راكمت الكاتبة المغربية أسمهان الزعيم مجموعة من النصوص الإبداعية – قصصية و روائية – مثل: قبضة ماء، ما قيل همسا ، لم يكن وحده في الجب ، لوعة البياض ، عباءات الروح ثم أخيرا رواية : ريحون . هذا النص الروائي يعد من النصوص المتوسطة الطول سرديا . فماهي طبيعة إخراجه الروائي ؟ و ما آفاقه الدلالية ؟
1- من العنوان إلى النص :
العنوان في الوعي النقدي المعاصر نص مواز و محوري في تلقي الأثر الفني ، سواء كان أدبا أم شعرا أم سينما ، حيث يمارس تأثيره في المتلقي و يدفعه مـن حيث لا يدري إلى استشراف آفاق النص الدلالية . و قـد اتخذت الروايــة موضوع التحليل لفظة ” ريحون ” عنوانا لها . و هي لفظة تحيل في خليجها اللغوي إلى الريحان والترويح و الراحة أو الارتياح و الراح و الريح ….و هي معاني تشترك في الحركة من جهة و المادة من جهة ثانية و الوجدان من جهة ثالثة . هذه المحاور الثلاثة تنتظم وفق الآليات التالية :
– آلية الفعل
– آلية الوجدان
– آلية الأثر .
ورد لفظ : ” ريحون ” في الملفوظ السردي التالي :
” و قد بلغني أنكم ابتدعتم لي لقبا و انا في منفاي الصغير و مسحتم بذلك اسمي الشرعي
القديم . فأصبحت ” ريحون ” في نظركم . و انتهى عهد اسمي القديم ” كامل الحيرة ”
الذي وقعت به ردحا من الزمن رسائلي الغرامية مختصرة في حرفين ” ك . ح ” مخافة
أن يقع الظرف في أيد غير يدي حبيبتي ..”
هكذا ، يحسم ملفوظ الرواية في دلالة ” ريحون ” بكونه اسما بديلا أو لقبا ثانيا للشخصية الرئيسية في النص ، لكنه اسم محفوف أو مضمخ بمعاني كامنة مثل المنفى و الاغتراب :
أولا : لقد فقد البطل حميمية أو ألفة اسمه الأول : كامــل . و يصرح البطل أنـه كان يشعر بنوع مــن الاطمئنان يمنحه له اسمه الأول لما كان يوقع رسائله بحرفين : ( ك – ح ) و بالتالي يضمن حماية من الفضح أو التشهير لما في الاختزال مــن إمكانية التمويه و المواراة . لقــد كان توقيعه لرسائله بهذه الصيغة يؤمنه مــن لعنة العشق أو لوثة الحب فــي وسط اجتماعي ظاهره المحافظة و باطنه الفساد و المروق . لقد تضاعف اغتراب البطل داخل اسمه عندما أطلق الاب اسم ” ريحون ” على ابنه فكان إهانة له و محنة .
ثانيا : لم يتوقف الاحساس بالاغتراب عند حـدود اللقب الجديد، بــل تضاعف عندما اتخذ البطل اسما آخـر، يتعلق الأمر ب” الراجي ” خاصة عندما التقى السائح الفرنسي دانييل :
” و كان دانييل السباق إلى تقديم اسمه و الكشف عن هويته و موطنه و اسمه . و انفلتت من شفتي ريحــون ابتسامة
خافتة و قد تلكأ قبل أن ينبس باسمه . أيطلعه على اسمه الذي على الورق أم اسم الشهرة الذي اختاره له أهل الحارة
ذات حــدث بئيس ؟ و حدثته نفسه أن يكتم الاثنين و ألا يطلع الغريب على مكنون هويته و لــه أن يبتدع اسما ثالثا
ريثما تنتهي رفقته القصيرة لهذا الغريب ….فألقى نفسه يقول للغريب دون أن يرتب الأفكار و لا أن يستقرئ مغزى
الكلمات : اسمي الراجي …”
لا سيما بعدما رطن الفرنسي اسمه مرحبا به ، لحظتها سيشعر ريحون بإحساس غريب جديد ، إحساس بالخيبة و القلق و الياس باستحضاره معنى الغضب : enchanté Ragi
إذ كان يأمل أن يسمع لفظة توحي له بالأمل و الفرح :
” و رنت في أذني ريحون كلمة Rage فوخزته شراسة المعنى و تمنى لو أن دانييل نطــق بدلها Ravi ، و شتان بين
المسرة و السعار . ”
بهذا الشكل عاش البطل تجربة تبدل الإحساس مع كـل اسم جديد ، حيث كان ينتقل مــن الحميمية إلـى الغربة ، و من الاطمئنان إلى التوتر و القلق :
– مع اسم : كامل الحيرة كان البطل يشعر بالألفة .
