-“إن العديد منا اليوم أصبح يحبذ الاعترافات المكتوبة،ولا يفضل المحادثات الكلامية، لأنها تٌخفي ملامحنا حين نخجل، ولا تفضح نبر صوتنا عندما نتوجع ونتأوه، ولا تكشف دموعنا حين نكابر، لا تفضح هواننا عندما نصبر ثم نصبر ثم لا نصبر”…
وأديبنا المحتفى به اليوم أعرفه هادئا صامتا. ذاكرته مترعة بمخزون سخي من الأحداث. لا يسرف في الحوارات والأحاديث. لكنه يتقن لغة الحروف المكتوبة…
انطباع أولى:
وأنا أتابع مباشرة اعترافات ضحايا الانتهاكات اللا إنسانية للنظام البائد وخاصة اعتراف “سامي براهم”. ومن خلال ما سمعته من الأصدقاء والمقربين، تأكدت أنّ “سامي” وجميع من تحدثوا مباشرة في الإعلام، لم يقولوا الحقيقة ..
لأنّ الحقيقة أبشع من أن تقال. وأمّر من أن يُكشف عنها.
ولما قرأت عنوان رواية “فتحي البوكاري” قلت: وجدت ضالتي لمعرفة بعض منها، من الحقيقة. ولكنه أيضا لم يقل الحقيقة..
روحه الروائية أبت أن تؤذي مشاعري كقارئ. فقدم لنا رواية توحي بكونها سيرة ذاتية. ولكن جانبها الخيالي كان أرحب من الواقع المعاش.
“فتحي البوكاري” في روايته “كسرُ شرّ” شطب على السياسي وأبقى على السجين. سجين ماذا؟ سجين بيئته وتربته وتربيته وواقعه الاجتماعي.
كنت أنتظر حقائق لم يكشف عنها، وأسرارا لم يمط عنها اللثام. فوجدت رواية مشوقة تتنازعها ذات / وأحلام / وواقع.
” ليس ثمة ما يقلقني. هذه الخطوة والطريق التي سلكتها ترتفع بي على هدى، إلى بهجة الروح وخنادق الصمت والانطواء”. ص23.
الذات: محافظة، مسالمة، دمثة الخلق، رصينة الروح، مرهفة الحس، مخلصة للصداقة، وفية للأهل والقرابة، منتمية لأسرة متواضعة الحال، تميل إلى التفلسف، مالكية وتفتخر، صبورة حدّ الجماد والتصنّم. ملتزمة في لغتها وتعبيرها ومشاعرها وسلوكها وأفعالها حتى في حلمها.
الأحلام: عظيمة لا تسعها أرض ولا تحدّها سماء. يحلم ببناء مجتمع فاضل، مجتمع صالح مجيد، يحوي نظاما عادلا محاطا بحدود الله المحظور تعديها، غاياته تسكن وجدانه. ولكنه يؤمن بالاجتهاد سلاحا.”كان ذلك في زمانهم، ولو عاشوا زماننا لقالوا بما قلنا”. ص75. ” ليس من السهل أن تصل إلى اليقين بمركوب الجاحظ في القرن العشرين”. ص92.
الواقع: مرير، مظلم، كئيب، قاهر…. يذكرنا به كل حين في أحداث الرواية.
أين هو(بين هذي التقاطعات الثلاثة.) تضاد أحلامه العظيمة مع قدرات الذات المحدودة وهوان واقعه القاهر.تُيّم بالأحلام وآمن بذاته،ومازال القلب ينبض ويصرخ: “إلا أن شمعتي كانت في قلبي وليس في يدي” ص16.
البطل سالم المسالم:
بطل “كسر شرّ” هو:”سالم بن أحمد الثريبي” ص97.
– “سالم”من السلم في السلوك وسلامة السريرة.
– “أحمد” من الحمد والشكر لله برغم المعاناة والظلم.
– “الثريبي” لا تثريب عليه فيما يفعل، فهو في جل أموره مسير وليس مخير.
“سالم”بطل أحداث الرواية الذي يبحر بنا في ذكرياته المكتنزة بالتفاصيل الطفولية العابثة البريئة. الآثمة حينا والصادقة أحيانا. (مباريات الكرة في شوارع الحيّ/ مباريات التواجد في المساجد/ مباريات حضور القلب). رحلاته في مرحلتي الصبا والمراهقة (الكشافة/ دار الثقافة/ الملعب / المسجد/ الأخلاق العامة/ الأصول والواجبات).
