![](https://i0.wp.com/basrayatha.com/wp-content/uploads/2022/11/fathe-albukare.jpg?fit=450%2C316&ssl=1)
اِعْتَادَ عَبْدُ العَزِيزِ الأَشْطَرْ أَنْ يُقَلِّبَ وَجْهَهُ فِي جَانِبَيْ الطَّرِيقِ وَهْوَ يُحَرِّكُ ذِرَاعَهُ الأَيْمَنَ حَرَكَةً نِصْفَ دِائِرِيَّةٍ، مُشِيرًا إِلَى العَرَبَاتِ بِالتَّحَرُّكِ السَّرِيعِ لِتَحْقِيقِ السُّيُولَةِ المرُورِيَّةِ. فَبِوَاسِطَةِ جِذْعِهِ الطَّوِيلِ المنْتَصِبِ وَصَدْرِهِ المنْتَفِخِ وَرَقَبَتِهِ الممْدُودَةِ يُمْكِنُ لَهُ رُؤْيَةَ الأَشْيَاءِ أَبْعَدَ مِنْ رَتْلِ العَرَبَاتِ الممْتَدِّ بِجَانِبِهِ إِلَى مَنْبَتِ الجِسْرِ حَيْثُ يَنْحَرِفُ مَسْرَبَا عُبُورٍ عَنِ الطَّرِيقِ السَّيَّارَةِ أ1. وَفِي الأَعْلَى، تُوَاصِلُ السَّيَّارَاتُ المارَّةُ فَوْقَ الجِسْرِ فِي اِخْتِرَاقِ الفَضَاءِ دُونَ تَوَقُّفٍ.
كَانَ الأَشْطَرْ يَقِفُ فِي مَفْرَقِ طُرُقٍ دَوَّارٍ تَحْتَ الجِسْرِ، عَلَى العَلَامَةِ الممَيَّزَةِ لِمَمَرِّ الـْمُشَاةِ، مُولِيًا ظَهْرَهُ عَنْ بُرْجِ السَّاعَةِ فِي شَارِعِ الحَبِيب بُورقِيبَة، وَمُنْحَرِفًا بِعَضَلَةِ رَقَبَتِهِ إِلَى اليَمِينِ. فِي وَضْعِهِ الثَّابِتِ وَالمسَيْطِرِ ذَاكَ، لَا تَزَالُ يَدُهُ فِي حَرَكَتِهَا المـُوَجِّهَةِ لِلْعَرَبَاتِ الآتِيَةِ فِي اِتِّجَاهِهِ لِكَيْ تَتَقَدَّمَ وَتَنْحُوَ نَحْوَ مَحَطَّةِ تُونِسَ البَحْرِيّةِ أَوْ تَنْعَطِفَ يَسَارًا لِتَسْلُكَ طَرِيقَهَا فِي اِتِّجَاهِ بَابِ البَحْرِ. فِيمَا كَانَ زَمِيلُهُ لُطْفِي شَعْبَان، مُسَاعِدُهُ فِي تَأْمِينِ انْسِيَابِيَّةِ حَرَكَةِ المرُورِ، يُرَاقِبُ الضِّفَّةَ الأُخْرَى لِلْجِسْرِ مِنْ دَاخِلِ سَيَّارَةِ شُرْطَةِ المرُورِ المرَابِطَةِ هُنَاكَ فِي سَاحَةِ العَمَلِ.
عَادَةً مَا تَتَمَتَّعُ العَرَبَاتُ التِّي تَدْخُلُ المفْرَقَ الدَّوَّارَ بِأَوْلَوِيَّةِ المرُورِ إِلاَّ أَنَّ وُجُودَ الأَشْطَرْ فِي قَلْبِ الطَّرِيقِ سَحَبَ مِنْهَا هَذَا الاِمْتِيَازَ وَجَعَلَهَا تَنْتَظِرُ الإِذْنَ لَهَا بِنَفَخَاتٍ مُتَقَطِّعَةٍ مِنْ صَفَّارَتِهِ المثَبَّتَةِ فِي شَفَتَيْهِ وَالمرْبُوطَةِ بِخَيْطٍ إِلَى عُنُقِهِ.
فَجْأَةً لَمَعَتْ عَيْنَا عَبْدِ العَزِيزِ بِوَمِيضٍ غَامِضٍ كَوَمِيضِ البَرْقِ. ارْتَسَمَتْ عَلَى وَجْهِهِ اِبْتِسَامَةٌ مَاكِرَةٌ خَبِيثَةٌ فَتَرَكَ صَافِرَتَهُ تَسْقُطُ عَلَى صَدْرِهِ وَاسْتَدَارَ إِلَى زَمِيلِهِ لُطْفِي. رَآهُ يَدْفَعُ بَابَ السَّيَّارَةِ وَيَنْزِلُ مِنْهَا مُتَّجِهًا نَحْوَ الرُّكْنِ القَصِيِّ لِعَمُودِ الجِسْرِ الموَاجِهِ لِلحَدِيقَةِ الوَسَطِيَّةِ المسَوَّرَةِ بِسِيَاجٍ حَدِيدِيٍّ قَصِيرٍ وَمَنْقُوشٍ ثُمَّ وَهْوَ يَمِيلُ إِلَى قَارُورَةِ الماءِ البَلَاستِيكِيَّةِ يَلْتَقِطُهَا مِنْ سَطْحِ نِصْفِ بَرْدُورَةٍ مُهْمَلَةٍ مِنْ بَقَايَا أَشْغَالِ بِنَاءِ الجِسْرِ كَانَ أَحَدُ عُمَّالَ الـتـَّرْصِيفِ قَدْ وَضَعَهَا هُنَاكَ لِيَقْتَعِدَهَا فِي فَتْرَةِ الاسْتِرَاحَةِ، فَتَحَ غِطَاءَهَا وَأَخَذَ جُرْعَةً. فَكَّرَ الأَشْطَرْ فِي الطَّقْسِ لَا بُدَّ أَنَّ الجَوَّ خَانِقٌ دَاخِلَ السَّيَّارَةِ إِلَى دَرَجَةٍ جَعَلَتْ زَمِيلَهُ يَلْتَهِبُ عَطَشًا.
دَنَا مِنْهُ وهَمَسَ فِي أُذُنَيْهِ:
– هَا قَدْ جَاءَتْ.
كَانَتْ كَلِمَاتُهُ قَدْ شُحِنَتْ بِالإِيحَاءِ وَالتَّلْمِيحِ اِسْتَشْعَرَهَا زَمِيلُهُ فِي صَوْتِهِ وَانْشَغَلَ بِهَا عَلَى الفَوْرِ وَهْوَ يُعِيدُ قَارُورَةَ المَاءِ إِلَى مَوْضِعِهَا وَيَتَطَلَّعُ إِلَى عَبْدِ العَزِيزِ.
– مَنْ؟ تِلْكَ العَجُوزُ الرَّاغِبَةُ فِي شِرَاءِ عَمُودِ الجِسْرِ وَمَا تَحْتَهُ؟
تَبَسَّمَ وَأَوْمَأَ لَهُ بِاهْتِزَازَةٍ مِنْ رَأْسِهِ:
– نَعَمْ، إِنَّهَا قَادِمَةٌ.
طَافَتْ صُورَةُ العَجُوزِ حَيَّةً فِي ذِهْنِ لُطْفِي. اِسْتَطَاعَ بِجَلَاءٍ أَنْ يَسْتَرْجِعَ وَجْهَهَا الحَزِينَ وَهْيَ تَرْجُوهُ أَنْ يَبِيعَهَا العَمُودَ وَتُقْسِمُ أَنَّهَا سَتُقْبِضُهُ السِّعْرَ الذِّي يَطْلُبُهُ وَلَوْ بَاعَتْ مِنْ أَجْلِ تَسْدِيدِ كُلْفَتِهِ البَيْتَ وَأَثَاثَهُ. كَانَتْ تَرَى فِيهِ الدَّوْلَةَ التِّي تَحْكُمُ قَهْرًا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَتَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ، وَكَانَ يَرَى فِيهَا العَجُوزَ الخَرْقَاءَ المخْبُولَةَ التِي تَطْلُبُ مَا لَا يُدْرَكُ. قَالَ لَهَا يَوْمَهَا وَهْوَ يَلْعَنُ الحَظَّ الذِّي جَعَلَهَا فِي طَرِيقِهِ إِنَّهُ، يَا حَاجَّهْ، مِلْكٌ عُمُومِي لَا يَجُوزُ التَفْرِيطُ فِيهِ بِسُهُولَةٍ، فَرَدَّتْ عَلَيْهِ بِكُلِّ يَقِينٍ إِنَّهُ لَا شَيْءَ يُعْجِزُكُمْ، لَا فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، حَتَّى الأَحْيَاءَ يُمْكِنُكُمْ إِمَاتَتَهُمْ وَطَمْرَهُمْ فِي الإِسْمَنْتِ.
صَوْتُ العَجُوزِ شَدِيدُ الرَّزَانَةِ. مَا كَانَ النَّاظِرُ لِيَحْسَبَهَا مُتَشَرِّدَةً كَمَا تَوَهَّمَ هُوَ مِنْ بَعِيدٍ أَوَّلَ مَا رَآهَا وَهْيَ تَقْتَرِبُ بِإِعْيَاءٍ مِنَ الخُرَسَانَةِ المسَلَّحَةِ وَتَبْقَى سَاعَتَيْنِ هُنَاكَ تَتَمَسَّحُ بِالعَمُودِ، لَيْسَ فَقَطْ بِسَبَبِ الإِطْلاَلَةِ الرَّائِعَةِ وَالأَنِيقَةِ لِلشَّكْلِ المحْتَشِمِ لِلْمَرْأَةِ، رَغْمَ مَا يُوحِي بِهِ جَسَدُهَا مِنَ إِرْهَاقٍ وَهُزَالٍ، وَلَكِنْ أَيْضًا بِسَبَبِ لَطَافَةِ هَيْبَتِهَا. كَانَتْ تَرْتَدِي جِلْبَابًا مِنَ الشِّيفُونِ وَالكَرِيب مُزَوَّدًا بِقِطَعِ قُمَاشٍ مِنَ الدَّنْتِيل فِي أَطْرَافِهِ وَعِنْدَ الأَكْمَامِ الوَاسِعَةِ، مَعَ نُقُوشٍ مِنَ الفِضَّةِ، وَعِنْدَ الخَصْرِ يُوجَدُ رِبَاطٌ غَيْرَ لَصِيقٍ بِالجِسْمِ بِلَوْنٍ وَرْدِيٍّ مُتَنَاسِقٍ مَعَ لَوْنِ الحِجَابِ بَعِيدًا عَنِ المغَالَاةِ فِي الزِّينَةِ. لَمْ يُدْرِكْ هَوِيَّةَ تِلْكَ العَجُوزِ وَقَدْ ظَنَّ أَنَّهَا مِنْ أُولَئِكَ العَجَائِزِ المسِنَّاتِ المرْمِيَّاتِ فِي الشَّوَارِعِ تَحْتَ ضَغْطِ الحَاجِيَاتِ وَفَقْرِ القِيَمِ. هَذَا الهَاجِسُ البَغِيضُ الّذِي انْتَابَهُ اسْتَبْعَدَهُ فَوْرًا مَعَ بِدَايَةِ ظُهُورِهِ أَمَامَهَا. اسْتَشْعَرَ خَوْفَهَا الشَّدِيدَ وَاضْطِرَابَهَا وَتَلَعْثُمَ كَلِمَاتِهَا. خَطَرَ لَهُ أَنَّهَا مَرَّتْ بِظُرُوفٍ عَصِيبَةٍ مُوجِعَةٍ زَمَنَ التَّعَسُّفِ وَالظُّلْمِ إِلَى الدَّرَجَةِ التِي لَمْ تَعُدْ مَعَهَا تُحِسُّ بِالتَّحَوُّلَاتِ الجِذْرِيَّةِ التِي طَرَأَتْ عَلَى المَنْظُومَةِ الأَمْنِيَّةِ. كَأَنَّهَا لَمْ تُدْرِكْ أَنَّ تِلْكَ الصَفْحَةَ المرْعِبَةَ قَدْ طُوِيَتْ بَعْدَ الثَّوْرَةِ إِلَى الأَبَدِ، فَبَقِيَتْ تَرْتَجِفُ مُتَوَجِّسَةً خِيفَةً مِنْهُ. حَاوَلَ تَهْدِئَتَهَا بِالظُّهُورِ بِمَظْهَرِ عَوْنِ الأَمْنِ الجُمْهُورِيِّ، أَمْنٌ مُحَايِدٌ يَحِلُّ مَشَاكِلَ المتَعَارِكِينَ وَلَا يَأْخُذُ أَرْوَاحَهُمْ.
يَحْضُرُهُ الآنَ مَا فَعَلَهُ لِكَسْبِ وِدِّهَا مَالَ إِلَيهَا بِقَارُورَةَ مَاءٍ كَانَتْ في يَدِهِ وَقَالَ:” خُذِي اشْرَبِي… الطَّقْسُ حَارٌّ مُمِيتٌ فِي هَذَا الوَقْتِ مِنَ السَّنَةِ“. لَمْ تَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا وَلَكِنَّهَا شَكَرَتْهُ وَقَدِ اطْمَأَنَّ قَلْبُهَا قَلِيلًا. وَسُرْعَانَ مَا بَاغَتَتْهُ بِطَلَبِهَا الغَرِيبِ،” تُحْيِينِي لَوْ تَبِيعَنِي هَذَا العَمُودَ. “
بَهَتَهُ الطَّلَبُ وَأَدْهَشَهُ، هَلْ هِيَ جَادَّةٌ فِي مَا تَطْلُبُ أَمْ تَسْخَرُ مِنْهُ؟ مَاذَا يُسَاوِي الجِسْرُ بِلَا رَوَافِعَ تُسْنِدُهُ؟
فِي البِدَايَةِ ارْتَبَكَ غَيْرَ أَنَّهُ تَمَالَكَ نَفْسَهَ بِسُرْعَةٍ وَقَالَ لَهَا مُجَارِيًا: ” إِمَّا الجِسْرَ كُلَّهُ أَوْ لَا أَبِيعُ.“ فَاجَأَتْهَا كَلِمَاتُهُ، رَمَقَتْهُ بِنَظْرَةٍ يَمْلَؤُهَا الحَيْرةُ وَالشُّعُورُ بِالإِحْبَاطِ وَتَجَهَّمَ وَجْهُهَا. ” مَاذَا أَفْعَلُ بِالجِسْرِ؟ أَنَا لَا أَحْتَاجُهُ… اُتْرُكْهُ لِمَفْطُورِيِّ القُلُوبِ يَحْتَاجُونَهُ أَكْثَر. “وَرَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَى أَعْلَى الجِسْرِ. كَانَ عَلَى عُلُوٍّ يُقَارِبُ الخَمْسَةَ أَمْتَارٍ.
فَهِمَ أَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى مُحَاوَلَاتِ الانْتِحَارِ قَفْزًا أَوْ شَنْقًا الّتِي يَشْهَدُهَا الجِسْرُ مِنْ حِينٍ لِآخَرَ لِأَسْبَابٍ مَجْهُولَةٍ.
