أنا متفق تماما مع ما أشارت اليها الناقدة د. عبير خالد يحيي حول مميزات الشعر العالمي وهي تكتب: إن الشعر الذي لا يحتفي بالكون وبالإنسان الذي يعيش في حيّزه الحدودي، هو شعر محبوسٌ باللغة، محكومٌ بمحلّيّتها، مقصىً عن الفضاء الفسيح اللامتناهي بالمفهوم القممي للشعر… وعصرنا الحالي يسعى لجعل العالم قصيدة كونية، بمدّ الشعر خارج حدود اللغة واللهجات، ليستوعب كلّ الأزمان، ويصنع نسغًا روحيًّا خاصًا، مركّبًا بكيميائية جمالية خاصة، ثمّ يشارك به كحصّة مساهمة في شجرة الشعر الكونية. وهنا يحضر الشعر بمفهومه البيانوي.
وفي نفس الصدد يؤكد الشاعر المعروف يحيى السماوي على ماهية جوهر الشعر بأن الشعر ليس الوزن والقافية. وليس سلامة النص لغويا … الشعر هو المعنى الجميل، والروح المحلقة، وهو قبل ذلك ابتكار الصور وليس رصف الكلمات على رصيف السطور.
وكذا يبدء الشاعر أحمد برقاوي بخطابه العالمي لأبناء الارض بأختلاف أعراقهم و أنسابهم و على لسان طائر منبوذ و غريب الاطوار والمعروف عند العامة بالشؤم! لكن الشاعر يناهض هذه الفكرة والتقليد مبينا الحقائق على لسان هذا الطائر القاتم.
يفتح الشاعر نصه ولأول وهلة بأسلوب تهاجمي نقدي و يستعمل تقنية انزياح الدلالات و ارتدادات المعاني كي يوصل بهذه الطريقة رسالته الشعرية المتسم بالعقلانية الغير مسبوق و مألوف، حيث يخاطب الغراب هنا بني البشر من ذرية قابيل في سبيل تصحيح مسارات حياتهم المعوجة و انتقاد مفاهيمهم الخاطئة بلغة أقرب الى المنطق والحکمة بدلا من التعاطف والمشاعر الحسية، ولا يكتفي بهذا القدر من النصح بل يأتي بنماذج من واقع حياتهم ثم يقارن بين طبيعته الوجودية وهذه الاعمال المنافية لفطرة الحياة والتي يقوم بها الانسان، هذه هي ثيمة النص المتماسك بوحدة الموضوع من ألفها الى ياءها.
ولقد استفاد الشاعر من الثيولوجيا وبالأخص في قصة الاخوين هابيل و قابيل و الغراب المرشد، كما ذكر في الكتب السماوية من بينها القرآن الكريم، حيث جاء في الاثر عن ابن عباس قال: جاء غراب إلى غراب ميت، فبحث عليه من التراب حتى واراه، فقال الذي قتل أخاه: ( قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي)
وقد زاد عليه بعض المفسرين بالقول: بعث الله الغراب حكمة، ليرى ابن آدم كيفية المواراة، وهو معنى قوله تعالى ” ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ” فصار فِعْلُ الغراب في الموارة سُنَّة باقية في الخلق.
اذن فعل الغراب في هذه القصة يتسم بالايحائية دون ابداء أي خطاب أو قول، لكن في قصيدة (خطبة الغراب) للشاعر أحمد برقاوي هو دور خطابي و نقاش منطقي أعطاه الشاعر لهذا الطائر في النص كما في قصيدة (الغراب) للشاعر الامريكي أدغار ألان بو ١٨٠٩- ١٨٤٩ وهو يحكي عن زيارة غراب مُتكلم وغامض إلى عاشق مضطرب وتتبع القصيدة شعور العاشق حتى أصابته بالجنون. يتباكى العاشق على عشيقته لينور بينما يجلس الغراب على تمثال لأثينا ويؤجج مشاعر العاشق الحزينة بترديده لكلمة (ليس بعد اليوم):
لكنَّ الغُراب لا زال يُخادعُ خياليَ الحزينَ، ويستلُ من روحي ابتسامةً،
على الفورِ، دفعتُ بمقعدٍ مخمليٍ صوبَ طائرٍ، وتمثالٍ، وبابْ.
