في بعض ايام البؤس وعاصفة الجوع التي اجتاحت هذا الوطن حين انحدرت كل الخطوط البيانية على قائمة الحياة الحرة الكريمة ما كان بوسع المرء ان يجد قوت يومه حتى يكدح طول النهار وشطرا من الليل في اعمال لا ترقى الى مستوى ارغفة الخبز واطباق اللبن .
كنا نحتفل في يوم الراتب بشراء قطعة جبن او بيض نزين به آنيتنا الجوفاء طول شهور العام الا من أرغفة الخبز السمراء وأقداح الشاي المغشوش بنشارة الخشب ، كان الخبز الاسمر يحوي فيما يحوي بقايا نوى التمر الغير مطحونة واعواد السنابل فيما يعرف بالتبن وبعض من اتربة الحقل والمطحنة والمخزن ،
حين يبلى الثوب نقلبه أما النعال فله قطع غيار يمكن استبدالها تباع على كل الارصفة.
الارصفة وما ادراك ما الارصفة مصدر قوت الفقراء المحرومين يفترشونها ببضاعتهم وكنت حين اعود من عملي الوظيفي اجد مكاني محفوظا بينهم ، محمد كان يبيع الآنية الفاخرة المصنوعة في أرقى مصانع الدنيا ، يجمعها من سوق الجمعة ، تلك الانية التي باعها اصحابها بعدما اشتد بهم العوز والحاجة.
هادي كان يبيع الكتب حيث تنتقل المكتبات من الادراج والرفوف ومن الجامعات والمدارس الى الارصفة والشوارع ، من ايدي العباقرة والادباء والمثقفين الى بضاعة كاسدة تشترى وتباع لعنوان براق او غلاف جميل ، روّاد هذه المكتبات النائمة على الارصفة صنفان ، من يشتري ولا يقرا ومن ينظر بحسرة ولا يشتري ، آلاف المجلدات القيمة المدللـه نزلت الى الشارع لتتحول الى رغيف او علاج او محاولة للهروب من هذا الوطن الذي شح على مواطنيه واطعم الغرباء والدخلاء ولا زال يمارس هذه الهواية .
مهدي كان يبيع الدبس ، عسل التمر المصنوع في المعامل وينادي (دمعه) والدمعة تعني ان الدبس قد أُستُخرِج تلقائيا إثر حر الصيف وشمسنا اللاهبة وهو اجود انواع الدبس ، مهدي كان يصيح بصوت عال لا يبقى في السوق احد إلا ويسمعه
يضحك اسعد في مكتبته التي تقع في اخر سوق الخضارة حين يسمع نداء مهدي .
عند المساء يحمل مهدي الميزان والاوزان ليودعها في مكتبة اسعد حتى الصباح .
لم يجد رجب بدا من الوقوف وسط هذا الحشد من طلابه كي يبيع( اللبلبي ) فالراتب الذي يتقاضاه لا يكفي لشراء كيلوين من دقيق الحنطة الجيد ، هو الان زميل معظم الطلاب في المهنة اذ ان الكثير منهم اصبح يعمل في بيع الأكياس البلاستيكية والتي يطلق عليها اسم (علاقة) بتشديد اللام وجمعها علاليق واخرون يبيعون الماء او يوصلون البضائع من السوق الى موقف السيارات وحين يعودون الى المدرسة التي تكتظ بالمئات منهم ويصل تعدادهم في قاعة الدرس الى السبعين او اكثر يتحدثون عن هموم المهنة ، لا احلام ، لا طموحات ولا رغبة في وظائف راقية ، بامكانهم الان بيع( اللبلبي) لا داعي للانتظار طويلا على مقاعد الدراسة كما فعل الاستاذ رجب ، سألت ابني ذات مرة عن طموحه حين يكبر فقال الدراسة مضيعة للوقت ، بدأ التعليم ينحدر سريعا حين فقد المعلم هيبته ومكانته الاجتماعية فلا قيمة لاي مؤسسة او دين او بلد الا من خلال هيبة وكرامة من يمثله فالبشر يمثلون كل هذه العناوين المقدسة وغير المقدسه .
لم يكن رجب الوحيد الذي يعمل بعد انتهاء الدوام بل معظم المعلمين فهو يشتري قنينة غاز الطبخ من زميله الاستاذ فالح وعندما يعطل المشعل يصلحه زميلهم الاستاذ محمود ، اما الاستاذ حسن فقد استلم حانوت المدرسة ، لقد ابتسم الحظ لهؤلاء الاساتذة اما الذين تمسكوا بقوانين التعليم الكلاسيكية او الذين مر بهم العمر وعلا رؤوسهم الشيب فكانوا يبيعون أثاث بيوتهم في (سوق الجمعة )
انه السوق الذي تحتضنه البصرة القديمة وزبائنه من مختلف محافظات العراق ، البضائع الجيدة والتي درج اهل البصرة على اقتنائها تشحن الى عوائل اصبحت مترفة في مساحات اخرى من هذا الوطن ، حين تمر في ذلك السوق تشاهد سلعا يعود تاريخها الى الخمسينات والستينات من القرن العشرين واخرى حديثة ، هنا تتم عملية مشابهة لعملية التمثيل الضوئي في النبات فالبعض يأخذ الاوكسجين و يترك ثاني اوكسيد الكاربون ، الاشجار البرية القاسية بدأت بالنمو وهاهي تستحوذ على كل مخزونات التربة من الماء والعناصر الغذائية .
اصبح هذا النمو سريعا فالازهار لا تضايق احدا ، معظم المنازل اصبحت خاوية الا من اواني الطبخ . حدثني تاجر الاثاث الذي اشترى طباختنا الغازية عن بعض المنازل في مناطق البصرة الراقية قال انها تشبه الجوامع ، لا اعلم ان كان يواسيني بعد ان لاحظ موجة الحزن التي انتابتني .