ضَحِكَ وَقَالَ مُتَهَكِّمًا:” يُمْكِنُكِ، يَا حَاجَّة، أَنْ تَقْطَعِي مِنْهُ مَا تَشَائِينَ، وَتَتَصَدَّقِي بِالبَاقِي أَوْ تَبِيعِيهِ. فَكُلَّمَا تَوَسَّعَتِ المِسَاحَةُ زَادَ احْتِمَالُ وُجُودِ كَنْزٍ تَحْتَهُ. “
تَعَوَّدَ لُطْفِي عَلَى مُنَادَاةِ النِّسْوَةِ كِبَارَ السِّنِّ بِالخَالَةِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ هَذِهِ العَجُوزِ تَخَطَّى العَادَةَ.
يَذْكُرُ أَنَّهَا عِنْدَمَا سَمِعَتْ ذَلِكَ أَطْرَقَتْ رَأْسَهَا إِلَى الأَرْضِ بُرْهَةً وَقَدْ تَجَهَّمَ وَجْهُهَا ثُمَّ زَفَرَتْ زَفْرَةً مِنْ أَعْمَاقِهَا وَقَالَتْ:” أَنَا أَعْرِفُ مَكَانَ كَنْزِي.. إِنَّهُ مَدْفُونٌ هُنَا “!
أَحَسَّ بِأَنَّهَا شَخْصٌ مُخْتَلِفٌ، لَمْ يَسْتَطِعْ التَّكَهُّنَ بِمَا يَدُورُ فِي ذِهْنِهَا، كَانَ مِنَ الصَّعْبِ عَلَيْهِ أَنْ يُفَسِّرَ قَسَمَاتِ وَجْهِهَا لِيَفْهَمَ سِرَّ تَعَلُّقِهَا بِعَمُودٍ مِنَ الِإسْمَنْتِ المسَلَّحِ إِلَى دَرَجَةِ أَنْ تُباَدِلَهُ بِكُلِّ مَا تَمْلِكُ. وَفِي اللَّحْظَةِ التِي نَظَرَ فِيهَا إِلَى سِلْسِلَةِ الأَعْمِدَةِ المتَرَاصَّةِ أَمَامَهُ لَمَحَ عَشَرَاتِ اللَّوْحَاتِ الجَرَافِيتِيَّةِ العِمْلَاقَةِ تُزَيِّنُ المكَانَ، بَعْضُهَا رُسُومٌ فَنِّيَّةُ وَبَعْضُهَا مَطَالِبٌ عَلَى شَكْلِ شِعَارَاتٍ ثَوْرِيَّةٍ، وَعِبَارَاتٍ مُبْتَذَلَةٍ، وَخَرْبَشَاتٍ إِيدِيُولُوجِيَّةٍ، جَعَلَتْ مِنَ القَنْطَرَةِ مَعْرَضًا فَنِّيًّا مَفْتُوحًا فِي فَضَاءٍ طَلْقٍ. وَبَيْنَمَا كَانَ يَتَمَلَّى فِي هَذِهِ الصُّوَرِ لَمَعَ فِي رَأْسِهِ تَسَاؤُلٌ غَرٍيبٌ وَقَدْ ظَنَّ أَنَّهُ تَوَصَّلَ إِلَى شَيْءٍ مُهِمٍّ، أَتَكُونُ سَكِينَةُ الجَدَارِيَاتِ هَذِهِ هِيَ عَمُودُ الضَّوْءِ الذِّي يُنِيرُ دَوَاخِلَ نَفْسِ العَجُوزِ وَسِرَّهَا؟ أَوْحَى لَهَا إِنْ كَانَ مَا يَشُدُّهَا إِلَى العَمُودِ هُوَ الرَّسْمُ المبْهِجُ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَجِدَ لَهَا مَنْ يُحَوِّلُ جُدْرَانَ بَيْتِهَا تُحْفَةً فَنِّيَّةً، وَفَكَّرَ بِرَابِطَةِ الفَنَّانِينَ التَّشْكِيلِيِّينَ. مُنْذُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ قَرَأَ بَيَانَهَا الخَاصَّ، بَيَانًا شَدِيدَ اللَّهْجَةِ تُنَدِّدُ فِيهِ بِوِزَارَةِ التَّجْهِيزِ بِسَبَبِ اِعْتِدَائِهَا عَلَى مَجْهُودِ الفَنَّانِينَ التَشْكِيلِيينَ فِي تَجْمِيلِ الجِسْرِ وَعَدَمِ تَثْمِينِ أَعْمَالِهِمْ الفَنِّيَّةِ. مَعَ أَنَّ لُطْفِي شَعْبَان لَمْ يُسَجِّلْ فِي مُحِيطِ الجِسْرِ وَأَعْمِدَتِهِ الخُرَسَانِيَّةِ سِوَى مُعَلَّقَاتِ تَحْذِيرِيَّةٍ صَفْرَاءَ تَمْنَعُ مَنْعًا بَاتًا تَعْلِيقَ اللَّافِتَاتِ الاِشْهَارِيَّةِ عَلَيْهِ. كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَلْمَسْ فِيمَا يَشْكُونَ مِنْهُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَمِّيهِ اِعْتِدَاءً بِالمعْنَى الاِجْرَامِيِّ لِلْكَلِمَةِ، وَأَنَّ الاِعْتِدَاءَ الوَحِيدَ الذِّي لَمَسَهُ فِي هَذِهِ القَضِيَّةِ، ويُعَاقِبُ عَلَيْهِ القَانُونُ، هُوَ اِسْتِخْدَامُ بَخَّاخَاتِ الدِّهَانِ عَلَى الملْكِ العَامِّ أَوِ الخَاصِّ دُونَ الحُصُولِ عَلَى إِذْنِ مَالِكِهَا، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الأَعْمَالَ المَوْسُومَةَ بِفَنِّ الرَّذَاذِ كَانَتْ مُفِيدَةً لِلْغَايَةِ لَهُ وَلِزُمَلَائِهِ المكَلَّفِينَ بِتَنْظِيمِ حَرَكَةِ المرُورِ فِي سَاحَاتِ العَاصِمَةِ وَمُفْتَرَقَاتِ طُرُقِهَا، فَهْيَ عَلَى الأَقَلِّ تَشْرَحُ صُدُورَهُمْ وَتَمْنَحُهُمْ شُعُورًا بِالبَهَاءِ وَالجَمَالِ بِمَا يَكْفِي اِنْتِزَاعَ شُحْنَةِ التَّوَتُّرِ لَدَيْهِمْ مِنْ أَيَّامِهِمْ الشَّاقَّةِ.
لَمْ يَسْتَبْعِدْ طَلَبَةَ الفُنُونِ الجَمِيلَةِ مِنِ اقْتِرَاحِهِ، أَخْبَرَهَا أَنَّهُمْ أَيْضًا قِمَّةُ الإِبْدَاعِ لَوْ يُمَكَّنُونَ مِنْ إِذْنٍ وَثَمَنِ عُلَبِ الرَّذَاذِ. لَكِنَّ العَجُوزَ هَزَّتْ كَتِفَيْهَا بِاسْتِخْفَافٍ وَأَعْلَمَتْهُ أَنَّ مَا يَشُدُّهَا حَقِيقَةً هُوَ السَّلَامُ لَهَا وَلابْنِهَا.
بَعْدَ أَنْ تَاهَ فِي ذِكْرَيَاتِ المَاضِي، شَعَّ وَجْهُ العَجُوزِ أَمَامَ عَيْنَيْهِ وَاسْتَرْجَعَ المشْهَدَ كُلَّهُ فِي ذَاكِرَتِهِ، رَاحَ لُطْفِي، خِلَالَ الدَّقَائِقِ الموَالِيَةِ، يُثَرْثِرُ بِالأَفْكَارِ المحْتَدِمَةِ فِي عَقْلِهِ: عَوْدَةُ العَجُوزِ إِلَى هَذِهِ السَّاحَةِ سَوْفَ يُسَبِّبُ الكَثِيرَ مِنَ المشَاكِلِ لَيْسَ لَهُ وَحْدَهُ، هُوَ المتَلَهِّفُ لِمَعْرِفَةِ المَزِيدِ عَنْهَا وَعَنْ هَذَا الهُرَاءِ الذِّي تَتَحَدَّثُ بِهِ، وَإِنَّمَا أيْضًا لِزَمِيلِهِ ذِي الطَّبْعِ البَارِدِ العَنِيدِ الذِّي تَرَكَهُ فِي المرَّةِ الفَائِتَةِ فِي مَوْقِفٍ صَعْبٍ يَتَدَبَّرُ أَمْرَ إِبْعَادِهَا. فَأَمَامَ إِصْرَارِهَا العَجِيبِ عَلَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ وَعْدًا بِالبَيْعِ وَعَجْزِهِ عَنْ نَزْعِ الفِكْرَةِ مِنْ رَأْسِهَا، وَفِي اللَّحَظَاتِ الأَخِيرَةِ، اِسْتَنْجَدَ بِهِ وَلَيْتَهُ لَمْ يَفْعَلْ، فَهْوَ لَمْ يَتَّخِذْ الخُطُوَاتِ الصَّحِيحَةَ، إِذْ أَنَّهُ بَادَرَهَا بِعِبَارَاتٍ خَشِنَةٍ قَاسِيَةٍ مِثْلَ شَوْكَةٍ يَابِسَةٍ فِي حَلْقٍ جَافٍّ.
”لِمَ لَا تَذْهَبِينَ إِلَى بَيْتِكِ بَدَلَ وِقْفَتَكِ الطَّوِيلَةِ هُنَا؟ أَمْ تُرِيدِينَ أَنْ أَسْتَعْمِلَ وَسَائِلِي الأُخْرَى لِأَجْعَلَكِ تَنْصَرِفِينَ؟ “
وَمَا إِنْ تَفَوَّهَ بِهَذَا ِالتَهْدِيدِ حَتَّى ذَهَلَتِ العَجُوزُ وَاتَّسَعَتْ عَيْنَاهَا غَيْرَ مُصَدِّقَةٍ وَتَيَبَّسَتْ شَفَتَاهَا كَمَا لَوْ كَانَتِ الدِّمَاءُ قَدْ جَفَّتْ فِيهِمَا وَثَقُلَ لِسَانُهَا فِي فَمِهَا فَلَمْ تَنْبُسْ بِكَلِمَةٍ. سَرَتْ فِي جَسَدِهَا رَعْشَةٌ مَحْمُومَةٌ فَلَبِثَتْ وَاقِفَةً لِلَحَظَاتٍ تَتَوَجَّعُ مِنْ كَلِمَاتِ التَّهْدِيدِ المهِينَةِ القَاسِيَةِ، سَادَ فِي الأَثْنَاءِ صَمْتٌ مَشْحُونٌ بِعَاصِفَةٍ مُخِيفَةٍ وَغَيْرَ مُتَوَقَّعَةٍ. حَدَّقَتْ فِي وَجْهِهِ بُرْهَةً وَقَلْبُهَا مُثْقَلٌ بِالحُزْنِ. وَلَمَّا عَايَنَتِ الأَذِيَّةَ فِي عَيْنَيْهِ وَخَشِيَتْ أَنْ يُسْمِعَهَا مِنَ الكَلَامِ الجَارِحِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ فُؤَادُهَا تَحَمُّلَهُ، كَبَحَتْ اِنْزِعَاجَهَا وَانْصَرَفَتْ.
لَمْ يَعْرِفْ لِمَاذَا لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لِتَلْطِيفِ الموْقِفِ المتَوَتِّرِ. كَانَتْ هُنَاكَ سُبُلٌ عِدَّة مُمْكِنَةٌ يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَهَا دُونَ أَنْ يُحْدِثَ مُوَاجَهَةً، وَلَكِنَّهُ تَرَدَّدَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَخَيَّلْ أَنْ عَبْدَ العَزِيزِ جَادٌّ وَأَنَّهُ كَانَ يَحْمِيهَا مِنْ نَفْسِهَا، وَلَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ الإِسَاءَةَ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ يَقْصِدُ حِمَايَتَهَا فَلَا يَظُنُّ أَنَّ التَّهْدِيدَ الطَّرِيقَةُ المثْلَى لِفِعْلِ ذَلِكَ، فَفِي النِّهَايَةِ هُوَ لَا دَخْلَ لَهُ فِي نَوَايَا الانْتِحَارِ. مَا الضَّرَرُ الذِي قَدْ يَلْحَقُ بِالنَّاسِ مِنْ طَوَافِ عَجُوزٍ حَوْلَ عَمُودٍ أَوْ النَّوْمِ تَحْتَهُ؟ فَمَاذَا يَهُمُّ عَوْنَ شُرْطَةِ مُرُورٍ مِنْ ذَلِكَ؟
رُبَّمَا لَوْ كَانَ زَمِيلٌ آخَرُ غَيْرَ لُطْفِي لَتَسَلَّى بِغَطْرَسَةِ رَجُلِ الأَمْنِ هَذَا، لأَنَّ العَجْرَفَةَ وَالاسْتِعْلَاءَ صِفَتَانِ مُلَازِمَتَانِ لِصُورَةِ أَبْنَاءِ السِّلْكِ الأَمْنِي، وَلَا يَخْلُو “الحَاكِمُ”، وَهْوَ المصْطَلَحُ المهَذَّبُ الذِّي أُطْلِقَ عَلَى رِجَالِ “البُولِيس”، وِفْقَ المعْجَمِ الشَّعْبِيِّ، مِنْ سُلُوكٍ غَرِيبٍ كَهَذَا لِفَرْضِ سُلْطَتِهِ وَنُفُوذِهِ فِي مُوَاجَهَةِ رُدُودِ الأَفْعَالِ المعَقَّدَةِ. إِلاَّ أَنَّ مُنْتَدَبَ مَا بَعْدَ الثَّوْرَةِ اِسْتِثْنَاءٌ، فَقَدْ بَقِيَ صَامِتًا مُتَفَاجِئًا والأَلَمُ يعْتَصِرُ قَلْبَه. شَعُرَ بِثِقَلٍ فِي صَدْرِهِ مِنَ الخَجَلِ. اِنْطَلَقَتْ مِنْهُ تَنْهِيدَةٌ حَارَّةٌ اقْتَلَعَهَا مِنْ أَعْمَاقِهِ اقْتِلَاعًا وَاكَبَتْ نَظْرَةَ الاِسْتِيَاءِ وَالِإحْسَاسِ بِالسُّخْطِ.
قَبْلَ فَتْرَةٍ لَيْسَتْ بَعِيدَةً سَقَطَ النِّظَامُ القَمْعِيُّ وَفَرَّ الطَّاغِيَةُ مِنَ البِلَادِ وَتَسَلَّمَ السُّلْطَةَ ضَحَايَا الاسْتِبْدَادِ الذِّينَ اِخْتَارُوا تَمَشِّيًا دِيمُقْرَاطِيًّا لِتَحْقِيقِ العَدَالَةِ الانْتِقَالِيَّةِ وَطَيَّ صَفْحَةِ الماضِي. خِيَارٌ مَكَّنَ السِّلْكَ مِنَ التَّحَوُّلِ السَّرِيعِ مِنْ مَجْرُورَةِ الأَمْنِ القَمْعِي إلى قَاطِرَةِ الأَمْنِ الجُمْهُورٍيِّ دُونَ أَنْ يَتَخَلَّصَ عَنَاصِرُهُ مِنْ بَعْضِ عَادَاتِهِمْ المرَكَّبَةِ فِي جِينَاتِهِمْ.