– مع ( ك – ح ) كان البطل يحس بالاطمئنان و الأمان
– مع لقب ريحون أصبح البطل غريبا عن وسطه و بين أهله .
– مع الراجي ، الاسم الجديد تضاعف لديه اليأس و القلق
و يمكن أن نلخص مسار غربة البطل على مستوى الاسم كالتالي :
– مرحلة التهيؤ : بداية الخوف من أن يتعرف الآخر على رسائله الغرامية ، فكان يختزل اسمه في حرفين .
– مرحلة التذمر و التوتر : تحقق ذلك عندما أطلق أهل الحارة لقب ريحون على كامل الحيرة لما فيه من الإبعاد و الإفراد و العزل الاجتماعي ، بسبب حوبته أو خطيئته .
– مرحلة الاستئناس : خاصة عندما اطمأن إلى أن لقب الراجـي أنسب لحاله و وضعه . إذ كــان يتراوح وجدانيا بين الياس و الرجاء ، بين الخوف و الأمل ، بين الرغبة في الخروج مربع الحيرة إلى دائرة الاطمئنان .
2- في البناء السردي للنص :
تكشف القراءة الفاحصة للنص و المتتبعة لمساره السردي ، أنـه اتبع طريقــة خاصة فـي الإخراج السردي لمــادته الحكائية ، حيث هناك أولا مادة حكائية محورية / حكاية ريحون ، إذ يتابع السارد تقديم مسار حياته :
– مغادرة الحارة العظيمة .
– الالتقاء بالسائح الفرنسي .
– السفر إلى فرنسا لمتابعة الدراسة والعمل .
– العودة إلى المغرب و الاستقرار به نهائيا ( العمل – الإقامة – الزواج )
بالمــوازاة مع هذا المسار ، يقدم السارد محكيات صغرى بمثابة جداول مائية تبــدو منفصلة عن نهر الحكاية ، لكنها تنبع منه أو تصب فيه ، أو يمكن أن نقول إن هذه المحكبات تضيئ عتمات الحكاية الأصل و هذه الأخيرة تستضيئ بها مثل :
– حكاية مي فطومة ( ص 66)
– حكاية مدام بوفاري المغربية ( ص 117)
– حكاية الرجل الغريب الفاكهاني ، الملقب بأفنان ( ص 183)
– حكاية رقية أخت البطل ( ص 185 )
– حكاية ماجد أخ البطل ( ص 193 )
– حكاية لالة جميلة …( ص 226 )
– حكاية الدرويش ( ص 267 ) ….
وقد اتبع السارد في إخراج مادة النص الحكائية و جعلها خطابا سرديا مجموعة من الآليات ، يمكن رصدها كالتالي :
– آلية التتابع : يعد منطق التتابع آلية من الآليات التي اعتمدها العقل السردي في الكتابة السردية و جعل الحكاية خطابا يتلقى و يؤول . فالسارد هنا في نص ” ريحون ” يتابع سرده من نقطة مغادرة الحارة التي شكلت البداية ثم واصل ذلك إلى أن أرسى حكيه عند عودته إلى بلده و استقراره اجتماعيا و وجدانيا . وهذا ما خلق المسار السردي في النص .
– آلية الاستطراد : نلاحظ أن السارد جنح خلال تقديم مادته السردية في هذا النص إلى الاستطراد كتنويع على مادته الأساس من جهة ، و كتشعيب للمسار السردي المركزي في النص . و لهذا كانت المحكيات الصغرى عبارة عن استطرادات من طرف السارد حققت الغايات التالية :
– تحريك مخيلة السارد و توسيع مجال الخيال لديه .
– محاذاة المسار الســردي الرئيسي و اتخاذ هذه المحكيات المحاذية محطات أو باحــات استراحة . فقراءة النصــوص السردية شبيهة بالسفر عبر الطريق السيار ، و الجنوح إلى بعض المحكيات الثانوية بمثابة محطات استراحة ليتجدد نفس القراءة .
– إضفاء أو تحقيق الواقعية على الحكاية الرسمية ، فعندما تتشعب الحكاية الأولى يعتقد القارئ أنها واقعية مثلما تتشعب الحياة الإنسانية نفسها . وهذا ما يعمل على تجدير الحكاية في الواقع و ترسيخها في الحياة الاجتماعية .
