كانت تمسك بالقضبان الحديديّة تحاول أن تفصلها تنظر بعينين غائرتين إلى الممرات حيث لا أقدام تضرب
عليها .ليس ثمّة امل أن تصرخ ثانية ،نظرت إلى الكف الأيمن تقلّبه تتحسس اثر الخطوط المرسومة عليه .نظرت إلى الكف الأيسر تفحّصتها بدقة .هي لساعات طويلة تقف ،تاخذ غفوة وقوف يوم دخلت هذا المكان .هكذا زعمت أنها ستترك الغرفة المؤثثة ،الحياة الرغيدة التي قدمت لها الملابس التي تلاطفت معها تتخيّر الألوان الصارخة .كلّ شيء اخذت من الحياة كان آخرهاالورقة التي وصلت إليها من رنين الجرس.
_مَنْ؟
_ارجو أن توقّعي هنا على ورقة الطلاق التي وصلت المحكمة،نظرت إلى موزّع البريد نظرة إشفاق،وهي تتذكّر
كل السنوات التي قضتها مع زوجها وشعرت فيها بالحب يرسم الإبتسامة على شفتها لحظات الغزل كانت تلمح فيه القارس في ميدان الحب يصارع الأهوال مِن اجلها.
بصقت على ورقة الطلاق واغلقت الباب سريعاً،اصابتها قشعريرةتوزعّت على جسمها اكثرت من الخطوات كانت الورقة بيدها .نظرت إلى الازهار ..المناظر الجداريّة ..الستائر تتزيّن بلون الازهار ،هكذا بدأ ربيع الحياة عندها يوم تابّطت يده حرارةالحب التي ستطفيء لهيب الشو ق بين عينيه.
حلّ الظلام من خلال القضبان، وسكتت الايدي التي طالما ضربت على الجدران تحفر باصابعها عن ذكريات الأيام يوم ماتت من خيط اسود علق بها وازاح الخيط الأبيض!
هو..هو..كانت تمنّي نفسها أن تحتفظ به سنوات عمرها كانت تظنّه شجرة وارفة باغصانها .قويّة بجذرها حينما قررت على وضع حدّ للايام التي تبعثرت مع رياح باردة ،وها هي تجثو من ليل طويل .ربٌما يتساوى مع نهار ثقيل يعاودها كلّ يوم،يطاردها كلّ لحظة من لحظات العمر بجسم هزيل ،وشعر مبعثر لا تلوي على تجميله.تواظب على حكّه باصابعها كانٌ الكابوس جثم على فروة رأسها تحاول جاهدة أن تخلعه ،ولكن لا تستطيع.لم تكن نافعة لهاإلا الضربات المتكررة على القضبان حتى تهدأ لما تبّقى من اللّيلة ،ويفضح العصفور الرقيق الذي إحتفظت به في ممرات البيت كلام العاشقين ،ولحظات السعادة وهي تترك حرارتها على السرير. كانت تدرك إنّ العصفور الذي دخل البيت بمناسبة العشّ الذهبي هو هديّته والتي طلبتها يوم رأت العصفور يسقسق دون توقّف ،احسّت إنّ الحياة لحظة اقبلت عليهااصرّت أن يكون هذا العصفور ضمن ما احبّت منه يوم قالت له :أنا ساحمل القفص إلى البيت عرفت ساعتها أنٌ العصافير لاتخون بل تسقسق للحياة .
صباح هذا اليوم لا يختلف عن الأمس الغادر .قالت بصوت خفيض ،صرخت بعدها :أنا بريئة..بريئة هو الذي قتله ،هو مَنْ ساعدني على قتله .خفّ صراخها بعد أن زادت ضربات الأقدام في الممرات تدعو للنهوض نظرت بشزر إلى السّجانة تصدر اوامرها للخروج مثل كلّ يوم ،ولكن ليس الشوارع ،ولا لدكاكين المدينة تلتقط ما تريد النفوس ،ولا حتى لوقفة ترى فيها شمس الأصيل تودّع النهارات ليبدأ صخب الليالي والأضواء الملوّنة ،وزعيق السيارات حين تاويهم إلى بيوتهم ربُّما بوصف عقل وملابس عليها بقع العربدة وقبلات أضاء القمر اثرها لساعات من ليل يخفي كلّ ريبة من الوشاة المتقافزين .