بَدَا لُطْفِي حَائِرًا. تَسَاءَلَ إِنْ كَانَ عَبْدُ العَزِيزِ وَأَمْثَالُهُ مِنْ عَنَاصِرِ الزَّمَنِ البَائِدِ يَسْتَطِيعُونَ مُوَاكَبَةَ المتَغَيِّرَاتِ الحَادِثَةِ وَقِيَادَةِ المَرْحَلَةِ القَادِمَةِ، مَرْحَلَة المسَارِ الاِنْتِقَالِيِّ إِلَى المَدِينَةِ الفَاضِلَةِ، فَالطَّبَائِعُ لَا تَتَغَيَّرُ بِسُهُولَةٍ وَالطَّبْعُ يَغْلِبُ التَّطَبُّعِ، كَمَا يُقَالُ، وَالمرَاهَنَةُ عَلَى الوَقْتِ أَمَلٌ كَاذِبٌ.
الظَّاهِرُ أَنَّ الحُكَّامَ الجُدُدَ المؤَقَّتِينَ كَانُوا وَاهِمِينَ إِذْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ بِقَذْفِ قَبْضَةِ سُكَّرٍ فِي المحِيطِ يَتَغَيَّرُ طَعْمُ المَاءِ، وَلُطْفِي، كَقِطْعَةِ سُكَّرٍ فِي قَعْرِ بَحْرِ القِطَاعِ الأَمْنِيِّ، لَا يَسْتَطِيعُ القِيَامَ بِشَيْءٍ مَا لِحِمَايَةِ سُمْعَةِ القِطَاعِ مِنْ دَنَسِ الكَرَاهِيَةِ وَاسْتَرْجَاعِ الثِّقَةِ المفْقُودَةِ، فَمَنْ يَسْتَدْرِجُ مَنْ، وَيَدُ عَبْدُ العَزِيزِ تُمْسِكُ بِالرَّايَةِ، وَهَذَا الأَخِيرُ لَهُ وَسَائِلهُ الخَاصَّةُ البِدَائِيَّةُ المتَوَحِّشَةُ يَسْتَدْعِيهَا مِنَ الجَحِيمِ؟
كَلَامٌ طَائِشٌ مِنَ المؤَكَّدِ أَنْ يُثِيرَ عَدَاءَ الموَاطِنِ وَكَرَاهِيَتَهُ لِلْأَمْنِ وَيَجْعَلُهُ مُضْغَةً فِي الأَفْوَاهِ.
بِالتَّأْكِيدِ لَمْ يَكُنْ لُطْفِي صُلْبَ القِطَاعِ أيَّامَ فِرَارِ المسْتَبِدِّ مِنْ قَصْرِ قَرْطَاج. كَانَ وَقْتَهَا، وَهْوَ ابْنُ الثَّانِيَةِ وَالعِشْرِينَ، رَابِضًا عَلَى حَاجِزٍ مِنْ الصُّخُورِ فِي نَاصِيَةٍ مِنْ نَوَاصِي شَارِعٍ بِالضَّاحِيَةِ الغَرْبِيَّةِ مَعَ ثُلَّةٍ مِنْ أَبْنَاءِ الجَيَّارَةِ. كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقِفُوا، هُنَاكَ، اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلِأَيَّامٍ ثَلاَثٍ أَوْ أَكْثَرَ حَامِلِينَ الهِرَاوَاتِ وَالعِصِيَّ لِحِمَايَةِ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ مِنْ خَطَرٍ مُفْتَرَضٍ لَمْ يَتَسَنَّ لَهُمْ رُؤْيَتهُ أَبَدًا. لَكِنَّهُ سَمِعَ مِنْ زُمَلَاءِ القِطَاعِ حِكَايَاتٍ كَثِيرَةً تُرْوَى عَنْ مُغَادَرَةِ الأَمْنِيِّينَ لِأَمَاكِنِ عَمَلِهِمْ وَهُرُوبِهِمْ مِنَ الخِدْمَةِ. سَمِعَهُمْ بِنَفْسِهِ يَحْكُون أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ عَرَفُوا مَاذَا يَعْنِي أَنْ تُخْفِيَ هَوِيَّتَكَ وَتَخْتَفِيَ كَمُجْرِمٍ فِي ذِلَّةٍ، تَتَسَلَّلُ فِي الظَّلَامِ فِي قَلْبِ اللَّيْلِ وَتَتَحَرَّكُ فِي صَمْتٍ دُونَ تَنَفُّسٍ. وَثَمَّةَ مَنْ قَالَ إِنَّ حُرَّاسَ الطُّرُقَاتِ هُمْ أَيْضًا تَرَكُوا أَمَاكِنَهُمْ وَلَزِمُوا بُيُوتَهُمْ مُتَوَجِّسِينَ.
وَمِنَ المفَارَقَاتِ الغَرِيبَةِ أَنْ يَلْتَحِقَ لُطْفِي بِالسِّلْكِ فِي زَمَنٍ كَانَ فِيهِ أُنَاسٌ مُسَلَّحُونَ يَرْتَعُونَ فِي البِلَادِ بِالطُّولِ وَالعَرْضِ وَتَدُورُ كَمِّيَّاتٌ هَائِلَةٌ مِنَ الأَسْلِحَةِ النَّارِيَّةِ المتَطَوِّرَةِ وَمَبَالِغُ مَالِيَّةٌ هَامَّةٌ مِنَ العُمْلَةِ الصَّعْبَةِ مَجْهُولَةِ المصْدَرِ.
وَكَانَتْ مُعَارَضَةُ وَالِدَيْهِ شَدِيدَةً حِينَ بَلَغَ إِلَى عِلْمِهِمَا عَزْمُهُ عَلَى المشَارَكَةِ فِي المنَاظَرَةِ الخَارِجِيَّةِ المفْتُوحَةِ ِلانْتِدَابَاتِ سَنَةِ 2012، فَهُمَا لَمْ يُصَدِّقَا رَغْبَتَهُ الملِحَّةَ فِي وُلُوجِ دَائِرَةٍ هِيَ مَزْرَعَةٌ لِدُعَاءِ الشَّرِّ وَمَنْسُوبٌ مُرْتَفِعٌ للكَرَاهِيَةِ.
– الأُمُورُ غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ، يَا ابْنِي، سَتَذْهَبُ عَفْسَ حَوَافِرِ أَجْنَحَةِ عِصَابَاتِ المافِيَا وَخَلَايَا الإِرْهَابِ فَلَا أَحَدَ يَعْلَمُ مَنْ هِيَ الجِهَاتُ الّتِي تَقِفُ وَرَاءَهَا وَتُسْنِدُهَا، وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَكْثَرَ غَرَابَةً وإِلْغَازًا مِمَّا يَحْدُثُ بَيْنَ فِرْقَةِ أَمْنٍ وَأُخْرَى، أَوْ بَيْنَ الأَمْنِ وَالقَضَاءِ.
كَانَ وَالِدُهُ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيٍّ بِلَا ظَهْرٍ، يَتَكَلَّمُ وَيَتَكَلَّمُ. يَتَحَدّثُ بِمَا سَجَّلَهُ ذِهْنُهُ مِنْ أَحَادِيثِ المَقَاهِي وَمَا تَذَكَّرَهُ مِنْ أَخْبَارٍ أَوْرَدَتْهَا الصُّحُفُ يَوْمًا مَا، وأَحْيَانًا، فِي خَلْطِهِ الوَاضِحِ، يَسْحَبُ مِنَ الجَابِيَةِ وَيَصُبُّ فِي الخَابِيَةِ. يَحْلِبُ الوَقَائِعَ مِنْ أَحْدَاثِ الأَيَّامِ المحْمُومَةِ الّتِي تَلَتْ هُرُوبَ المخْلُوعِ، كَحِكَايَةِ القَنَّاصَةِ، وَحِكَايَةِ صُوَرِ الْعَنَاصِرِ الإِرْهَابِيَّةِ الموْقُوفَةِ التِي لَمْ يُسْفِرْ التَّحْقِيقُ مَعَهَا عَنْ أَدِلَّةٍ ثَابِتَةٍ تَكْشِفُ عَنِ الأَيَادِي الخَفِيَّةِ التِّي تُحَرِّكُ اللُّعْبَةَ، وَكَانَ لُطْفِي يَقِفُ مُلْتَصِقًا بِحَائِطِ السُّورِ يَنْظُرُ بَعِيدًا إِلَى سُكَّانِ الحَيِّ المتَجَمّعِينَ فِي حَلَقَاتٍ صَغِيرَةٍ مُتَنَاثِرَةٍ أَمَامَ بِيُوتِهم فِرَارًا مِنَ الهَواءِ الرَّاكِدِ دَاخِلَ الدُّورِ، فَالحَرَارَةُ فِي الدَّاخِلِ خَانِقَةٌ لَا تُطَاقُ. أَمَّا أُمُّهُ فَكَانَتْ تَفْتَرِشُ جِلْدَ خَرُوفِ طُرِحَ عَلَى الأَرْضِ بِجَانِبِ الكَانُونِ وَبِيَدِهَا “بَرَّادَ التَّايْ” تَفْتَحُ غِطَاءَهُ وَتَخُضُّهُ بِوَتِيرَةٍ مُتَسَارٍعَة لِتُخَفِّفَ مِنْ شِدَّةِ فَوَرَانِهِ وَاهْتِزَازِهِ نَتِيجَةَ غَلَيَانِهِ، وَمِنْ حِينٍ لِآخَرَ تَتَطَلَّعُ فِي وَجْهِ زَوْجِهَا مِنَ الأَسْفَلِ ثُمَّ تُرْجِعُ النَّظَرَ إِلَى مَا فِي يَدِهَا وَجَبْهَتُهَا تَلْمَعُ مِنَ العَرَقِ.
كَانَتْ ضَحَكَاتُ الجِيرَانِ تَصِلُهُمْ مِنْ بَعِيدٍ، حِينَ عَلَّقَ لُطْفِي قَائِلًا:
– يُقَالُ إِنَّهُمْ بَقَايَا عِصَابَةِ الطَّاغِيَةِ وَجُمُوعِ حِزْبِهِ المنْحَلِّ يَتَدَثَّرُونَ بِثَوْبِ الجَمَاعَاتِ المتَطَرِّفَةِ لِلْاِلْتِفَافِ عَلَى الثَوْرَةِ.
لَمْ تُنْشَرْ نَتَائِجُ الأَبْحَاثِ مُطْلَقًا فَصَارَ لِكُلِّ فَرْدٍ رِوَايَتُهُ لِمَجْمُوعِ الأَحْدَاثِ وَالوَقَائِعِ الماضِيَةِ، وَكَانَ أَغْلَبُ الرِّوَايَاتِ تَمِيلُ إِلَى عَدَمِ تَصْدِيقِ الصُّوَرِ وَتَعْتَبِرُهَا مُنْتَجًا جَيِّدًا فِي سُوقِ المسَاوَمَاتِ لِلتَّخْوِيفِ وَالابْتِزَازِ وَالتَّوَحُّشِ. لَا شَيْءَ وَاضِحٌ فِي الأَذْهَانِ بِمَا أَنَّ أَخْبَارَ العَائِلَةِ المَالِكَةِ وَفَضَائِحَهَا قَدْ طَغَتْ عَلَى مَا دُونَهَا مِنْ حَدِيثٍ. نَهْبٌ لِلْقُصُورِ وَالعَقَّارَاتِ، سَطْوٌ عَلَى الأَمَاكِنِ الأَثَرِيَّةِ وَتَحْوِيلُهَا إِلَى مَسَاكِنَ فَخْمَةٍ، وَرُكُوبٌ عَلَى الثَّوْرَةِ مِنْ حَامِلِي لِوَاءِ الفَسَادِ.
تَنَهَّدَتْ أُمُّهُ وَهْيَ تَسْكُبُ بِبُطْءٍ القَلِيلَ مِنَ الشَّايِ فِي كَأْسٍ صَغِيرٍ شَفَّافٍ وَتَذُوقُهُ بِرَشْفَةٍ طَوِيلَةٍ. جَذَبَ صَوْتُ تَرَشُّفِهَا لِلسَّائِلِ الأَحْمَرٍ عَيْنَيْ الأَبِ، فَتَابَعَ البُخَارَ وَهْوَ يَتَعَالَى وَيَتَشَابَكُ مَعَ خُيُوطِ الدُّخَانِ ثُمَّ يَتَلَاشَى فِي الجَوِّ.
– حَرْبُ الدَّوْلَةِ العَمِيقَةِ، يَا ابْنِي، فِي الإِدَارَةِ وَلَيْسَتْ فِي الجِبَالِ. أَغْلَبُ الشُّعَبِ المِهْنِيَّةِ غَيَّرَتْ كِسَاءَهَا وَتَحَوَّلَتْ إِلَى نَقَابَاتٍ أَسَاسِيَّةٍ. وَهَذَا الّذِي يَحْدُثُ فِي الجِبَالِ هُوَ لُعْبَةُ اسْتِخْبَارَاتِ دُوَلٍ فِي مُحَاوَلَةٍ لِإِجْهَاضِ الثَوْرَةِ.
– إِذَا لَمْ تَنَمْ فِي جَبَّانَةٍ فَإِنَّكَ لَنْ تَرَى أَحْلَامًا مُخِيفَةً.
تَدَخَّلَتْ أُمُّهُ مُتَحَدِّثَةً، ثُمَّ تَنَحْنَحَتْ وسَكَتَتْ قَلِيلًا، قَبْلَ أَنْ تَسْتَأْنِفَ كَلَامَهَا قَاِئلَةً:
– ”نَاسْ بِكْرِي “قَالُوا: مَنْ خَافَ نَجَا. تَسْجِيلُ اسْمِكَ فِي عُمَّالِ الحَضَائِرِ أَسْلَمُ لَكَ.. فَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَحْتَرِمُونَ رِجَالَ الأَمْنِ. إِذَا عَمِلْتَ مَعَهُمْ سَوفَ يَسْتَغِلُّونَكَ كَطَفَّايَةِ سجَائِرَ لِتَرْوِيضِ الحَرَكَاتِ المتَطَرِّفَةِ وَجُنُونِ المعْتَصِمِينَ.
كَانَتْ أُمُّهُ قَلِقَةً عَلَى مُسْتَقْبَلِهِ. اِسْتَغْرَبَتْ أَنْ يَؤُولَ بِهِ المَصِيرُ إِلَى عُشِّ الأَفَاعِي وَالعَقَارِبِ، فَطَمْأَنَهَا بِأَنَّ الزَّمَنَ قَدْ تَغَيَّرَ وَأَنَّ هَذِهِ فُرْصَتُهُ الوَحِيدَةُ الّتِي يَجِبُ أَنْ لَا يَفْقِدَهَا بَعْدَ أَنْ وُئِدَتْ أَحْلَامُهُ كُلُّهَا بِانْقِطَاعِهِ عَنِ الدِّرَاسَةِ قَبْلَ بُلُوغِهِ مُسْتَوَى البَاكَالُورِيَا.
