها في قوالب مناسبة.
أسلوبك هو أنت. بسماحة روحك وتسامح قلبك، واتقاد فكرك. وهي دعوة منك أن نكتب للجمال والحرية والسلام كما تصنع أنت. وتدهشنا.
هي تحية من القلب إلى قيمك الإنسانية أيها النبيل.