تسللت الى المنزل بشيء من الهدوء والدعة، متخفيةً بزوبعة من الأوهام كانت تراودها بين الفينة والفينة، اتخذت طريقها مباشرة الى السلم الدائري مخلفة وراءها همسة خفيفة لانطباق الباب الخشبي، وقفت قليلاً فحمدت الله واثنت عليه على انها لم تجد احداً في باحة الدار يكلفها مشقة السلام والرد عليه. تسلقت السلم متبينة وحداته بتروٍ في جوٍ معتم، فقد شاءت أن لا تضيء نور السقف فتبدد هيبة السكون المخيِّم على المكان حتى تدلف في حجرتها، بدت وكأنها لص يتسلل بين الجدران، يريد أن ينال مبتغاه بحذر شديد وخفة قبل الوقوع في المحظور.
– عندما تغادر، لا تريني وجهك ثانيةً.
– طبقاً لما ما توقعته منك مؤخراً.
– كان يجب أن يكون مبكراً.
– الفراسة كانت تخونني.
تأملت صورة المراكب الراسية على جانب البحر وهي تعانق نظراتها، تتحدى كبريائها كلما ارتكزت على اخمص قدميها. “وأنتِ متى ترسوا مراكبكِ؟”، وراحت تحدق في صورتها المتكورة/الجاثمة في الجوار. التقطت انفاسها بعمق مشفوعة بشيء من الحسرة، وتمنت لو باستطاعتها تمزيق هذه الرتابة/ البلادة، وأن تلقي بتلك المراكب وسط البحر وتتيه في قرارته فلا يقف احد منها على خبر، جالت ببصرها الى الأعلى والثريا تقبع فوقها برتابة تزيدها ارقاً فوق قلقها، ثم مجموعة من باقات الورد قد صفت بعناية على الرف المجاور لإطار النافذة، كانت قد اهديت اليها في مناسبات كثيرة، وفي عيد ميلادها الأخير، راحت الاشياء تدور في رأسها بسرعة مذهلة، أغمضت بصرها بين كفيها لتعيد استقرار العالم شيئاً فشيئاً، ولكن محاولتها قد تكون غير مجدية في اغلب الأوقات.
مضت متحاملة على نفسها تجاه نافذتها العريضة متعثرةً بحطام الذكريات الممزوجة بإعصار الماضي، وضياع الحاضر، وظلم المستقبل. تناولت جرعة اضافية من ثيمة الحياة محاولة اثلاج صدرها المتأزم، واخماد البركان الذي يغلي في اعماقها. تتابع الشمس تغور في اصيلها مخلفة ورائها زوبعة من الحزن وعدد من قطرات الدمع التي راحت تنساب على خديها المتوردين.
عندما لمحت خيالها ماراً تجاه مخدعها، عادت فجأة الى حلتها القديمة/ العنيدة وكأنها تعرضت لصعقة كهربائية.
– لقد سألوا عنك كثيراً.
– أفي وسطهم تجلسين؟
– كانوا يتمنون طلعتك.
– تفاهة!
تركت السباحة في عالم الخيال، وحاولت العودة الى ارض الواقع، اذ لم تعد هناك مشاهد مثيرة من على النافذة، أرادت أن تحافظ على هدوئها وطمأنينتها، لكن العالم بدأ يتمرد من امامها ثانيةً، الجو اخذ ينذر بهبوب عاصفة هوجاء، ففضلت الانزواء جانباً وشعرت برغبة تراودها في قراءة كلماتها المتناثرة على ادراج مكتبها. أخذت العبارات تخرج من شفتيها بنبرة مثيرة وصوت خافت. كانت معتادة على هذه الفعلة طيلة السنين التي عاشرتها في تقاسيم تلك الذكريات المحطمة، وهذه الأرضية المتراصة. باتت تشعر أنها تستمد ديمومتها من عمق تلك الجدران التي تأويها.
– تعرفين ان امرهم قد لا يعنيني كثيراً.
– كلهم؟ أم احدهم؟
– أعباء تلقي بضلالها على الواقع المتأزم.
– حكمة بائدة وظلم مستبد.
اخذ الهدوء يعود ادراجه، فالعاصفة بدأت تؤذن بالرحيل، العالم اخذ يستعيد وعيه بحركة درامية. احست بنزعة تدعوها للمشاركة، كانت بضع دقائق امام المرآة كافية لإصلاح شعرها وتعديل لون شفاهها، لقد فضلت ان تختار لها لوناً قرمزياً من بين الوانها المدرجة على لائحة طلباتها اليومية. هبطت بخطوات مرسومة وحركة متزنة، ثم اتخذت لها مكاناً في الوسط بعد أن صافحها الجميع، وقبلوا منها الأيادي حتى كادوا أن يضعوا على رأسها التاج كملكةً تجلس وسط حاشيتها.
– لماذا اعلنتِ انسحابك المبكر؟
– لم أعد احتمل هذه التفاهات.
– ضرورات!
– كنتِ مخطئةً بتلك الضرورات/ التفاهات.
كان عليها ان تناقش المسألة، ولكن يبدو أن عزيمتها باتت تخونها فأخذ اليأس يدب في اركانها واحداً بعد الآخر. شرعت بتقطيع اوصال كلماتها لتتطاير اوراقها في كل اتجاه. “لقد وعدني أن يقوم بنشر كلماتي عند أول قراءة، لكنه بدلاً من ذلك يحيلها حطاماً متناثراً في الهواء”.