كَانَ مِنَ العَبَثِ تَضْيِيعُ الوَقْتِ فِي البَحْثِ عَنْ شُغْلٍ خَارِجَ تِلْكَ الدَّائِرَةِ، دَائِرَةِ القِطَاعِ الأَمْنِيِّ. رَغْمَ أَنَّ وَقْتَهُ أَصْلًا كَانَ بِلَا قِيمَةٍ، وَكَانَ قَدْ ضَيَّعَهُ في التَّسَكُّعِ هُنَا وَهُنَاكَ بِلَا هَدَفٍ، وَقَتَلَهُ بالتَفْكِيرِ فِي طَرِيقَةٍ لِاعْتِلَاءِ قَوَارِبِ الموْتِ وَحَرْقِ الذَّاتِ. حِينَ كَانَ رِيحُ اليَأْسِ يَعْصِفُ بِهِ كَانَ يَشْعُرُ بِكَوْنِهِ مَيِّتًا يَعِيشُ بَيْنَ النَّاسِ. لَيْسَ هُنَاكَ أَفْظَعَ مِنْ ذَاكَ الشُّعُورِ الذِّي تَمَلَّكَهُ آنَذَاكَ. وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ لَمْ يَكُنْ لَدَيْهِ خَيَارَاتٌ كَثِيرَةٌ يَلْجَأُ إِلِيْهَا، فَالعُثُورُ عَلَى شُغْلٍ، فِي ظِلِّ الوَظَائِفِ الهَشَّةِ التِّي جُعِلَتْ لِشِرَاءِ السِّلْمِ الأَهْلِيِّ وتَعَاظُمِ كُلْفَةِ الانْتِقَالِ الدِّيمُقْرَاطِيِّ، لَيْسَ بِالأَمْرِ الهَيِّنِ. لَمْ يَكُنْ بِوِسْعِ المَرْءِ تَأْكِيدُ ذَلِكَ بِصُورَةٍ جَلِيَّةٍ مَادَامَ رِجَالَاتُ السِّيَاسَةِ وَالِإعْلَامِ يُؤَكِّدُونَ فِي الصُّحُفِ اِلْتِزَامَ الدُّوَلِ الكُبْرَى بِدَعْمِ خَيَارِ الانْتِقَالِ السِّلْمِيِّ فِي البِلَادِ، وَيَمْنَحُونَ الأَمْوَالَ البَاهِظَةَ لِكَسْبِ الرِّهَانِ. وَهَكَذَا أُحْدِثَتْ هَيْئَاتٌ لِتَفْكِيكِ إِرْث المَاضِي وَتَحْقِيقِ أَهْدَافِ الثَّوْرَةِ.
لِحَظِّهِ العَاثِرِ، لَمْ يَحْصُلْ لُطْفِي عَلَى نَصِيبِهِ مِنْ عُرُوضِ الشُّغْلِ الجَدِيدَةِ المحْدَثَةِ، كَانَ أَكْثَرُهَا مُوَجَّهًا لِأَصْحَابِ الشَّهَائِدِ العُلْيَا. لَكِنَّ حَظَّهُ العَظِيمَ جَاءَهُ صُدْفَةً عَنْ طَرِيقِ عُرُوضِ العَمَلِ المجَمَّعَةِ فِي الأَمْنِ وَالحِرَاسَةِ.
بِالطَّبْعِ لَا يُمْكِنُ الالْتِفَاُف عَلَى حَقِيقَةٍ صَادِمَةٍ وَهْيَ أَنَّ الإِعْلَانَ عَنْ فَتْحِ أَبْوَابِ الانْتِدَابَاتِ جَاءَ فِي انْدِفَاعَةٍ مُفَاجِئَةٍ تَحْتَ الضُّغُوطَاتِ القَاهِرَةِ، وَبِتَكْلُفَةٍ ثَقِيلَةٍ.
فِي الوَقْتِ الذِّي كَانَتْ فِيهِ الخَزِينَةُ العُمُومِيَّةُ فَارِغَةً، بَعْدَ أَنْ فَرَّتْ عَائِلَةُ المخْلُوعِ بِالأَمْوَالِ وَتَشَتَّتَتْ فِي أَنْحَاءِ الأَرْضِ كُلِّهَا، بَالَغَ الحُكَّامُ الجُدُدُ فِي تَجْهِيزِ الأَمْنِ وَتَكْثِيرِ عَدَدِهِ. تَصَرُّفٌ غَرِيبٌ لَا يُوجَدُ لَهُ تَفْسِيرٌ مَنْطِقِيٌّ سِوَى الإِيحَاءِ بِأَنْ لَيْسَ لَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ أَيُّ أَثَرٍ لِضَغِينَةٍ أَوْ تَشَفٍّ وَانْتِقَامٍ، وَأَنَّ مُعَانَاتَهِمْ قَدْ وَضَعُوهَا خَلْفَ ظُهُورِهِمْ وَالْتَفَتُوا إِلَى البِنَاءِ. أَنْ تَكُونَ الموَازَنَةُ المالِيَّةُ مَخْرُومَةً فَهَذَا شَيْءٌ عَادِيٌّ يَحْدُثُ دَوْمًا فِي هَذَا البَلَدِ، تُنْهَبُ خَزِينَتُهُ ثُمَّ تَعُودُ مَلْآى كَمَا كَانَتْ!
يُذْكَرُ أَنَّهُ خِلَالَ أَزْمَةِ غِذَاءِ عَسْكَرِ المحَمَّدِيَّةِ الذِّي لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ قَمْحِ تُونِسَ، فَرَّ قَابِضُ مَالِ الدَّوْلَةِ التُّونِسِيَّةِ مِنْ قَبْضَةِ البَايِ، قَبْلَ أَنْ يُقَدِّمَهُ البَايُ كَكِسْرَةِ خُبْزٍ طَعَامًا لِعَسْكَرِهِ، وَأَخَذَ مَعَهُ كُنُوزَ الدَّوْلَةِ وَأَمْوَالَهَا. فَصَّلَهَا التَّارٍيخُ وَتَحَدَّثَ عَنْهَا لِلْعِظَةِ وَعَدَمِ التِّكْرَارِ. وَلَكِنْ دُونَ جَدْوَى، فَقَدْ تَكَرَّرَتِ السَّرِقَاتُ وَتَكَرَّرَ مَدُّ اليَدِ إِلَى الأُمَمِ لِلتَّدَايُنِ لِسَدِّ العَجْزِ حَتَّى أَلِفَهَا النَّاسُ وَمَا عَادَتْ تُثِيرُ اهْتِمَامَهُمْ.
المثِيرُ حَقًّا مَا أَوْلَاهُ الضَّحِيَّةُ مِن اهْتِمَامٍ بِجَلَّادِهِ وَجَزِيلِ عَطَائِهِ لَهُ.
إِلاَّ أَنَّ ذَاكَ الأَمْرَ الغَرِيبَ غَيْرَ المفْهُومِ، الّذِي لَمْ يُضِفْ لِلضَّحِيَّةِ إِلاَّ دَمَارَ سُمْعَتِهِ التِي اكْتَسَبَهَا بِالمَنَافِي وَالسُّجُونِ، هُوَ الّذِي فَتَحَ للُطْفِي بَابَ الأَمَلِ فِي شُغْلٍ يَحَفَظُ لَهُ كَرَامَتَهُ وَيُؤَمِّنُ لَهُ مُسْتَقْبَلَهُ.
اِسْتَحْضَرَ لُطْفِى الكَثِيرَ مِنَ الأَحْدَاثِ كَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ حَدَثَ مُنْذُ فَتْرَةٍ قَرِيبَةٍ. يَذْكُرُ أَنَّهُ قَالَ لِأَبَوَيْهِ ضَاحِكًا وَهْوَ يَلِجُ فِي الدَّارِ:
– عَلَى كُلِّ حَالٍ، لَا بُدَّ أَنْ تَعْلَمَا أَنِّي سَأَعْمَلُ بِإِدَارَةِ المرُورِ وَلَا عَلَاقَةَ لِشُرْطَةِ المرُورِ بِمُوَاجَهَةِ مَوْجَةِ الاِعْتِصَامِ وَالحَرَكَاتِ الاِحْتِجَاجِيَّةِ فَهْيَ مِنْ مَهَامِّ جِهَازِ مُكاَفَحَةِ الشَّغَبِ.
مِمَّا دَفَعَ وَالِدَهُ إِلَى القَوْلِ مُذْعِنًا، عَلَى الرُّغْمِ مِنْ عَجْزِ أُمِّهِ عَنْ طَمْأَنَةِ قَلَقِهَا:
– يُقَرِّبُ اللَهُ مَا فِيهِ الخَيْر.
وَهْوَ فِي الدَّاخِلِ سَمِعَهُ يَتَمَنَّى لَهُ التَّوْفِيقَ.
وَحِينَ قُبِلَ مَطْلَبُهُ وَصَارَ عُنْصُرًا نَشِيطًا بِإِدَارَةِ المرُورِ وَجَدَ نَفْسَهُ يُنْصِتُ لِعَبْدِ العَزِيزِ وَيَنْقَادُ لَهُ. صَارَ عَبْدُ العَزِيزِ مُدَرِّبَهُ وَالوَصِيَّ عَلَيْهِ، وَالحَارِسَ الأَمِينَ لِلْجِسْرِ الاِنْتِقَالِيّ لِلْأَمْنِ الجُمْهُورِي.
ظَلَّ كَجِرْوٍ صَغِيرٍ يَتْبَعُهُ مِنْ مُفْتَرَقِ طُرُقٍ إِلَى آخَرَ، وَمِنْ سَاحَةٍ عُمُومِيَّةٍ إِلَى أُخْرَى. وَفِي ظِلِّ حُضُورِهِ الصَّامِتِ كَتَابِعٍ وَفِيٍّ، لَاحَظَ سُلُوكًا غَيْرَ قَابِلٍ لِلتَّفْسِيرِ.
كَانَ عَبْدُ العَزِيزِ يَتَعَامَلُ مَعَهُ بِمَنْطِقِ الخِبْرَةِ وَالتَّفَوُّقِ، يَأْمُرُهُ بِرَكْنِ سَيَّارَةِ الشُّرْطَةِ فِي الأَطْرَافِ المعْزُولَةِ منَ الطَّرِيقِ، خَلْفَ سَاتِرٍ تُرَابِيٍّ كَأَنَّهُ تَلَّةٌ أَوْ شُجَيْرَاتُ سِيَاجِ الحُقُولِ المتَشَابِكَةِ أَوْ فِي شُقُوقِ فُتُحَاتِ الأَشْوَاكِ العِمْلَاقَةِ الوَاقِعَةِ عَلَى مَسَافَةِ عَشَرَاتِ الأَمْتَارِ مِنْ مُفْتَرَقَاتِ الطُّرُقِ التِّي نُصِبَتْ فِيهَا إِشَارَاتٌ ضَوْئِيَّة. يَلْبُدُ هُنَاكَ فِي زَاوِيَةٍ بِشَكْلٍ شَاذٍّ يَسْتَحِيلُ مَعَهَا رُؤْيَتُهُ بِالعَيْنِ المجَرَّدَةِ مِنْ جِهَةِ المفْتَرَقِ وَكَأَنَّهُ يَغُوصُ فِي ثُقْبٍ مُعَتَّمٍ. وَيَبْقَى مُتَحَفِّزًا كَصَيَّادٍ يَتَرَبَّصُ بِفَرِيسَتِهِ يَنْتَظِرُ المخَالِفِينَ لِإِشَارَاتِ المرُورِ الضَّوْئِيَّةِ أَوْ مُضْمِرِي النِيَّةِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنِ الاِحْتِمَالُ مُتَوَقَّعًا فَهَذَا سَيَدْفَعُهُ كَيْ يَرْتَمِى أَمَامَ السَّيَّارَاتِ كَالكَنْغَرِ فِي حَرَكَةٍ جَرِيئَةٍ فِيهَا الكَثِيرُ مِنَ المخَاطَرَةِ، وَعَلَى وَجْهِهِ تَلُوحُ اِبْتِسَامَةُ المنْتَصِرِ. يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى سُوَّاقِهَا كَيْ يَتَوَقَّفُوا، وَحِينَ يَلْمَسُ الإِذْعَانَ لَهُ يَبْدَأُ فِي المشْيِ مُخْتَالًا، وَبِبُطْءٍ قَاتِلٍ، وَالتَّحْوِيمِ حَوْلَ العَرَبَاتِ يَتَفَحَّصُ لَوْحَاتِهَا المنْجَمِيَّةَ مِنَ الخَلْفِ، وَشَهَادَاتِ فَحْصِهَا الفَنِّي اللَّاصِقَةَ عَلَى الزُّجَاجِ الأَمَامِيِّ قُرْبَ شَهَادَاتِ التَّأْمِينِ وَمَعْلُومِ الجَوَلَانِ. ثُمَّ يَتَزَحْزَحُ مِنْ مَكَانِهِ. يَسِيرُ، بِنَفْسِ الحَرَكَةِ المتَثَاقِلَةِ، فِي اتِّجَاهِ نَافِذَةِ السَّائِقِ وَهْوَ يَجُولُ بِعَيْنَيْهِ الغَائِرَتَيْنِ يُدَقِّقُ النَّظَرَ فِي مَا فَوْقَ الكَرَاسِي وَكَأَنَّهُ جَامِعُ آثَارٍ يُقَلِّبُ وَيَتَفَحَّصُ قِطْعَةً أَثَرِيَّةً نَادِرَةً بِعَدَسَةِ مِجْهَرٍ. وَحِينَ يَصِلُ إِلَيْهَا، يَرْفَعُ يَدَهُ مُحَيِّيًا التَّحِيَّةَ العَسْكَرِيَّةَ المفْرُوضَةَ وَيَطْلُبُ مَدَّهُ بِبِطَاقَةِ الهُّوِيَّةِ وَرُخْصَةِ السِّيَاقَةِ. وَفِي الوَقْتِ الذِّي يَكُونُ فِيهِ قَلْبُ السَّائِقِ مُشْبَعًا بِالخِشْيَةِ وَالتَّوَتُّرِ، تَكُونُ بَيَانَاتُ ظَهْرِ بِطَاقَةِ التَّعْرِيفِ الوَطَنِيِّةِ مَحَلَّ اهْتِمَامِ العَوْنِ وَتَدْقِيقِهِ، قَبْلَ تَحْدِيدِ طَرِيقَةَ التَّعَامُلِ، إِمَّا أَنْ يُقَرِّرَ التَّخَلِّيَ عَنِ المخَالَفَةِ المزْعُومَةِ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ، وَيَتْرُكُهُ يَمْضِي، أَوْ يَطْلُبُ أَوْرَاقَ السَّيَّارَةِ وَيَفْرُدُ دَفْتَرَ المخَالَفَاتِ عَلَى سَطْحِ العَرَبَةِ عَلَى مُسْتَوَى رَأْسِ السَّائِقِ وَيَنْتَظِرُ.