آلية الاسترجاع : تحقــق الاسترجاع في النص علــى مستوى الحكاية الأم : حكاية ريحون . فكثيرا مـا عمد الســارد إلى استرجاع مجموعة من الوقائع من ماضي البطل القريب مثل استرجاعه لبعض الأحداث التي عاش أطوارها في المغرب قبل أن يسافر إلى فرنسا :
– صورة حبيبته الأول ( ص 27 )
– استضافة دانييل له في فرنسا ” السائح الفرنسي ” زمن الدراسة ( ص49- 50 )
– ذكرياته مع أمه ( ص62 )
لقد اشتغلت هذه الآلية على مبدأ التذكر التي كلما فتحت كوة في ذاكرة البطل على حدث أو شخصية إلا واستعرض أهم تفاصيلها متأملا أو مؤولا . لقد كانت هذه الآلية بمثابة تداعي أو انهيار لجدار سميك ، فتتداعى الأحداث بسلاسة و عفوية ، منسجمة مع مسار الحكاية الأصل ، و مكملة لما كان غامضا في سيرة البطل .
3- من اختبار البطل إلى تأهيله :
قدمت الرواية وضعيات مختلفة عاشها البطل ، كانت بمثابة اختبار له . و قد ابتدأت تجربة الاختبار عندما شعر بأنه تخلى عــن الدين الإسلامي فـي حواراته مع صديقته ميراي ، إذ رأى في منامه حلما مزعجا أو كابوسا أوله بسبب هذا الابتعاد عن الدين أو شبه التخلي عن عقيدته و ما تفرضه من التزام و انضباط :
” و شعر بوخز خفي يدمي فؤاده حين تذكر أنه تخلى عن كل شعائره الدينية عند مقدمه إلى أوربا و نسي الصلاة و
و صار يلهث وراء نزواته ……
و نام تلك الليلة ملء جفنيه بعد أن غالب الظنون و جاهد الشكوك و هو يحاول عبثا أن يقنع ذاته برجاحة عقله و
سداد رايه …و هبت ريح عتية من حيث لا يدري فرأى السماء تهمي بمطر أسود و الشوارع غرقى في سيول
لزجة من دم ….و انفتحت عيناه و قد تملكه الذعر من شدة الارتطام و اتسعت حذقتاه و هو يرى أنه على سريره
مكوم كما هر لسعه قر الصقيع …..و شعر بخضة عنيفة ترجه و هو يستعيد بعض شذرات متشظية من رؤياه
المسربلة بوشاح تفاصيلها الملغزة ….”
و قد تأكد نجاحه في الاختبار حينما اتهمته ميراي بالعصيان أو المروق من الدين بسبب سلوكه و أفعاله ( الجنس و الخمر ) . لقد انتصر في مناظرته معها حول احتلال إسرائيل لفلسطين و اعتباره استعمارا و ظلما و اعتداء على حقوق شعب: هوية و تاريخا و عقيدة و حضارة ….و سيؤكد السارد فوزه حينما اقترحت عليه في لحظات الهدنة أن يسافرا إلى القدس باعتبارها من أهم مدن الشرق الأوسط ، إذ رفض ذلك و اعتبره تطبيعا مع إسرائيل و خيانة للموقف العربي القومي و الإسلامي من القضية الفلسطينية .
الاختبار الثاني الذي خضع له البطل ، عبر مساره السردي هو نجاته من خطة السائح الفرنسي دانييل ، إذ لم يتلطخ عرضه بسوء و حافظ على طهارته و عفته رغم فقره و حاجته إلى الدعم و المساندة المادية و المعنوية من طرف دانييل . لقد استوعب أن ذلك كان طعما و خطة للإيقاع به .
قال دانييل لريحون متوددا: دعني أساعدك في ارتداء بدلة النوم، فأمده بالقميص و لم يكد يخرج راسه من عنق
البدلة حتى خاصره دانييل من الخلف و أطبق شفتيه على رقبته و بنشوة بالغة طفق يلثم كتفيه ( ص 50 )
” و أدرك ريحون أنه وقع في فخ كبير فلهجت دواخله بدعاء خافت ، ثم سرعان ما استلهم قوة خفية و كأنما طاقة رهيبة
تسللت إليه من فج في السماء …..
ثالث اختبار تمثل في نجاته من القتل غدرا حين هجم عليه غرباء رفقة صديقه أمام إحدى الحانات بباريس .
” ثم شرع بسحب معدات إصلاح العجلة من صندوق السيارة ، و لم يلبثا أن انتهيا من عملية الإصلاح حتى طوقهما
رجلان من الخلف و من الأمام و شهرا في وجهيهما السلاح الأبيض و قد أخفى كلاهما ملامحه بقناع أسود…
” و راحت ذاكرته تستدعي الأحداث بتفاصيلها الدقيقة ، فاستحضرت تفصيلا وقف عنده طويلا ، فأخذت نفسه تحدثه
و هو ينصت لأزيزها الصامت : كنت أنا المقصود …..ص 159 .