يوغل برفق تارة، وبقوة وحماس تارة أخرى في جوانب حياته المجتمعية. يقدم لنا نقدا عميقا لكل ما يحدث، دراسيا وثقافيا وسوسيولوجيا وتربويا وسياسيا واقتصاديا ودينيا. تصويرا ونقدا للأصدقاء والرفاق والجيران. حالته بين الفطرة والتكليف في قالب طفولة واعية (يوسف الصادق ونور الدين وعمر بشاوش وعلى الدرماسي وإبراهيم الدولاوي والريقطا وبالطبع سالم السارد الأغر). سكب المولى لهم الطهر في أوعية قلوبهم وأطلقهم للدعوة سعيا للخير والمعروف، فأصبح اللعب وسيلة للتصالح مع الله، والتعرف على الذات العميقة، بدون أية شفرات أو ألغاز.
يحاكم التقاليد البالية الموروثة والخيارات السياسية التي أنجرت عنها ممارسات اجتماعية طاغية، تحرسها السلطة الحاكمة طبعا. ومظاهر الانحراف التي نخرت المجتمع، وانبهار شباب الأمة بالثورة الايرانية. ويتجرأ ويعلن لنا رأيه في تفتيت ممالك الظلم ودحر سلاطين القهر ويتساءل عن شرعية الانقلاب والتمرد وافتكاك السلطة بقوة السلاح؟
توهّمات تنبتها المعاناة:
– يمسُ ما يحاك في عوالمنا الواقعية المعاصرة، ويقاربها بما حدث له في طفولته. (الحرب بالوكالة، الغدر بالأصدقاء من أجل المصالح، شيم المدينة وصفات التمدن في عداء مع أخلاق وصفات أهل القرية، خذلان الضفة لقطاع غزة والجدار العازل)
– يصوغ لك الواقع (الماضي الحيّ والحاضر القريب) بكل سلاسة تجد فيها روحك عابرة تئن. وتلمح أجزاء موشّاة من واقعك وماضيك وآلامك وأوهامك وأحلامك تهيم وتنتفض بين دفتي غلاف الرواية.
“سالم”:أنت تعرفه. قد يكون جارك أو ابن جارك. أو ابن عمك أو ابن خالك. أو أخوك. أو قد يكون أنت. نعم بهذا القرب وبهذه البساطة. إن ما يحكيه ويسرده وما يرويه يمس عواطفك، ويعانق ماضيك، ويطهر روحك، وينكأ جرحك، ويوقد أمانيك وأحلامك التي مازالت تتنفس.
“سالم” هو “فتحي”:
– في هواياته الأدبية المبكرة، مهاراته وميولاته التقنية في الخراطة والتفريز وطي الألواح المعدنية وثقبها، في دراسته الجامعية في الأكاديمية البحرية. “لكل شخص لحظته الخاصة، يعيد فيها تشكيل روحه ورسم خطوط حياته… بدأت أنظر إلى كل شيء من زاوية منفرجة وبأحاسيس مغايرة تماما لنبض أعماقي الذي كان.” ص22
– في حلمه المدهش ص(116:120) وقد أسماه الحلم الغريب المشوش.
– هو الحيي الملتزم حتى في وصفه وسرده: “حديث الزملاء الصادم عن الطقوس العبثية كان خادشا للحياء عندما تحدثوا عن الشحم الذي لحس مؤخراتهم” بداية ص148.
– “سبه الريقطا بصوت بليد وعيره بعائلته القذرة…لم أنصفه وبقيت صامتا تحت وقع الكلمات النابية.” ص10.
– “فأجاب الآخر بما في نفسي ولم أبده: اتهد، فأنا متعب ولي رغبة في النوم. وتلفّظ بكلمات بذيئة”. ص 115 لكنه لم يحبّرها.
لم يفلح الكاتب بانعطافاته السياسية داخل الرواية في إقناعي بأنه سياسي. بسبب الروح السردية الفنية والطابع الاجتماعي الغالب اللتان تسيطران عليه وتأسر القارئ وتدثره.
إحالات الرواية:
أحالنا إلى الأدب العالمي: “أنطوان دوسانت اكسوبيري” ص87 ـ كتاب البحر والتاريخ “جون ميلنغتون” ص117 ـ الأسباني القاص ” رامون سوليس” ص11ـ “مايكل أوهلر” الباحث في علم الأصوات ص114.
وإلى كتب التاريخ الصفراء اللون ” أبا الوليد الحسن بن رحال” ص74ـ أساطير وأعاجيب الاغريق في الاحتفال والاعتقاد ص92، 148ـ معاهدة الاستقلال بين الباي والمحتل والتي مازلنا حتى الآن نبحث عن حقيقتها ص24ـ رواد الدين الأوائل من غرباء الأرض “بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي” ص54. ثم إلى الفنان المعجزة “شارلي شابلن” وفيلمه “الأزمنة الحديثة” ص141.