بدأتُ أنسجُ من خيطِ خياليِ صورةَ الطائر الغابرِ المشؤوم،
ما الذي كان يَعنيه -ذلك الغابرُ القاتمُ، المُروعُ، الهزيلُ – من نعيقهِ:”ليس بعد الآن”.
أما الشاعر أحمد برقاوي في (خطبة الغراب) يعتمد علی اسلوب رمزي والانزياح الدلالي کوسيلة لأبهار المتلقي ويجعل لغة نصه بوتقة لأنصهار التأويلات كما يرى بعض النقاد أن الشرط الأساسي والضروري لحدوثِ الشِّعرية هو حصول الانزياح.
هنا يحاول الشاعر ابراز المفارقات وهو ينظر الى الشكل المخادع و جوهر الأصل في المخلوقات، أي بمعنی آخر ان الشكل الذي يختبيء وراء قناع سميك يكذبه الجوارح و يظهر حقيقة الناس من خلال تعاملهم في الواقع .
في هذه القصيدة الغراب هو سيد الموقف و قد أعطي له فسحة و مكانة لائقة و كافية لألقاء ما في جعبته دون أي وجود أو رد للبشر يذكر، فهذه بمثابة نصرة للحق و ازهاق الباطل، أما الغراب هنا ليس الا رمزا للحقيقة المخبئة داخل أنفسنا. يقول الشاعر على لسان الغراب مخاطبا فئات من البشر:
شبّهتم شرّ القول
بنعيق غرابٍ في الخرب
وأنا لم أسكُنها يوماً
وخرائبُكم .. وجهٌ من اوجه شر سرائركم
سوادي يزعجكم؟
وأنا لم أخترْ لوني زيفاً
ولا مثلتُ الحزنَ بثوب سواد
اذن (النعيق) و(السواد) هما مؤشران للصوت و اللون حيث يقيس عليهما كثير من الناس الآخرين، كما جعلا قياسا للنظر الى طائر مثل الغراب، لكن الغراب هنا لا يكترث بهذه الاتهامات بل يلوذ بذكر مساويء بني بشر و يبريء ساحته من كل هذه الافعال الشنيعة التي يقوم بها الانسان في أصقاع العالم شرقا و غربا، وهذا هو المجاز الاستعاري لأن الغراب لا يتكلم في الواقع، بل أراد الشاعر أن يشغل عنصر الخيال و يبتكرعن طريق ايجاد فكرة نادرة نصا غنيا بالدلالات و اثارة تساؤلات فكرية و اجتماعية و سياسية عدة، كما ان الغراب هنا يستبريء من اقتراف الجرائم على الارض وهو يطير في جو السماء و يهبط على هاماتِ الاشجار رمزا للعلو و الانتصار بالرغم من ذكره مع الفواسق الأربعة الاخرى (الفأرة والعقرب والْحُدَيّا والكلب العقور) لكنه هو الافضل من الظالمين وهو شاهد على شر الانسان و يتحاشى عما يقترفوه على علم منهم، وهذه هي أوجه الخلاف بينهم مما جعل الغراب أفضل ، بل هذه هي نقاط ضعف المجتمعات و أسباب تدهور أوضاع أمم والفشل الاصلاحي:
١- لم أقتلْ يوماً ثأراً أو وأدًا
٢- لم أطعنْ طفلًا
٣- لمْ أغدُرْ
٤- لمْ أفسدْ في الأرض
٥- ولم أسفحْ دماء العشاق
٦- لمْ أسْجُنْ أحداَ من أقراني
٧- ولا أطلقتُ النار على الأكبادِ
٨- لن أكذب و أنتم ما أكذَبَكم
٩- لست جاهلا و أنتم ما أجهلَكم
١٠- طأطأتمْ … للطّاغية الأنذلِ ذلًا.
في الختام يجدر بنا ذكر البنية الشكلية للمعنى في هذه القصيدة بأن الجوهر هو أصل الوجود وان خبث هذا- فلا يصلح العمل بأناقة المظهر فكم من دَميم يزين الارض بصلاحه و ينقذ الملهوف و يلبي نداء المظلوم ولكن مع هذا يسخر الجاهلين من مظهره لأنهم يتفكرون بعيونهم لا بعقولهم، و يفتخرون بما لا يسمن و لا يغني من جوع بل يتباهون بما يضرهم و يفسد عليهم أحوالهم.