يَعْلَمُ لُطْفِي جَيِّدًا أَنَّهُ لَنْ يُدَوِّنَ فِيهِ شَيْئًا، لَيْسَ لَأَنَّ مَهَمَّتَهُمَا أَصْلًا هُوَ الوُقُوفُ فِي قَلْبِ مُفْتَرَقَاتِ الطُّرُقِ لِتَنْظِيمِ وَتَسْيِيرِ حَرَكَةِ السَّيْرِ، بَلْ لِسَبَبٍ آخَرَ أَيْضًا، وَهْوَ تَوْفِيرُ المتَّسَعِ مِنَ الوَقْتِ لَكَيْ يُدْرِكَ السَّائِقُ حَجْمَ الجُرْمِ الّذِي وَقَعَ فِيهِ فَيَشْرُعُ فِي التَّذَلُّلِ وَالاسْتِعْطَافِ لِثَنْيِهِ عَنْ كِتَابَةِ المحْضَرِ. وَلَمْ يَكُنْ يَبْدُو عَلَى مَلَامِحِ لُطْفِي أَنَّهُ يُلَاحِظُ تِلْكَ اللُّعْبَةَ، لُعْبَةَ المقَالِبِ مَعَ المخَالِفِينَ، وَكَيْفَ يَخْفُتُ صَوْتُ عَبْدِ العَزِيزِ لَمَّا يَنْفَرِدُ بِالسَّائِقِ، وَكَيْفَ تَسْرِي الهَمْهَمَةُ بَيْنَهُمَا وَتَتَحَرَّكُ يَدَاهُ لِتَتَجَاوَزَ حَدَّ النَّافِذَةِ بِقَلِيلٍ.
وَانْشَغَلَ لُطْفِي بِتِلْكَ التَّفَاصِيلِ الصَّغِيرَةِ، مَاذَا تَصْنَعُ يَدُ “الشَّافْ” دَاخِلَ حِمَى السَّيَّارَاتِ؟ وأَحَسَّ بِخَيْبَةِ أَمَلٍ فِي تِلْكَ الصُورَةِ الجَمِيلَةِ الحَالِمَةِ التِّي كَانَ يحَمِلُهَا فِي ذِهْنِهِ لِرَجُلِ شُرْطَةِ مَا بَعْدَ الثَّوْرَةِ. كَانَ يَتَخَيَّلُهُ وَاسِعَ البَالِ كَطَبِيبٍ، سَمْحَ الخُلُقِ كَمُرَبٍّ، ثُمَّ انْقَشَعَ الوَهْمُ فَجْأَةً وَتَلَاشَى عِنْدَمَا أَخْبَرَهُ عَبْدُ العَزِيزِ ذَاتَ مرّةٍ وَبِصَرَاحَةٍ بِأَنَّ الشَّرِيحَةَ التِّي يَتَعَامَلُونَ مَعَهَا هِيَ شَرِيحَةُ مَرْضَى مِنْ نَوْعٍ آخَرَ لَا يُفِيدُ فِيهِمْ أَدَوَاتُ الأَطِبَّاءِ! لَمْ يُنَاقِشْهُ فِي هَذَا وَلَكِنَّهُ رَأَى فِيهِ عَقْلًا مُنْغَلِقًا لاَبِسًا ثَوْبَ تَأْيِيدِ الثَّوْرَةِ.
يَتَوَزَّعُ تَوْقِيتُ عَمَلِ الدَّوْرِيَّةِ عَلَى حِصَصِ تَنَاوُبٍ بِحِسَابِ ثَمَانِي سَاعَاتٍ لِكُلِّ حِصَّةٍ، عَلَى امْتِدَادِ الأَرْبَعِ وَالعِشْرِينَ سَاعَةً. فَتْرَةُ الدَّوَامِ المسَائِيَّةُ، الممْتَدَّةُ مِنَ الوَاحِدَةِ بَعْدَ الظُّهْرِ إِلَى التَّاسِعَةِ لَيْلًا، هِيَ الأَثْقَلُ عَلَى صَدْرِ لُطْفِي، إِذْ هُوَ يَعُودُ مُنْهَكًا يَقْتُلُهُ التَّعَبُ بَعْدَ أَنْصَافِ اللّيَالِي جَرَّاءَ مُشْكِلِ التَّنَقُّلِ، رَغْمَ تَمَتُّعِهِ بِمَجَانِيَّةِ النَّقْلِ، فَفِي اللَّيْلِ تَفْرَغُ الطُّرُقَاتُ وَتَسُودُ الوِحْشَةُ وَتَقِلُّ الموَاصَلَاتُ إِلَى حَدِّ الانْتِفَاءِ.
يَتَذَكَّرُ لُطْفِي أَيَّامَهُ الأُولَى فِي العَمَلِ كَعَوْنٍ مُسْتَجَدٍّ، وَكَيْفَ كَانَ هُوَ وَ”الشَّافْ” يَعُودَانِ إِلَى المَركَزِ بَعْدَ أَنْ يَسْكُنَ كُلُّ شَيْءٍ. هُنَاكَ يَرْكُنُ سَيَّارَةَ الشُّرْطَةِ وَيُغَيِّرُ مَلَابِسَهُ، يَخْلَعُ زِيَّ الشُّرْطِيِّ وَيَرْتَدِي بِدْلَتَهُ المدَنِيَّةَ. ثُمَّ يَمْتَطِي سَيَّارَةَ عَبْدِالعَزِيزِ المسْتَعِدِّ دَوْمًا لِحَمْلِهِ إِلَى أَقْرَبِ نُقْطَةِ مُرَاقَبَةٍ لِلْحَرَسِ الوَطَنِيّ، يُنْزِلُهُ هُنَاكَ، يُوصِي عَلَيْهِ أَحَدَ الأَعْوَانِ ثُمَّ يَنْطَلِقُ بِالسُّوزُوكِي بَالِينُو (Suzuki Baleno) بَعِيدًا وَهْوَ يَتَوَهَّجُ بِبَرِيقِ أَشِعَّةِ مَصَابِيحِ أَعْمِدَةِ الإِنَارَةِ لَحَظَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَغْرَقَ فِي سَوَادِ العَتَمَةِ.
يَقُومُ الأَعْوَانُ بِخِدْمَةِ زَمِيلِهِمْ. يُوقِفُونَ العَرَبَاتِ بِإِشَارَةٍ مِنْ أَيْدِيهِمْ، يَسْتَفْسِرُونَ السُّوَّاقَ عَنِ الوُجْهَةِ التِّي يَسْلُكُونَهَا. فَإِذَا صَدَفَ أَنْ كَانَتْ نَفْسَ الوُجْهَةِ المرْجُوَّةِ، يَسْأَلُونَ بِكُلِّ احْتِرَامٍ وَأَدَبٍ:
– أَلَا تُمَانِعُ أَنْ تَحْمِلَ مَعَكَ أَحَدَ الزُّمَلَاءِ؟
وَبِالطَّبْعِ كَانُوا لَا يُمَانِعُونَ فِي القِيَامِ بِهَذَا المعْرُوفِ، خُصُوصًا أَصْحَابُ الشَّاحِنَاتِ الثَّقِيلَةِ، وَالخَفِيفَةِ أَيْضًا، إِلَى أَنْ وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ وَكَانَتْ تِلْكَ الحَادِثَةُ.
فِي إِحْدَى اللَّيَالِي، وَبَعْدَ مُرُورِ أَشْهُرٍ، اكْفَهَرَّ وَجْهُ أَحَدِهِمْ والْتَهَبَتْ نَظَرَاتُ عَيْنَيْهِ الّتِي لَا تَرِفُّ كَشُعْلَةِ نَارٍ تُوحِي أَنَّهُ مِنْ رِجَالَاتِ الجَيْشِ، وَأَجَابَهُ بِكَلِمَاتٍ لَاذِعَةٍ:
– تُوَجِّهُ إِلَى رَأْسِي سِلَاحَكَ، ثُمَّ تَطْلُبُ مِنِّي أَنْ أَحْمِلَ زَمِيلَكَ! “لَا بَاسْ فِي مُخِّكْ؟”
فَتَجَمَّدَ العَوْنُ مَذْهُولًا وَحَبَسَ أَنْفَاسَهُ. حَاوَلَ أَنْ يَنْطِقَ بِاعْتِذَارٍ يُشْبِهُ الهَذَيَانَ، لَكِنَّ السَّائِقَ كَانَ قَدْ أَيْقَظَ الغَيْظَ وَمَضَى. نَظَرَ العَوْنُ بِاتِّجَاهِ لُطْفِي لِيَرَى إِنْ كَانَ قَدْ سَمِعَ مَا تَفَوَّهَ بِهِ السَّائِقُ فَرَآهُ قَدِ ابْتَعَدَ وَانْتَقَلَ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ لِشُعُورِهِ بِالإِحْرَاجِ وَالإِحْسَاسِ بِالذَّنْبِ.
وَبَعْدَ ذَلِكَ، صَارَ لُطْفِي يُوقِفُ العَرَبَاتِ بِإِبْهَامِهِ.
وَهَا هُوَ اليَوْمَ يَعْمَلُ أَثْنَاءَ فَتْرَةِ دَوَامٍ صَبَاحِيَّةٍ، فِي إِحْدَى أَشهَرِ السَّاحَاتِ بِالعَاصِمَةِ. حَيْثُ تَنْمُو خَلْفَ سِيَاجِهَا الحَدِيدِيِّ الأَخْضَرِ القَصِيرِ نَبَاتَاتٌ جَمِيلَةٌ بِأَوْرَاقٍ صَغِيرَةٍ، وَنَبَاتَاتُ الخُزَامَى بِلَوْنِهَا البَنَفْسَجِيِّ الممَيَّزِ.
امْتَدَّ سِرْبٌ طَوِيلٌ مِنَ السَّيَّارَاتِ حَتَّى تَجَاوَزَتْ صُفُوفُهَا مَحَطَّةَ التَّزَوُّدِ بِالمحْرُوقَاتِ، جَنْبَ وِزَارَةِ الدَّاخِلِيَّةِ. وَسُرْعَانَ مَا أَطْلَقَ السُّوَّاقُ المنَبِّهَاتِ فَعَلَا الضَّجِيجُ.
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ قَفَزَ عَبْدُ العَزِيزِ إِلَى المرَبَّعِ الذِي كَانَ فِيهِ وَبَسَطَ يَدَهُ اليُمْنَى لِيُوقِفَ تَدَفُّقَ أُسْطُولِ العَرَبَاتِ، وَوَجَّهَ الأُخْرَى نَحْوَ المتَرَجِّلِينَ يَسْتَحِثُّهُمْ لِقَطْعِ الطَّرٍيقِ وَالمرُورِ إِلَى الجَانِبِ الآخَرِ مِنَ الرَّصِيفِ، وَتَحَرَّكَتِ السَّيَّارَاتُ التِّي هِيَ دَاخِلَ السَّاحَةِ بِبُطْءٍ. وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَهْدَأْ الضَّجِيجُ تَمَامًا، إِذْ أَنَّ بَعْضَ الأَبْوَاقِ كَانَتْ لَا تَزَالُ تُوَاصِلُ التَّصْفِيرَ.
بَقِيَ لُطْفِي وَحِيدًا، فَدَارَ حَوْلَ شَاحِنَةِ نَقْلِ العَرَبَاتِ المعْطُوبَةِ، المتَوَقِّفَةِ فِي بَاحَةِ وُقُوفِ السَّيَّارَاتِ. وَمَشى بِثَبَاتٍ فِي المِسَاحَاتِ الظَّلِيلَةِ مُتَخَطِّيًا العَرَبَاتِ المَركُونَةَ فِي الموْقِفِ تَحْتَ الجِسْرِ. أَبْصَرَ العَجُوزَ قُبَالَةَ العَمُودِ الثَّالِثِ وَهْيَ تُحَدِّقُ فِي نُقْطَةٍ فِي الأَرْضِ فَأَبْدَى ارْتِيَاحَهُ. هَذِهِ المرَّةَ لَمْ تَكُنْ وَحْدَهَا، كَانَتْ تَقِفُ بِجَانِبِهَا اِمْرَأَةٌ مُتَوَسِّطَةُ العُمُرِ بِالكَادِ رَآهَا وَهْيَ تَخْتَفِي خَلْفَ الخُرَسَانَةِ المسَلَّحَةِ. كَانَ وَجْهُهَا مَحْنِيًّا تُحَدِّقُ فِي مَنْبَتِ العَمُودِ. وَكَانَ صَوْتُ زَفِيفِ السَّيَّارَاتِ يَعْوِي فَوْقَهُ كَشَلَّالٍ هَادِرٍ مُنْزَلِقٍ فِي الفَضَاءِ.
– أَهْلًا يَا حَاجَّة، هَا أَنْتِ ذِي قَدْ عُدْتِ وَجَلَبْتِ مَعَكِ ابْنَتَكِ لِتَقْلِيبِ الجِسْرِ. رَأْيَانِ خَيْرٌ مِنْ رَأْيٍ بِدُونِ شَكٍّ، فَهَل اتَّفَقْتُمَا عَلَى أَمْرٍ؟ أَعْنِي هَلْ مَازَالَتْ لَدَيْكِ الرَّغْبَةُ فِي المسَاوَمَةِ؟
بَادَرَهَا وَهْوَ يَقِفُ مُبْتَسِمًا وَرِجْلَاهُ مُتَبَاعِدَتَانِ.
كَانَتْ تَلِفُّ شَالًا بُنِّيًّا عَلَى كَتِفَيْهَا بِطَبْعَةِ جِلْدِ النَّمِرِ. وَتَضَعُ عَلَى عَيْنَيْهَا نَظَّارَاتٍ طِبِّيَّةً ذَاتِ إِطَارٍ مُقَاوِمٍ لِلصَّدَأ. تَظَاهَرَتْ بِأَنَّهَا لَمْ تَسْمَعْ آخِرَ كَلِمَاتِهِ. لَمْ تَسْتَسِغْ الطَّرِيقَةَ التِّي تَحَدَّثَ بِهَا، وَلَمْ تُعْجِبْهَا ابْتِسَامَتُهُ المتَكَلِّفَةُ، فَقَدْ كَانَتْ بِلَوْنِ الرَّصَاصِ.
– كَنَّتِي، فِي مَقَامِ ابْنَتِي.
أَجَابَتْهُ مُمْتَعِضَةً وَبِنَبْرَةٍ مَشُوبَةٍ بِالقَلَقِ. كَانَ بِإِمْكَانِهَا أَنْ تَتَجَاهَلَهُ وَلَكِنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ، رُبَّمَا لِأَنَّهَا لَا تَزَالُ مَسْكُونَةً بِالخَوْفِ مِنَ الحَاكِمِ، رَغْمَ مُرُورِ ثَمَانِي سَنَوَاتٍ عَلَى الثَّوْرَةِ.
– جِئْتِ بِهَا لِتُرِيهَا العَمُودَ؟
– بَلْ أَتَيْتُ بِهَا لِتَزُورَ زَوْجَهَا.
كَانَ لُطْفِي كَشَعْرَةٍ خَشَبِيَّةٍ قَدْ غُرِسَتْ بَيْنَ الظُّفْرِ وَاللَّحْمِ، لَمْ يَسْتَوْعِبْ شَنَاعَةَ أَنْ يَتَطَفَّلَ كَطِفْلٍ عَلَى شُؤُونِ الغَيْرِ. كَانَ الفُضُولُ الّذِي يَلِحُّ عَلَيْهِ لِيَطَّلِعَ عَلَى مَا تُخْفِيهِ الصُّدُورُ أَقْوَى مِنْ فِقْدَانِ مَاءِ وَجْهِهِ.
– أَهُوَ مُقِيمٌ فِي هَذِهِ المَدِينَةِ؟
– هُوَ هُنَا تَحْتَ هَذَا العَمُودِ.
وَأَشَارَتْ إِلَى بَاطِنِ الأَرْضِ.
بَدَتِ الحَيْرَةُ وَالاسْتِنْكَارُ عَلَى مَلَامِحِ لُطْفِي. هَا هِي تُكَرِّرُ الإِشَارَةَ نَفْسَهَا بِالإِيقَاعِ ذَاتِهِ.