رابع اختبار كان عندما سافر مع صديقه ممادو إلى الموزنبيق ، حيث لذغته أفعى ، فتلقى علاجا تقليديا :
” لكن الجولة تعكرت بلدغة ثعبان مباغتة ..و خيل إليه أنه سيلقى حتفه لا محالة بعد أن تسرب السم رويدا رويدا إلى مسامه
لكن أحد رفاق الرحلة أسمر اللون ، قوي البنية شمر عن ذراعيه و أمسك ساق الوافد الغريب و حزمه بشريط ثم طفق يمتص
السم و يبصقه ..و كي يمحو آثار السم أشعل فتيلة زيتية و قذف بها في قبضة أعواد يابسة …و انتهى فصل الكي الذي
علمه الجلد و اليقين في الشفاء أيضا .
كما نجا من هجمة أسد في الغابة نفسها . و من السيول التي جرفت التربة و الحجر و الشجر و الحيوان : ( ص 177 )
خامس اختبار تأكد من خلال صحوة ضميره و تأنيبه له نتيجة السهرات التي كان يحييها رفقة أصدقائه بالمغرب . و هذا قد كشف عن نقاء سريرته و صفاء وجدانه و طهارته و عفته حين قرر التخلي عنها و التوبة منها ( ص 224 )
يعتقد البطل أن هذه التجارب التي خاضها هي اختبارات وضعها له القدر أو الغيب لامتحان سريرته و إيمانه و جعله يستوعب الرسائل التي بعثها إليه القدر . و كأن السارد يعلم النتيجة المرغوبة و هي الالتزام بالدين عن طريق إحياء شعائره ( الصلاة و ارتياد المسجد ) و الطهارة المعنوية : التوبة عن الزنا بالزواج و الانقطاع عن الخمر بقراءة القراءان و البراءة من الدنايا و الأفعال المقيتة بأعمال الخير و البر .
خلال هذه الرحلة و نتيجة الاختبارات التي خاضها لم يفشل البطل و كأنها تجارب تطهير و تصفية الذات من شوائب اصابتها في معترك الحياة :
– شوائب فكرية : تمثلت في أفكار الإلحاد و التشكيك في الدين التي كان مصدرها الفرنسية ميراي .
– شوائب سلوكية : تمثلت في إمكانية الخضوع لرغبات دانييل الجنسية الشاذة و المنحرفة .
– شوائب وجدانية : لم يتلوث وجدانه بالكراهية أو الحنق او الرغبة في الانتقام ممن أساء إليه : صديقته سناء و والده و الفرنسي دانييل .
لقد تشكل بناء البطل بإعادة بناء و ترميم منظومة القيم العربية الإسلامية مثل العفة ، الصبر ، الفضيلة ، المروءة ، …و قد تحقق هذا التطهير من خلال المرور :
– من الاغتراب إلى الألفة
– من التيه إلى اليقين
– من الشك إلى الحقيقة
– من العزلة إلى الاندماج
و يمكن أن ننظر إلــى هذا الإجراء نت خلال المسار الوجداني أو العاطفي الذي ميز تجربة “ريحون ” على مستوى علاقته مــع النساء ، ففــي علاقته الأولى مــع صبية الحارة كان مصيره المنفى و الإقصاء أو الإبعاد . و نفس المصير تلقاه في علاقته مع سناء التي تخلت عنه و تزوجــت من هو أيسر منه مالا . كما عاش تجربة اغتراب فكــري فـــي علاقته مــع ميراي ….لينتهي هذا المسار بالألفة و العودة إلى أحضان مجتمعه من خلال علاقته مع لالة جميلة التي تأسست على قيم أصيلة بعيدا عن أي نزوة عاطفية .
خاتمة :
لقد مثلت هذه الرواية نموذجا من النصوص الروائية التي راهنت في منحاها الفني و بنائها السردي ، ليس على الحكاية في ذاتها ، و لكن علــى أهمية القيم التي تمنح الإنسان قيمته و اعتباره الاجتماعي مــن خلال تجربة الشخصية الرئيسية ” ريحون” الــذي سعى النص تشخيص رهانــه مــن خلال مساره في الحياة و المصائر التي عاشها أو التجارب التـي خاضها . هــذا المسار تأكد مــن خلال تجربة الاختبار و التأهيل ليكون نموذجا و مثالا للاقتداء و الاعتبار .