لغة الرواية:
إلى جانب الفصحي التي يحسن فارسنا ترويضها لصالح نصه، استخدم العديد من المفردات العامية وفسر بعضها في الهامش.استخدم العديد من المصطلحات الأخرى ولم يفسرها. مثل: (القضية، الفرت، الخردوق84، الثنية100، بزروط106، الكمبا142، الطياب70، بيزوتاج، وضع البومبا، الزوارة146، جبة عكري177، بخوش الفول عيرود152، الشتاير153، مبستن159)
البناء الدرامي للأحداث:
فصول الرواية تصاعدت أحداثها تدريجيا بهدوء نسبي بلا مطبات ولا انعطافات خطيرة تهدد التماسك السردي للرواية.
ولكن الفصلين16 و17 كانا امتدادا موازيا للخط السردي العام للرواية. وكأنه سردا منفصلا لبداية “كسر شر” جزء2.سيرة ذاتية حول مكانة “نور الدين” في قلبه، ووقائع حادثة سقوط طائرته من وجهة نظر “سالم” الخاصة. قد مهّد لها: “حان الوقت لأغادر ..سنلتقي” ص66. لكننا لم ننتبه ـ القاريء والسارد ـ لاتفاقهما. ثم جاءت النهاية قاطعة في نزول حاد كما في فيلم سينمائي أمريكي حديث. قطع قد لا يروي عطش المشاهد بل يدفعه بهذا الانقطاع المفاجئ نحو البحث والتحري والتقصي عن منابع الحقيقة بدافع الفضول ونقاوة الوعي.
أراه قد فشل فيما اختاره من مقولته ـ المختارة للتصدير: ” إذا شرعت دولة عظمى مفرطة في رأسماليتها في التركيز في حرب ضد الإرهاب…. سيضع عقبات هائلة أمام نسيج عالم مترابط”-بإيهامي أن روايته عن الإرهاب أو العنف السياسي.
كما كان اختياره للحادثة الأولى في بداية رحلته السردية (انتحار صديقه ولد فطومة حرقا) ثم اختياره لحادثة النهاية (تحطم هليكوبتر صديق عمره نور الدين) مأساويا صرفا، لم يجعل روايته سياسية ولا نضالية.. بل صاغت نفسها لتكون إنسانية من الطراز الرفيع. ذات حس مرهف مجدول بالخجل. نصٌ صنع نفسه ليُملك القارئ حساسية مرهفة، يُعمل فيها عقله ويٌنهض وعيه ويستنبط مالم يُحبّر ويتخيل مالم يُسرد ويتوقع مالم يُقل.
روح التراجيديا:
الروح التراجيدية للرواية تحيلنا إلى التراجيديات الإغريقية العظيمة وأهدافها التطهيرية “كاثريسيس”. “كسر شر” رواية مؤلمة في أحداثها وعلاقاتها وشخصياتها لكنها تجبرك على قراءتها ومتابعتها وملاحقة أحداثها دون توقف أو انقطاع وبانبهار ووجد، تماما كالعرض الكلاسيكي العظيم، الأحداث فيها كأنها تقع الآن وهنا.
انطباع أخير:
عندما أقرأ رواية أو قصة أو قصيدة شعرية لا أهتم للغتها ولا لتراكيبها ولا لبنيتها الأدبية فذلك ليس من اختصاصي ولا أجيده ولا يعنيني. أنا أبحث فيما أقرأ عن الأحداث المتصاعدة والصراع الدرامي وعلاقة الشخصيات ببعضها. فإن وجدت ضالتي من الصفحات الأولى، سجلت ملاحظاتي وانتابتني رغبة الكتابة. وإن فقدتها، فقدت معها شهية إكمال القصة.
مع “كسرُ شرّ”من الصفحات الأولى، بعد العنوان طبعا، تملكني الفضول لمعرفة الخاتمة. ومن رغبتي في الوصول للخاتمة، سقطت مني وأنا أدوّن ملاحظاتي الكثير من التفاصيل المهمة. ومع ذلك عُدّت مرارا لبعض الفقرات التي لامستني بروحها. اخترت في نهاية هذه القراءة النقدية ما ورد بالصفحة 9 وأعجبني.
“ذٌكر في سفر الأولين بأن الله حين كان في ظلل من الغمام، لا شيء فوقه، ولا تحته، غير الهواء، وكان عرشه على الماء، أمر أن يكون اللوح والقلم، فكان اللوح والقلم، وأمر أن تكون السماوات والأرض، فكانت السماوات والأرض، ونظر إلى القلم نظر الهيبة، فانشق ونبع منه مداد، وجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة”.