– مَا هَذِهِ الأُحْجِيَةُ؟ كَلَامُكِ غَيْرُ مَنْطِقِيٍّ، يَا حَاجَّة.. هَذِهِ السَّاحَةُ لَيْسَتْ مَقْبَرَةً، إِنْ كُنْتِ لَا تَعْلَمِينَ.
– لِأَنَّ الأَمْرَ أَعْقَدُ مِمَّا تَظُنُّ.
جَاءَهُ صَوْتُ مُرَافِقَتِهَا مِنْ جَانِبِهِ الأَيْمَنِ. اخْتَطَفَتْ الحَدِيثَ اخْتِطَافًا، وَهْيَ تَتَحَرَّكُ بِاتِّجَاهِهِمَا وَتَمْنَحُهُ طَرَفَ عَيْنَيْهَا. كَانَتْ تَرْتَدِي غِطَاءً قُطْنِيًّا تَحْتَ حِجَابِهَا يُخْفِى جَبِينَهَا.
– اشْرَحِيهِ لِي، إِذًا.
وبِدَهْشَةٍ وَانْفِعَالٍ أَجَابَتْهُ:
– وَلِمَ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ؟ مَا شَأْنُكَ أَنْتَ بِهَذَا؟
كَانَ مَطْلَبُهُ وَقَاحَةً، وَوُجُودُهُ اسْتِفْزَازًا، وَكَانَتْ إِجَابَتُهَا صَادِمَةً وَكَلِمَاتُهَا جَارِحَةً.
لَمَسَتِ العَجُوزُ يَدَ الكَنَّةِ لِتُخَفِّفَ مِنْ حِدَّةِ انْفِعَالِهَا وَقَسْوَتِهَا عَلَيْهِ، فَأَشَاحَتْ بِنَظَرِهَا بَعِيدًا حَتَّى ارْتَخَى جِسْمُهَا وَلَانَ.
قَالَ يُطَمْئِنُهَا:
– لاَ شَيْءَ. أَرَدْتُ أَنْ أَعْرِفَ فَحَسْبَ.
لَكِنَّ المرْأَةَ الخَمْسِينِيَّةَ غَالَبَتْ نَفْسَهَا كَيْ تَتَجَاهَلَهُ زِيَادَةً فِي تَحَدِّيهَا لِتَرْدَعَ فُضُولَهُ. وَعَلَى نَحْوٍ مُفَاجِئٍ قَالَتْ مُوَجِّهَةً حَدِيثَهَا لِلْعَجُوزِ:
– أَتَوَدِّينَ أَنْ أَفْرُشَ لَكِ هُنَاكَ، يَا خَالَةُ، يَجِبُ أَنْ تَأْخُذِي قِسْطًا مِنَ الرَّاحَةِ فَالهَوَاءُ حَرَارَتُهُ مُرْتَفِعَةً، وَأَنْتِ مَنْقُوعَةٌ بِالعَرَقِ.
– لَا، يَا بِنْتِي، أُرِيدُ أَنْ أَبْقَى بِقُرْبِهِ.
كَانَتْ تَسْعَى لِتُبْعِدَهَا عَنِ الرَّائِحَةِ الوَاخِزَةِ التِّي تَصْدُرُ مِنَ الجَانِبِ المبَلَّلِ لِلْعَمُودِ. رَائِحَةُ بَوْلِ السُّكَارَى وَسُمَّارِ اللَّيْلِ وَ”نَقَّازَةِ الحِيطَانِ”، مَمْزُوجَةٌ بِرَائِحَةِ بِرَازِ المجَاذِيبِ وَبَعْضِ الحَيَوَانَاتِ الشَّارِدَةِ.
وَهْيَ تُدِيرُ عَيْنَيْهَا فِي المَكَانِ، شَاهَدَتْ بَقِيَّةَ مِكْنَسَةٍ مَكْسُورَةٍ بِالقُرْبِ مِنْ وَرْشَةِ صِيَانَةِ مُحَرِّكَاتِ القَوَارِبِ عَلَى يَمِينِ بِنَايَةِ مُؤَسَّسَةِ البَرِيدِ. ذَهَبَتْ وَعَادَتْ تَحْمِلُهَا فِي يَدِهَا، ثُمَّ فَتَحَتْ حَقِيبَتَهَا التِي تَتَدَلَّى مِنْ أَحَدِ كَتِفَيْهَا، أَخْرَجَتْ مِنْهَا قَارُورَةَ مَاءٍ مَعْدَنِيٍ وَصَبَّتْ مِنْهُ القَلِيلَ عَلَى الجَانِبِ النَّدِيِّ مِنَ العَمُودِ وَرَشَّتْ حَوْلَهُ عَلَى الأَرْضِ، قَبْلَ أَنْ تَبْدَأَ فِي إِبْعَادِ كُومَةِ القَذَارَةِ وَكَنْسِ المكَانِ. فِي النِّهَايَةِ، فَرَشَتْ الكَنَّةُ شَالَهَا فَجَلَسَتِ العَجُوزُ وَأَمْسَكَتْ رَأْسَهَا بِيَدَيْهَا ثُمَّ ضَرَبَتْ عَلَى فَخْذَيْهَا ضَرْبَةً اِهْتَزَّ لَهَا السِّوَارُ الفِضِّيُّ الذِي يُزَيِّنُ مِعْصَمَهَا وَقَالَتْ بِحُرْقَةٍ:
– هُنَا، يَا بِنْتِي، أَسْقَطُوهُ كَكَلْبٍ ضَالٍّ فِي حُفْرَةِ الطِّينِ وَطَمَرُوهُ بِالخُرَسَانَةِ.
كَرَّرَتْ ذَلِكَ وَانْخَرَطَتْ بِشِدَّةٍ فِي البُكَاءِ، فَتَكَشَّفَتْ أَسْنَانُهَا عَنْ ثُلْمَةٍ صَغِيرَةٍ فِي قَوَاطِعِهَا الفَوْقِيَّةِ.
تَأَوَّهَتِ الكَنَّةُ هِي أَيْضًا وَتَحَرَّكَتْ فَالْتَقَطَتْ يَدَهَا وَقَبَّلَتْهَا ثُمَّ أَحَاطَتْهَا بِذِرَاعَيْهَا وَأَدْنَتْهَا مِنْهَا. أَرَاحَتْ رَأْسَهَا عَلَى جَبْهَةِ العَجُوزِ وَبَكَتْ.
بَدَا مَنْظَرُهُمَا مُؤَثِّرًا. كَانَتِ الدُّمُوعُ مُؤْلِمَةً وَحَارِقَةً لِلْقُلُوبِ. لَوْ كَانَ لُطْفِي رَسَّامًا لَرَسَمَ وَجْهَيْهِمَا البَاكِي، بَيْدَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَلِأَنَّ المَنَاخَ الكَئِيبَ الذِي وَجَدَ نَفْسَهُ فِيهِ جَعَلَهُ فِي مَوْقِفٍ مُحْرِجٍ فَقَدْ خَيَّرَ أَنْ يَتَرَاجَعَ خُطْوَةً إِلَى الخَلْفِ ثُمَّ يُدِيرَ ظَهْرَهُ عَنْهُمَا وَيَمْشِي مُبْتَعِدًا مُتَّجِهًا إِلَى السَّاحَةِ حَيْثُ يَقِفُ عَبْدُ العَزِيزُ مُنْتَصِبًا فِي شُمُوخٍ وَهْوَ يُلَوِّحُ بِيَدَيْهِ فِي السَّمَاءِ.
لَا شَيْءَ يُمْكِنُ فِعْلَهُ، هُنَا، أَمَامَ عَبَرَاتِ النِّسَاءِ.
اِسْتَطَاعَتِ المَرْأَةُ أَنْ تَسْمَعَ خُطَا الفُضُولِيِّ المغَادِرَةَ. خَمَّنَتْ أَنَّ كَلِمَاتِهَا قَدْ أَصَابَتْهُ فِي العُمْقِ، بَيْنَمَا وَاصَلَتِ العَجُوزُ بِصَوْتٍ أَشْبَهَ بِالنَّحِيبِ:
– أَشَدَّ مَا آلَمَنِي وَأَشْعَرَنِي بِالمَهَانَةِ أَنِّي كُنْتُ لِأَيَّامٍ أَطْبُخُ الطَّعَامَ وَأُتْخِمُ بِهَا بُطُونَ قَاتِلِي وَلَدِي. كَانُوا يَحْصُلُونَ عَلَى وَجْبَتِهِ كُلِّهَا. وَكُنْتُ أَنَا مَنْ تَقُومُ بِتَحْضِيرِهِ وَتَقْدِيمِهِ لَهُمْ بِيَدَيْهَا. كُنْتُ أَصْنَعُ لَهُ كِفْتَةَ لَحْمٍ مَفْرُومٍ، وَسَلْطَةَ أُمِّك حُورِيَّة، وَطَاجِينَ الملْسُوقَةِ، وَمَرْقَةَ الجُلُبَّانَة، وَكُسْكُسِي بِالحُوتِ، أُسَلِّمُهُ إِلَيْهِمْ لِيُعْطُوهُ لِوَلَدِي فَيَقُومُونَ بِدَفْنِهِ فِي بُطُونِهِمْ وَيُعِيدُونَ لِيَ القُفَّةَ فَارِغَةً، فِي الوَقْتِ الذِي كَانَ فِيهِ ابْنِي مَقْبُورًا يَمْلَأُ الاِسْمَنْتُ المسَلَّحُ بَطْنَهُ. اسْتَغْفَلُونِي، يَا كَبِدِي.. اسْتَغْفَلُونِي.
غَمْغَمَتِ المَرْأَةُ بِصَوْتٍ مُخْتَنَقٍ مُرْتَعِشٍ وَهْيَ تُحَاوِلُ مُوَاسَاتَهَا:
– انْظُرِي، لَعَلَّ اللَهَ قَدِ اخْتَارَهُ لِيَتَّخِذَهُ شَهِيدًا. وَالمَوْلَى يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ أَبَدًا.
وَافَقَتْهَا العَجُوزُ بِإِيمَاَءَةٍ مِنْ رَأْسِهَا. وَوَاصَلَتْ تَقُولُ:
– فِي اليَوْمِ الّذِي طَلَبْتُ مِنْهُمْ أَنْ يُمَكِّنُونِي مِنْ مُقَابَلَتِهِ أَنْكَرُوا وُجُودَهُ عِنْدَهُمْ.
بَقِيَتْ تِلْكَ الصُّورَةُ مَحْفُورَةً فِي ذِهْنِهَا. بَلَغَهَا خَبَرٌ لَمْ تَتَبَيَّنْ حَقِيقَتَهُ. طَرَاطِيشُ كَلَامٍ مِنَ الموْقُوفِينَ الذِينَ أُخْلِيَ سَبِيلُهُمْ بَعْدَ اِحْتِجَازٍ دَامَ لِأَيَّامٍ. اسْتَدَلَّتْ مِنْهَا أَنَّ ضَنَاهَا قَدْ تَمَّ تَعْذِيبُهُ حَتَّى الموْتِ، فَتَوَجَّهَتْ إِلَى مِنْطَقَةِ الأَمْنِ بِيَدٍ فَارِغَةٍ وَقَلْبٍ مَوْجُوعٍ. وَبَعْدَ أَنْ أَقَامَتِ الدُّنْيَا وَأَقْعَدَتْهَا عَلَى رُؤُوسِ الأَعْوَانِ بُغْيَةَ أَنْ تَرَى ابْنَهَا، اضْطَرَبُوا وَنَفَوْا وُجُودَهُ وَاعْتِقَالَهُ.
وَقَالَتِ المَرْأَةُ وَهْيَ تَعُودُ بِذَاكِرَتِهَا إِلَى الوَرَاءِ:
– أَنَا، كَمَا تَعْلَمِينَ، كُنْتُ وَقْتَهَا بِمَكْتَبِ الاسْتِقْبَالِ حِينَ لَمَحْتُ اسْمَهُ فِي لَائِحَةِ أَسْمَاءِ الموْقُوفِينَ وَقَدْ سَارَعَ العَوْنُ إِلَى إِغْلَاقِ الدَّفْتَرِ لَمَّا شَاهَدَ نَظَرَاتِي تُمَشِّطُ القَائِمَةَ. أُقْسِمُ لَكِ أَنِّي رَأَيْتُ اسْمَهُ مُدْرَجًا فِي الدَّفْتَرِ وَمَا كُنْتُ وَاهِمَةً.
دَفَعَتِ العَجُوزُ كَنَّتَهَا بِرِفْقٍ حَتَّى تَسْتَقْبِلَ وَجْهَهَا.
– وَعَلَى اِفْتِرَاضِ أَنَّكِ كُنْتُ وَاهِمَةً، فَمَا الّذِي يُبَرِّرُ تَسَلُّمَهُمْ قُفَّةَ الطَّعَامِ؟ أَلَا يُؤكِّدُ ذَلِكَ حَقِيقَةَ اخْتِطَافِهِ؟
فِي ذَاكَ اليَوْمِ، لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يُمْكِنُ لِلْأُمِّ أَنْ تَفْعَلَهُ سِوَى أَنْ تُلْقِيَ بِنَفْسِهَا عَلَى الأَرْضِ وَتَتَكَوَّمَ كَفَزَّاعَةٍ مُعْلِنَةً أَنَّهَا سَتَبْقَى هَكَذَا إِلَى أَنْ يُسْمَحَ لَهَا بِرُؤْيَةِ ابْنِهَا أَوْ تَهْلَكَ دُونَهُ. أَسْمَعَهَا رَئِيسُ المَنْطَقَةِ بَعْضًا مِنْ حَمَاقَاتِهِ. قَالَ لَهَا دُونَ أَنْ تَطْرُفَ عَيْنَاهُ إِنَّ أَعْوَانَهُ لَيْسُوا أَنْبِيَاءَ مَعْصُومِينَ منَ الأَخْطَاءِ، وَمَا حَدَثَ مَعَهَا كَانَ تَشَابُهًا فِي الأَسْمَاءِ لَيْسَ إِلاَّ، فَصَرَخَتْ فِي وَجْهِهِ أَنْتُمْ لَسْتُمْ بَشَرًا، أَنْتُمْ وُحُوشٌ فَلاَ تُقَارِنُوا أَنْفُسَكُمْ بِالبَشَرِ، مِمَّا جَعَلَ أَحَدَ الأَعْوَانِ يَنْتَفِضُ هَائِجًا وَيَقُومُ بِدَفْعِهَا بِقُوَّةٍ مِنْ كَتِفَيْهَا كَيْ تَتَحَرَّكَ بَعِيدًا عَنِ المكَانِ، وَلَكِنَّهَا بَقِيَتْ كَصَخْرَةٍ نَابِتَةٍ فِي الأَرْضِ تُطْلِقُ عَلَيْهِمُ الشَّتَائِمَ وَاللَّعَنَاتِ وَتَنْتَحِبُ. أَقَامَتْ مَنْدَبَةً مُزْعِجَةً فَمَا كَانَ مِنَ الأَعْوَانِ إِلَّا أَنْ قَبَضُوا عَلَى ذِرَاعَيْهَا وَجَرُّوهَا بِالقُوَّةِ إِلَى الخَارِجِ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ المَشْهَدُ النَّافِرُ فَضِيحَةً أَمَامَ المنْطقةِ. رَمَوْهَا خَارِجًا وَقَالُوا إِنَّ عَلَيْهَا البَحْثَ عَنِ ابْنِهَا فِي مَكَانٍ آخَرَ.