– الرياح بدت تسير بعكس اتجاهها.
– بما لا تشتهي السفن؟
– سوف تواصل الإبحار.
– ليس بعيداً!
لماذا لا تذكره بوعده، حتى ولو لمرة واحدة، تحسسه انها رهن العهد الذي قطعاه على نفسيهما عند اول كلمة حطت رحالها بين يديه: “أن اتصل به؟”، لكنها لن تجد رقم هاتفه في زحمة الأشياء المتراكمة في مخيلتها هذه الأثناء، أو أن تكون رسالة/ كلمة تبين موقفها بصراحة، لماذا لا تكلف احدهم بلعبة الوسيط السياسي مقابل أن تدفع له ثمن العمالة مقدماً مقداراً من الذهب الذي تحتفظ به في خزانة ملابسها، أو حفنة من النقود من درج مكتبها.
أتت على آخر كلمة فطوحت بها في مهب الريح غير آبهة بما يدور حولها، حيث بدت وكأنها قد اختزلت الزمان والمكان، واستحالت الى كائناً خرافياً يرتدي طاقيته ويندفع وسط الحشد دون أن يشعر/ يشاهد هلاميته أحد.
– أنت ماذا تعدّين هذه الأيام؟
– أنا في سباق مع الزمن.
– حاذري أن تقعي فريسة.
– سأتمرد عليك.
تهاوت بجسدها المكدود على الكرسي الخشبي الذي حفرت عليه السنين سلسلة من الجراحات الآسية/ الطويلة/ العميقة، كانت بادية للعيان، حتى لونه الرمادي استحال الى صفحة معتمة تحفر في اعماقها، وتخلف زوبعة من الذكريات تجثم بجانبها تذكرها بتعاستها كلما حاولت نسيانه. “لقد أمسى النوم في اجفاني كالرصاص”، وباتت اعصابها مرهقة، وجسدها متعباً، كان عليها أن ترتمي على اروقة السرير، ولكن بدا لها وكأنها تسمع صوته يتردد عبر الجدران. أصغت اليه ثانية، “يا لها من كارثة! انه بعينه”. فهي تعرف صوته جيداً عندما يقرأ لها كلماتها بصوته الأجش في ليالي الشتاء الطويلة، بينما تجلس هي بجانبه تدخن سيجارتها المعتادة، وتحتسي قهوتها المرّة على قدسية قطرات المطر المنسابة من على شرفات نافذتها العتيدة.
أرادت أن ترد عليه ولكن صوتها بات غائباً، وهيبتها متهاوية، ورحلتها كانت بعيدة، تمنت لو يغيب هذا الصوت عن مسامعها ولو لفترة قصيرة، لكنه ابى الاّ ان يعاود الكرّة وبصخب أشد، حتى باتت تحس بأن هذه الترانيم كما لو تنبعث من تحت السرير. حاولت استطلاع الأمر عبر النافذة لكن قواها لازالت خائرة ولم تعد تقوى على النهوض. كانت تشعر وكأنها قد ارتمت في موج من البحر يلج اركان العالم بكل حدوده.
تذكرت أن صوته الوحيد الذي امسى قريباً من نفسها من بين كل الأصوات التي ميزتها مؤخراً. قد يكون قادراً على محو تكسرات الزمن القابع على صفحات وجنتيها المائلتين للاصفرار، وإلاّ فإن عليها انتظار ما تفضي به امواج البحر وهي تحتضن مراكبها الراسية من بين زحمة المنتظرين.
– سبق وأن أخبرتك بأن نظرتكِ للعالم متعالية/متشائمة.
– كرامتي اولاً.
– وآخراً.
– سأستمر.
– لم يجثو على قدميك بعد.
– شماتة سأحفظها لك.
لجأت الى طريقة تعلمتها في نعومة اظفارها عندما كانت طالبة في المدرسة: بأن تتكور على الأرض كالأفعى، ثم تنطلق واقفة على قدميها فيما ترتكز على اطرافها الأربع. كان الهاتف يرن بأصوات حبلى ونفس أجش. جلست على كرسيها تحاول اسكات الضجيج.
الهدوء اخذ يعود للمكان بشكل تدريجي، كانت يدها مرتبكة، ورعشة تسري في جسدها النحيل فجأة، وكأنها مصابة بحمى فايروسية، لمسات من صوته تنسل عبر الأسلاك، لتملئ عليها أرجاء الغرفة بالكلمات والحبر الدافئ، دفئ ليالي الشتاء الماضية. أراد تذكرتها إن كانت ستفي بوعدها الذي قطعته على نفسها، أم ترغب في التنصل منه. لكن اوراقها ضلت متطايرة وعالمها كان صاخباً. كانت هذه القصائد هي التي وعدته بأن يقرأها لها في هذا اليوم. أعادت الحاكية الى مكانها الطبيعي، وبلمسة من يدها ارادت تلطيف حدة التوجس والقلق اللذين يتمرغان في رأسها، وهي ترتمي على الكرسي. بدت تتكور على منتصفها وكأنها شرنقة.
شكرا جزيلا مجلة بصرياثا على كل هذا الجمال والابداع الأدبي والفني