بدأ المسير اليوميّ إلى الحديقة التي قبلت أن ينزل فيها مَن عانى بقايا الأيام وسطوة السنوات عند جدران السجن ،هم من احيا الأرض اليائسة ليلاطفوا الازهار الملوّنة هي ليست عدوّهم تنعشهم رائحتها الزكيٌة مِن عفن الليالي ويجلسون تحت الاشجار دون حبيب أو حبيبة هم فرادى الحياة لم يعد بمقدورهم أن يزاوجوا فيها اكانت الأيام دخيلة عليهم في طلب الفراق وكراهة الشوق الذي مات أوّل يوم في العنبر الصغير فيه العذاب والحرمان ..كانت قد قررت عشيٌة الليل الفائت أن تقول كلّ شيء تعرفه عن الحقائق التي إنقطعت بينها وبين حشاشة قلبها سوف لن ابخل بالكلمات التي قلتها له ورددها معي ..اجل .!
إختارت ساعات النهار لتقول ما تريد .كانت تخسر الرياح أن لا تدفع كلماتها لتصل إليه .كانت تظنّه نائماً في فراشه صغيرها الذي دللته مِن أوّل يوم جاء فيه إلى الدنيا لم تخفِ اسمه إنّه ولدي الصغير سماره ساعة دلّعته به،وهو يقول لها أنا سمير ..سمير فترد عليه :انت سمير ،سماره سمرمر كلّها لك يا حبيبي الصغير .اخذت تهذي بين الاشجار بصوت عالٍ : اسمعي أنّه ولدي سمير الذي اطفا الشمعة العاشرة مِن عمره!
………………….
_انا كنت احبّه كلّ لحظة من حياتي لم اتصوّر فضاعة حبّي له.
…….……………__
_تقولين أين هو ؟كان ذلك الصباح الذي أفاق فيه من ليل إحتضنته عندي كنت انظر إليه بإشفاق حين يقول أين أبي ؟كنت لا أستطيع أن اخفي حقدي الدفين حين يردد أبي …أبي.
………………….._
تسالين أين ابوه؟
_لا تسالين عنه لقد نسيته مِن مفكٌرة الأيام التي ربطتني به..أصبح.من الذكريات المتيبّسة من قاموس حياتي يوم إرتضت نفسه أن يهجرني ليعاشر أخرى حمقاء ،لن اغفر له ما حملت يداه من ورقة الطلاق ..لن اغفر له.………………………
_اتذكّر ذلك الصباح حين اكثر ابني من الكلام ..أُريد أبي ..اريد أبي كنت اُقبّله على وجنتيه احتضنه دف الأمومة ،كان الحنان يتصاعد منّي لدرجة أنني لم أستطع السيطرة على نفسي!
………………………..
_فعلت ما يرضيه كنت لفرط حبّي له اُطبق على رقبته اتحسسها طريّة تتورّد بعدها وجنتاه فجاة،تحسست حرارة رقبته بكلتا يدي كنت اُقبلّه ،والدموع تنزل على خدّي!
_ماما…لماذا تبكين أنا احُبّك؟
_وان احبّك ياسمير أحبك ،اخذت تطبق على رقبته بقوّة بعد أن سددت فمه كان يتلوّى بين يدي ماما احبكِ……احبكِ ولكن لماذا تؤذيني؟ وأنا اضغط عليه ثانية حقداً على أبيه. ومن شاركني كلّ لحظاتي هو الشيطان واوصي ابني بأن لا يرى اباه. كانت الجثّة امامي بعينين صغيرتين ،ظهر فمه مفتوحاً باسنان صغيرة لامعة ،لمست يديه الباردتين انظر لسرواله الأزرق كان ملائماً لهدوئه ،لمست شعره من طفولة غضّة .اختلط حبّه بحبّي،فكانت النهاية الحُبّ الميّت،وكانت كلمات الحُبّ صادقة على شفتيهِ ولم أكن راغبة لتحتضنه امراة اخرى لقد قطعت طريق الحياة عنه حتى لا يصيح أبي..أبي!
صاحت السّجانة بصوت ثقيل .
إلى العنبر ايٌتها النساء القاتلات الفظيعات .كانت تمشي بخطوات ثقيلة من ساعات فضح النهار ما كانت تُخفيه تنظر إلى القضبان ثانيةبحياة جديدة بعد أن نزع النهار جلدها المرقّط ويديها القاتلتين .تعلن امامهنٌ:سوف لن يدخل سمير العنبر بعد اليوم .
غابت الشمس عن الممرات ،وغابت هي عن القضبان منزوية بغفوة عميقةبعد أن نقضت عن صغيرها كلّ شائعة تبحث عن القاتل .تدخل الآن في غفوة لا تهذي بعدها بايّ كلمة إلاّ بعد أن تنطق بها في دار العدالة لتطوي صفحات الدهاء الممزوج بالحب من قلب امرأة لتقول ..ومِنِ الحُبّ ما قتل.!