عَرَفَتِ الأُمُّ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ تَفَرَّقَتِ العَائِلَةُ بَحْثًا عَنْهُ فِي المسْتَشْفَيَاتِ وَلَمْ تَفْقُدِ الأَمَلَ. كَانَتْ تَبْحَثُ طِوَالَ سِنِينَ عَنْ جُثَّةٍ مُشَوَّهَةٍ مَجْهُولَةٍ، جُثَّةٍ لَمْ يُلْقِهَا الجَلاَّدُ فِي الطَّرِيقِ العَامِ لِيُوهِمَ أَهْلَهَا أَنَّ سَيَّارَةً عَابِرَةً قَدْ أَخَذَتِ الضَّحِيَّةَ تَحْتَ عَجَلَاتِهَا، جُثَّةٍ لَمْ يَرْبُطْهَا الجَلاَّدُ بِحَبْلٍ فِي عُنُقِهَا وَيُعَلِّقَهَا بِأَحَدِ الأَغْصَانِ كَيْ يَبْدُو صَاحِبُهَا كَمَنْ مَاتَ مُنْتَحِرًا، جُثَّةٍ لَمْ يُلْبِسْهَا الجَلاَّدُ حِزَامًا نَاسِفًا وَيُسْكِنَ طَلْقَةً فِي رَأْسِهَا، ثُمَّ تُضَمُّ إِلَى قَائِمَةِ العَنَاصِرِ الإِرْهَابِيَّةِ المقْتُولَةِ فِي عَمَلِيَّةٍ اسْتِبَاقِيِّةٍ. كَانَ بِاسْتِطَاعَةِ الجَلاَّدِينَ فِعْلُ ذَلِكَ الادِّعَاِءِ بِأَنَّهُ مَاتَ نَتِيجَةَ إِضْرَابِهِ عَنِ الطَّعَامِ، أَوْ أَيَّ شَيْءٍ مِنْ هَذَا القَبِيلِ، ثُمَّ يُسَلِّمُونَ الأَهْلَ إِفَادَةَ الطَّبِيبِ الشَرْعِيِّ المزَوَّرَةَ وَالجُثَّةَ لِدَفْنِهَا فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ دُونَ رِفْقَةٍ وَمُشَيِّعِينَ. لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَعَلِمَتِ الأُمُّ أَيْنَ تَجِدُ الجُثَّةَ وَأَيْنَ يَكُونُ قَبْرُهُ. أَمَّا أَنْ تَلُفَّ الظُّلْمَةُ مَصِيرَهُ، وَيُنْكِرَ القَتَلَةُ مَوْتَهُ وَتَصَرُّفَهُمْ فِي جُثَّتِهِ فَهَذَا الّذِي لَمْ يَمْنَحْهُ الإِجْلَالَ فِي رِحْلَتِهِ الأَخِيرَةِ وَلَمْ يَمْنَحْ الأَحْيَاءَ وَاجِبَ الدَّفْنِ وَالتَّعْزِيَةِ.
وَلَكِنْ، مَا لَا يَعْلَمُهُ لُطْفِي وَزَمِيلُهُ، القائِمَانِ بِخِدْمَةِ المرُورِ بِالسَّاحَةِ، أَنَّ تِلْكَ العَجُوزَ التِي ظَنَّا أَنَّهَا مَخْبُولَةٌ لَمْ تَشْعُرْ فِي حَيَاتِهَا كَامِلَةً بِالسَّعَادَةِ، وَكَانَتْ تَصْبُو إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْ أَثْقَالِ الْمَاضِي الأَلِيمِ. ظِلَالٌ قَاتِمَةٌ فَرَضَتْ عَلَيْهَا العُزْلَةَ وَالانْكِفَاءَ عَلَى الذَّاتِ، وَحَبَسَتْهَا فِي قِنَاعٍ سَمِيكٍ مِنَ الأَسَى وَالغُمَّةِ. وَعَلَى حِينِ غِرَّةٍ، تَغَيَّرَ كُلُّ شَيْءٍ.
قَبْلَ أَسَابِيعَ قَلِيلَةٍ، وَبُغْيَةَ طَيِّ صَفْحَةِ الماضِي وَفَتْحِ صَفْحَةٍ أُخْرَى بَيْضَاءَ نَقِيَّةٍ، وَجَدَتِ العَجُوزُ نَفْسَهَا مُحَاطَةً بِأُنَاسٍ كُثْرٍ. أَخْرَجَتْهَا العَدَالَةُ الانْتِقَالِيَّةُ مِنْ قَاعِ النِّسْيَانِ لِتُنْعِشَهَا وَتَبْعَثَ فِي رُوحِهَا الأَمَلَ.
تَابَعَتْ العجوزُ:
– عِنْدَمَا أُخْبِرْتُ بِمَوْعِدِ الجَلْسَةِ الّتِي قَرّرتِ الدَّائِرَةُ المتَخَصّصَةُ عَقْدَهَا، قُلْتُ فِي نِفْسِي هَا هِيَ الحَيَاةُ تَعُودُ لِتُنْصِفَنَا، وَانْتَابَنِي شُعُورٌ بِالفَرْحَةِ وَكَأَنَّنِي سَأُقَابِلُ الغَالِي هُنَاكَ رَاكِبًا دَرَّاجَتَهُ الهَوَائِيَّةَ. تَخَيَّلْتُ نَفْسِي أَضُمُّهُ إِلَى صَدْرِي وَأُقَبِّلُهُ فِي حَضْرَةِ شَخْصِيَّاتٍ سِيَاسِيَّةٍ وَأَعْضَاءَ بَرْلَمَانِيَّةٍ وَعَشَرَاتٍ مِنْ وَسَائِلِ الإِعْلَامِ الوَطَنِيَّةِ وَالدُّوَلِيَّةِ وَأَقُولُ لَهُمْ هَذَا هُوَ ابْنِي الذِي رَأَى الطُّغَاةُ فِي أَفْكَارِهِ تَشَدُّدًا دِينِيًّا، انْظُرُوا إِلَى عَدَالَةِ الأَرْضِ كَيْفَ تُعْلِي مَنْزِلَتَهُ وَلَعَدَالَةُ السَّمَاءِ أَكْثَرُ إِنْصَافًا لَوْ تَعْلَمُونَ. وَعِنْدَمَا انْزَاحَتْ سِتَارَةُ الحَقِيقَةِ، وَبَرَزَ شَاهِدُ عِيَانٍ لِيَقُولَ إِنَّ الضَّحِيَّةَ مَدْفُونٌ فِي عُمْقِ هَيْكَلٍ إِسْمَنْتِيٍّ بَارِدٍ، انْتَابَنِي الذُّهُولُ وَأَحْسَسْتُ بِبُرُودَةِ الكَوْنِ تَسْرِي فِي أَوْصَالِي كُلِّهَا وَشَعُرْتُ كَأَنَّ آلَافَ الأَيْدِي تَدْفَعُنِي لِلتَّعْجِيل بِزِيَارَتِهِ فِي مَسْكَنِهِ المظْلِمِ. وَهَا أَنَا ذَا قَدْ عُدْتُ إِلى المعَانَاةِ مُسْتَسْلِمَةً إِلَى الأَلَمِ فِي انْتِظَارِ الأَجَلِ. آهٍ، يَا كَبِدِي، مَتَى كَانَتْ وَجْبَتُكَ الأَخِيرَةُ؟ هَلْ كَانَتْ مِنْ صُنْعِ يَدِي أَمْ هُوَ الطَّعَامُ الذِي يَمْضَغُهُ المَرْءُ مِنْ دُونِ أَنْ يَشْعُرَ بِطَعْمِهِ؟
– لَا تَقُولِي هَذَا، رَبِّي يُطِيلُ لَنَا أَنْفَاسَكِ.
هَيَّجَ الفُضُولُ رَغْبَةَ رَئِيسِ الدَّائِرَةِ القَضَائِيَّةِ المتَخَصِّصَةِ فِي العَدَالَةِ الانْتِقَالِيَّةِ فَطَرَحَ أَسْئِلَةً لَا تُحْصَى وَلاَ تُعَدُّ وَالعَجُوزُ تُجِيبُهُ مُتَحَدِّثَةً حَدِيثًا مُطَوَّلًا، حَدِيثًا تَنَاقَلَتْهُ عَلَى الفَوْرِ أَلْسِنَةُ مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ، فِي غِيابِ شَبَكَةِ أَخْبَارِ التِّلِفِزُيُونِ الرَّسْمِيِّ الّتِي لَمْ تَهْتَمَّ لِلأَمْرِ، رَوَتْ لَهُ وَهْيَ تَبْكِي مَا تَوَارَدَ فِي ذِهْنِهَا مِنْ أَحْدَاثٍ مُرَّةٍ وَأَلِيمَةٍ عَاشَتْهَا. كَانَتْ تُعَانِي مِنْ كُلِّ مَا تَتَذَكَّرُهُ، تُعَانِي مِنِ اسْتِعَادَةِ ذِكْرَى تِلْكَ الأَوْجَاعِ وَالعَذَابَاتِ مَرَّة ًأُخْرَى وَهْيَ تَسْرِي كَالرَّصَاصِ وَرَاءَ جُفُونِهَا المغْلَقَةِ، بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ آلِيَّةَ الرَّقَابَةِ الذَّاتِيَّةِ الخَاصَّةِ بِهَا كَانَتْ تَدْفَعُهَا لِإِخْفَاءِ الأَلَمِ. كَانَتْ تَتَوَجَّعُ وَهُمْ ثَمِلُونَ بِعَنَاصِرِ الحِكَايَةِ، ثَمِلُونَ بِقِرَاءَةِ صَفْحَةِ مُصِيبَتِهَا الّتِي ظَنَّتْ أَنَّهَا طُوِيَتْ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ. تَفْتَحُ عَيْنَيْهَا مِنْ حِينٍ لِآخَرَ لِتَنْظُرَ إِلَى مَنْ خَلْفَ القُضْبَانِ فَلَا تَرَى فِي قَفَصِ المتَّهَمِينَ أَحَدًا!
لَا شَيْءَ يَبْدُو لَهَا مُثِيرًا لِلسُّخْطِ أَكْثَرَ مِنْ صَاحِبِ الرُّوبِ الأَسْوَدِ يَقْتَعِدُ مَقْعَدًا لِلسَّمْعِ مُسْتَمْتِعًا بِدَوْرِ المؤَرِّخِ الّذِي يَبْغِي إِعَادَةَ كِتَابَةِ التَّارِيخِ دُونَ أَنْ يُحَقِّقَ العَدَالَةَ، أَوْ تِلْكَ اللَّافِتَاتِ الّتِي يَرْفَعُهَا فَاقِدُو الشَّجَاعَةِ، عَنْ حُبٍّ، تَكْرِيسًا لِبُطُولَةٍ مُشْتَهَاةٍ.
الحَدَثُ الوَطَنِيُّ التَّارِيخِيُّ جَعَلَ مِنَ العَجُوزِ نَجْمَةً مَشْهُورَةً بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ الإِعْلَامُ البَدِيلُ صُوَرًا لَهَا بِجَانِبِ العُنْوَانِ البَارِزِ المكْتُوبِ بِالخَطِّ العَرِيضِ، “جُثَّةٌ تَبْحَثُ عَنْ قَبْرٍ … الوَجْهُ البَشِعُ لِنِظَامِ الطَّاغِيَةِ”، مُبْدِيًا تَعَاطُفَهُ غَيْرَ المشْرُوطِ. وَبِالرُّغْمِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ شُهْرَتَهَا لَمْ تَبْلُغْ تِلْكَ الدَّرَجَةَ مِنَ الارْتِفَاعِ الّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُصْبِحَ فِيهَا أَيْقُونَةً مُعَلَّقَةً فِي أَحَدِ أَعْمِدَةِ الجِسْرِ حَتَّى يَبْقَى أَثَرُهَا مُنْعَكِسًا فِي ذِهْنَيْ عَوْنَيْ شُرْطَةِ المرُورِ وَتَلْتَصِقَ صُورَتُهَا بِذَاكِرَتِهِمَا، فَمَا هِيَّ إِلاَّ مَعْبَرٌ فَحَسْب، وَجِسْرٌ لِلْعَدَالَةِ الانْتِقَالِيَّةِ مِنْ أَجْلِ رَسْمِ مَلَامِحَ قُبْحِ وَدَمَامَةِ النِّظَامِ البَائِدِ، وَالوَجْهِ البَشِعِ لِمُرْتَكِبِي الانتِهَاكَاتِ الجَسِيمَةِ.
مَا مِنْ شَيْءٍ تَغَيَّرَ، كُلُّ شَيْءِ ظَلَّ يُرَاوِحُ مَكَانَهُ حَتَّى مَاتَ الأَمَلُ وَسَادَ الِإحْبَاطُ. ارْتَكَبَ رِجَالُ الثَّوْرَةِ خَطَأَهُمْ الكَبِيرَ، حَيْثُ أَنَّهُمْ بِمُجَرَّدِ أَنْ وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ، تَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ الثَّوْرَةَ تَارِكِينَ الوُجُوهَ القَدِيمَةَ تُشَكِّلُ قِيَادَةَ المرْحَلَةِ الاِنْتِقَالِيَّةِ. وَلَيْسَ خَطَأُ النِّظَامِ القَدِيمِ أَنْ يَتَسَلَّمَ الوَدِيعَةَ الثَّمِينَةَ مَا دَامَ الثُّوَّارُ أَنْفُسُهُمْ مَنْ عَهِدَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ كَمَا يَعْهَدُ المرْءُ بِلُفَافَةٍ إِلَى غَرِيبٍ لِثَانِيَةٍ أَوْ ثاَنِيَتَيْنِ لِيُحَرِّرَ يَدَيْهِ فَيَعْقِدُ بِهِمَا حِذَاءَهُ الذِي انّحَلَّ رِبَاطُهُ ثُمَّ يَسْتَرْجِعَهَا وَيُوَاصِلَ سَيْرَهُ. وَلَكِنَّ الزَّمَنَ لَدَى جُيُوبِ الرٍّدَّةِ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ الثَّوَانِي، بَلْ دَارَتْ عَقَارِبُهُ دَوْرَاتٍ عِدَّةً امْتَدَّتْ لِعَشْرَةِ أَشْهُرٍ كَامِلَةٍ، كَانَتْ كَافِيَةً لِيَقُومَ المجْرِمُونَ بِطَمْسِ آثَارِ جَرَائِمِهِمْ.
قَالَتِ العَجُوزُ وَهْيَ تَشْعُرُ بِالذُّلِّ وَالمهَانَةِ وَتُحَاوِلُ أَنْ تُخْفِيَ التَّوَتُّرَ فِي صَوْتِهَا:
– مُحَاكَمَةٌ احْتِفَالِيَّةٌ لِلْغَايَةِ كَأَنَّهَا مَسْرَحِيَّةٌ. فَلَوْ أَنَّ المتَّهَمِينَ “دَوَاعِشٌ” لَكَانَ الحُكْمُ عَلَيْهِمْ فَوْرِيًّا وَبَاتًّا! أَمَّا هَؤُلَاءِ الجُنَاةُ فَهُمْ مُحَصَّنُونَ تَحْصِينًا جَيِّدًا بِقُوَّةِ السُّلْطَةِ وَخِدْمَةِ الشَّأْنِ العَامِّ، يَحُقُّ لَهُمْ إِذًا أَنْ لاَ يَمْثُلُوا أَمَامَ القَضَاءِ وَيَحُقُّ لِلْقَاضِي تَأْجِيلَ جَلْسَةِ الاسْتِمَاعِ.
ثُمَّ جَالَتْ نَظْرَتُهَا فِي المحِيطِ المجَاوِرِ لَهَا وَمَالَتْ بِاتِّجَاهِ سَيَّارَةٍ رُبَاعِيَّةِ الدَّفْعٍ تَوَجَّهَ سَائِقُهَا لِخَلاَصِ مَعْلُومِ الإِيوَاءِ. كَانَت العَرَبَاتُ فِي الموْقِفِ، بِتَكَاثُرِهَا، عَلَى وَشَكِ أَنْ تَلُفَّ حَوْلَهَا.
سَمِعَتْ كَنَّتَهَا تَقُولُ:
– لَيْسَ لَدَيْهِمْ مَا يُعْطُونَهُ لَنَا بَعْدَ أَنْ أَسْقَطَ مَرْسُومُ العَارِ جَرِيمَةَ التَّعْذِيبِ بِالتَّقَادُمِ.
– إِنْ أَرَدْنَا الحَقَّ لَقَدْ أُعْطِينَا مُقَرِّرَ جَبْرِ الضَّرَرِ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟
خَرَجَتْ ضِحْكَةٌ مَكْتُومَةٌ سَاخِرَةٌ مِن المرْأَةِ وَرَدّتْ:
– أَنْتِ بِهَذَا تُضْحِكِينَنِي، يَا خَالَة.. أَتُسَمِّينَ وَرَقَةً لَا فَائِدَةَ فِيهَا، وَلَا تَتَجَاوَزُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ الحِبْرِ المَكْتُوبِ بِهَا، جَبْرَ ضَرَرٍ؟ لَوْ تَصَدَّقُوا بِهَا عَلَى ذَاكَ الذِي يَسْأَلُ عَنْ ثَمَنِ رَطْلِ النِّضَالِ لِيُزِيلَ بِهَا القَذَارَةَ العَالِقَةَ بِمُؤَخِّرَتِهِ لَكَانَ أَفْيَدَ.
– وَهَلْ كُنْتِ تَنْتَظِرِينَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؟
– فِي الوَاقِعِ أَجَلْ، أَنْتَظِرُ إِعْلَانَ مَوْتِهِ لِتَرْتِيبِ دَفْنِهِ.
رَدَّت الكَنَّةُ دُونَ تَفْكِيرٍ. عِنْدَئِذٍ تَجَهَّمَ وَجْهُ العَجُوزِ. تَجَمَّدَتْ سُحْنَتُهَا وَارْتَعَشَتْ شَفَتَاهَا. أَمْسَكَتْ بِكَتِفِ الكَنَّةِ وَدَفَعَتْهَا إِلَى الخَلْفِ، فَأَمَالَتِ المرْأَةُ نِصْفَهَا الأَعْلَى، مِمَّا أَتَاحَ لِلْعَجُوزِ رَفْعَ نَظَّارَاتِهَا بِيَدٍ وَبِكَفِّ الأُخْرَى مَسَحَتِ الدُّمُوعَ مِنْ عَيْنَيْهَا، ثُمَّ وَكَزَتْهَا فِي جَنْبِهَا وَقَالَتْ:
– هَيَّا، قُومِي لِنَذْهَبْ.
وَحَاوَلَتْ عَبَثًا أَنْ تَنْهَضَ دُونَ أَنْ تَنْبُسَ بِكَلِمَةٍ إِضَافِيَّةٍ، وَدُونَ أَنْ تَسْتَنِدَ عَلَى كَنَّتِهَا، لَكِنَّ المَرْأَةَ تَكَلَّسَتْ وَتَصَلَّبَتْ كَالحِجَارَةِ عَلَى جَسَدِ الحَمَاةِ الوَاهِنِ، فَقَدْ أَدْرَكَتْ مِنْ تَعْبِيرَاتِ وَجْهِهَا أَنَّ اللِّسَانَ قَدْ بَصَقَ عِبَارَةً آلَمَتْهَا، فَقَالَتْ مُعْتَذِرَةً:
– لَا تَغْضَبِي مِنِّي، يَا خَالَةُ، وَتُسِيئِي فَهْمِي فَلَيْسَ الّذِي يَدُورُ فِي رَأَسِكِ هُوَ مَا قَصَدْتُهُ.
– لَسْتُ غَاضِبَةً مِنْكِ، يَا بِنْتِي، وَلَكِنِّي مَوْجُوعَةٌ مِنْ أَجْلِكِ.
هَمَسَتِ المًرْأَةُ مُسْتَنْكِرَةً:
– خَالَتِي؟!
ابْتَسَمَتِ العَجُوزُ وَاكْتَسَى وَجْهُهَا بِالشَّفَقَةِ وَالشُّعُورِ بِالذَّنْبِ.
– الحَقُّ مَعَكِ. بَقِيتِ كَالمعَلَّقَةِ، لَا مُتَزَوِّجَةً وَلَا مُطَلَّقَةً. كَيْفَ لِأَرْمَلَةٍ أَنْ تَتَزَوَّجَ مَرَّةً ثَانِيَةً وَزَوْجُهَا فِي دَفَاتِرِ الحَالَةِ المدَنِيَّةِ حَيٌّ يُرْزَقُ؟
– أَنَا مُرْتَاحَةٌ هَكَذَا. لَا تُفَكِّرِي فِيَّ وَفَكِّرِي فِي ابْنَكِ.. فِي إِعَادَةِ جُثْمَانِهِ لِيُوَارَى الثَّرَى هُنَاكَ فِي مَقْبَرَةِ العَائِلَةِ، سَيَكُونُ بِإِمْكَانِنَا زِيَارَةَ قَبْرِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى رِحْلَةٍ بَاهِظَةِ التَّكْلُفَةِ.
– أَصِيلَة، بِنْتِي الغَالِيَة، فِي قَادِمِ الأَيَّامِ سَنَتَنَاوَبُ عَلَى زِيَارَتِهِ، فَهَذِهِ المحَاكَمَةُ لاَ تَبْدُو لَهَا نِهَايَةٌ.. خُذِي مَعَكِ حَفِيدَتِي فِي المرَّةِ القَادِمَةِ حَتَّى تَعْرِفَ أَيْنَ قُبِرَ وَالِدُهَا.
وَمَنَحَتْهَا قُبْلَةً طَوِيلَةً عَلَى جَبِينِهَا، ثُمَّ أَسْقَطَتْ نَظَرَاتِهَا عَلَى المفْرَشِ تَحْتَهَا، نَظَرَتْ إِلَى عُمْقِ الأَرْضِ مِنْ خِلَالِهِ وَانْفَجَرَتْ بِصَوْتٍ مُدَوٍّ:
– آهٍ، يَا ابْنِي، يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ أَتْرُكَكَ هُنَا وَكُتْلَةٌ إِسْمَنْتِيَّةٌ رُكَامٌ فَوْقَكَ، وَهَذَا الضَّجِيجُ فِي أُذُنَيْكَ. نَمْ، يَا ابْنِي، عَلَيْكَ أَنْ تَغُطَّ فِي نَوْمِكَ وَتَرْقُدَ بِسَلَامٍ وَسَآتِي لِزِيَارَتِكَ كَمَا كُنْتُ أَفْعَلُ حِينَ خَطَفُوكَ. كُنْتُ آتِيكَ بِالطَّعَامِ لَكِنَّ أَبْنَاءَ الحَرَامِ كَانُوا يَجْرِفُونَهُ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ. الآنَ مَا عُدْتُ أَفْعَلُ. لَنْ أَحْمِلَ مَعِي لاَحِقًا سِوَى حُبُوبِ القَمْحِ أَنْثُرُهَا عَلَى الأَرْضِ لِلطُّيُورِ الصَّغِيرَةِ صَدَقَةً عَلَى رُوحِكَ، وَسَأَسْقِيكَ دَمْعِي وَأَرُشُّكَ بِخَيْبَتِي، فَأَنَا لَمْ أَعُدْ أَحْلُمُ. أَقْلَعْتُ عَنِ احْتِسَاءِ الأَمَلِ. مُنْذُ مُدَّةٍ لَمْ أَرَ أَيَّ شَيْءٍ مِنْ أَحْلَامِي يَتَحَقَّقُ. تَبَخَّرَ الحُلْمُ الّذِي هَزَّنِي ذَاتَ يَوْمٍ وَطَارَ بِي فِي أَعَالِي السَّمَاءِ وَلَمْ أَعُدْ أَنْتَظِرُ أَنْ يُزْهِرَ الرَّبِيعُ.
حَدَّقَتْ فِيهَا المَرْأَةُ وَقَالَتْ:
– مَا ضَاعَ حَقٌّ وَرَاءَهُ طَالِبٌ.
– فِي هَذِهِ الدُّنْيَا قَدْ ضَاعَ، يَا بِنْتِي.. قَدْ ضَاعَ. ضَيَّعَتْهُ عَدَالَةٌ انْتِقَالِيَّةٌ عَرْجَاءُ أَشْبَهُ بِوَرَقِ العَجِينِ المخْتَمِرِ. عَدَالَةٌ انْتِقَالِيَّةٌ هِيَ فَقَطْ طَرِيقُ البَعْضِ لِبُلُوغِ أَعْلَى المنَاصِبِ. لَا ثِقَةَ لِي اليَوْمَ إِلَّا فِي اللَّهِ وَحْدِهِ.
لَمَّا هَدَأَتِ العَجُوزُ، دَفَعَتِ المرْأَةُ جِذْعَهَا مُتَزَحْزِحَةً إِلَى الوَرَاءِ، فَاسْتَنَدَتْ العَجُوزُ بِكَفِّهَا عَلَى الأَرْضِ، وَبِظَهْرٍ مُنْحَنٍ وَبِبُطْءٍ نَهَضَتْ وَتَبِعَتْهَا المرْأَةُ الّتِي انْحَنَتْ سَرِيعًا لِتَلْتَقِطَ شَالَهَا مِنَ الأَرْضِ. نَفَضَتْهُ بِقُوَّةٍ فِي الهَوَاءِ فَتَطَايَرَ مِنْهُ مَا عَلِقَ بِهِ مِن التُّرَابِ ثُمَّ طَوَتْهُ بِأَنَاقَةٍ وَوَضَعَتْهُ فِي حَقِيبَتِهَا.
أَلْقَتِ العَجُوزُ نَظْرَةَ وَدَاعٍ عَلَى ابْنِهَا الذِي يُسْنِدُ جِسْرَ سَاحَةِ الجُمْهُورِيَّةِ، ثُمَّ الْتَفَتَتْ لَا إِرَادِيًّا إِلَى قَلْبِ السَّاحَةِ فَرَأَتْ لُطْفِي الّذِي أَخَذَ مَكَانَ زَمِيلِهِ فِي تَنْظِيمِ السَّيْرِ وَقَدْ بَدَأَتْ الحَرَكَةُ تَلِينُ.
مَدَّتِ المرْأَةُ يَدَهَا وَسَحَبَتْهَا بَعِيدًا عَنِ العَمُودِ وَهْيَ تَقُولُ:
– يَجِبُ أَنْ نَتَحَرَّكَ بِسُرْعَةٍ، سَيَفُوتُنَا النَّقْلُ.
جَرْجَرَتِ العَجُوزُ نَفْسَهَا فِي صَمْتٍ. غَادَرَتِ المَكَانَ وَتَرَكَتِ الجُثَّةَ الّتِي صَنَّفَتْهَا الدَّائِرَةُ الجِنَائِيَّةُ المتَخَصِّصَةُ فِي العَدَالَةِ الانْتِقَالِيَّةِ ضَحِيَّةَ الانْتِهَاكَاتِ الجَسِيمَةِ مَغْمُوسَةً فِي خَلْطَةِ مَسْحُوقِ الاسْمَنْتِ النَّاعِمِ سَرِيعِ التَّصَلُّبِ وَالمَاءِ وَالرَّمْلِ وَحَدِيدِ التَّسْلِيحِ وَالحِجَارَةِ الصَّغِيرَةِ المغْسُولَةِ الخَالِيَةِ مِنَ الشَّوَائِبِ وَالطِّينِ.
تِلْكَ الحَيَاةُ العَالِقَةُ فِي العَجِينَةِ الإِسْمَنْتِيَّةِ المتَصَلِّبَةِ زَادَتْ فِي مَتَانَةِ الجِسْرِ الطَّوِيلِ الممْتَدِّ مِنْ نَوَافِذِ القَهْرِ وَالاسْتِبْدَادِ إِلَى أَبْوَابِ الحُرِّيَّةِ وَقَدْ أَفْلَتَ المتَوَرِّطُونَ فِي قَتْلِهِ مِنْ عَدَالَةِ الأَرْضِ فِي بَلَدٍ صَغِيرٍ لَمْ يَتَحَوَّلْ فِيهِ رَبِيعُهُ العَرَبِيُّ إِلَى شِتَاءٍ مَاطِرٍ بِالدِّمَاءِ.
غَادَرَتِ المرْأَةُ وَالعَجُوزُ الجِسْرَ، وَبَقِيَ لُطْفِي شَعْبَان هُنَاكَ قَرِيبًا مِنَ الجُثَّةِ. عَيْنَاهُ شَاخِصَتَانِ فِي السَّمَاءِ وَذِهْنُهُ سَارِحٌ فِي الموْضُوعِ المزْعِجِ وَالسِّرِّ المسْتَغْلَقِ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ زَمِيلَهُ وَهْوَ يَسْأَلُهُ إِنْ كَانَ قَدْ أَقْنَعَ العَجُوزَ بِشِرَاءِ الحَاجِزِ الخُرَسَانِيّ المتَنَقِّلِ بَدَلَ عَمُودِ الجِسْرِ الثَّابِتِ. وَفِي اللَّحْظَةِ الّتِي تَنَاهَى لِسَمْعِهِ تَحْذِيرُ المِتْرُو الخَفِيفِ، مَدَّ رَقَبَتَهُ وَسَرَّحَ نَظَرَهُ فَبَدَتْ لَهُ أَعْمِدَةُ الجِسْرِ مُصْطَفَّةً كَأَسْنَانِ مِنْشَارِ الخَشَبِ. تَرَكَ نَظَرَاتِهِ تَجُولُ فِي الفَضَاءِ البَعِيدِ، وَمِنْ خِلَالِ فَرْجَةِ الجِسْرِ، وَفِي اللَّحْظَةِ الأَخِيرَةِ، ظَهَرَتِ العَجُوزُ وَمُرَافِقَتُهَا وَهُمَا تَنْحَدِرانِ سَوِيَّةً فِي عَطْفَةِ الطَّرِيقِ المفْضِي إِلَى مَحَطَّةِ المُنْصِف بَاي، طَارَدَهُمَا بِعَيْنَيْهِ مِنْ بَيْنِ الأَعْمِدَةِ حَتَّى توَارَتَا عَنِ الأَنْظَارِ.