تمهيد:
إن اختيار البحث في جذور القصّة القصيرة تمّ بسبب الإشكالية المتصلة بأصول هذا الفنّ، وهو موضوع مازال بحاجة إلى عناية النقاد رغم خوض الباحثين فيه وإشاراتهم إليه في كل فاتحة بحث حول فن القصّة أو حول الهوية في النقد والأدب فهو مازال بحاجة إلى عناية النقّاد ويمثّل عنصرا من عناصر الجدل القائم بين فريقين من الدارسين العرب، الأوّل طرح وجهة نظره حول مولد وتطوّر القصّة القصيرة، مستظلاّ بظلال الآداب الغربية والثاني قدّمها، متسلّقا شجرة وارفة من تراث الأدب العربي. وهذه الورقات لا تهدف إلى حسم الخلاف وحلّ عقدة التوتّر والنزاع بينهما فهي ستظلّ قائمة مادام الإطلاع الكامل على تراث آداب الحضارات الإنسانية ضعيفا منقوصا وتشوّفنا إلى المنتجات الفكرية للغرب لا وازع ولا سلطان لعقلنا العربي عليه، وإنّما غايتها استثارة النقاش وإثرائه حول هذه القضية. ولِمَ لا الاهتداء إلى المعيار المطلق للقصّة القصيرة ووضع اليد الطولى عليه.
وقد حاولت الدراسة أن تصل العرض بالتحليل، كما لم يغب الجانب التطبيقي الذي خصصناه بحيّز هامّ،وانتخبنا لذلك نصّا موغلا في عمق تاريخ الأدب العربي القديم، وتحديدا من الفترة العباسية للاعتقاد في تمثيليته لما نسميه عندنا “قصّة قصيرة”،أصلية كانت أو متطوّرة أو عامّة، وسعينا إلى أن نقارن بينه وبين بعض ما كُتب من نصوص حديثة في هذا الفنّ اثباتا لنتيجة البحث. هذا، واعتمدنا في الاختيار والمقارنة على المحدّدات التي وضعها الغربيون أنفسهم كما تتبدّى في القرن التاسع عشر.
ومن المفيد في هذا المدخل التمهيدي، أن نشير إلى عدم الاعتداد بمنهج نقدي معلوم لدى دارسي النقد الأدبي وأساتذته، وذلك لأسباب كثيرة لعلّ أهمّها عدم جدوى التعامل مع أيّ من هذه المناهج التي يشار إليها غالبا في المقدّمات التمهيدية للدراسات والبحوث الأكاديمية والتي كثيرا ما يكون الباعث إليها هو التدليل على الالتزام بتقاليد ومعايير البحث العلمي والخضوع التام لقيوده، وفي باطن العملية النقدية كثير من الإدّعاء والمغالاة في التجمّل والتمتّرس بمصطلح المنهجية العلمية للتغاضي عن سقطات الممارسة النقدية، أو في أحسن الأحوال وأفضلها مسايرة التوجيه الأكاديمي الداعي إلى ممارسة الناقد لـ”قدرته العقلية” بعيدا عن التأثيرات الشخصية الصرفة.
إنّ منهج العمل الموظّف يقوم على مقاربة بسيطة جمعنا فيها بين برهانيْن رياضييْن: “البرهان بالتراجع”، وهو طريقة يعرّفها الدكتور الأخضر شريّط على أنّها نوع من الاستدلال الرياضي ننتقل فيها من الخاصّ إلى العامّ أو من العامّ إلى الأعمّ، و”البرهان بالخلف”، وهو برهان قائم على الانطلاق من نقيض وإثبات خطإ إحدى القضايا لإثبات صحّة الأخرى ، وأساس هذا المنهج الانطلاق من دراسات نقدية عربية حديثة مفترضين صحّة نتائجها ثمّ بالعودة إلى الخلف عبر الإحالات والشواهد المبثوثة فيها إلى النقطة التي ذهب إلى اعتبارها الجناح المستغرب فترة خلق فن القصّة القصيرة، وهناك، في تلك المرحلة، نتمثّل المناخ الأدبي السائد ونقوم باستنطاق الأصول البعيدة للتجربة الإبداعية الغربية ثمّ نقوم بفحص النماذج القصصية الأولى المنتخبة بلغتها الأم متأمّلين سيرورتها الأفقية والعموديّة بحثا عمّا يدعم صحّة الافتراض أو يفنّده وقد خلصنا في النهاية، إلى ما نعتقد أنّها حقائق تكشّفت لنا وأودعنا النتائج في خاتمة البحث.
استند هذا البحث على قائمة طويلة من المراجع ألحقتها بقائمة المراجع المثبتة، وسأكتفي هنا بذكر بعض المصادر الأجنبية التي عدت إليها وكانت أساسَ هذه الدراسة وجوهرَ موضوعها. عناوين قد تقدّم المثال الجيّد للحركة الإبداعية الغربية في منتصف القرن التاسع عشر، ومنها دراسة “براندر ماثيوز” (Brander Matthews) “فلسفة القصّة القصيرة” (The Philosophy of the Short-story) ، والدراسة واحدة من المؤثرات الأجنبية في الحركة النقدية العربية، وهو ما أعلنه الدكتور عبد العزيز السبيل في دراسته “مفهوم القصّة القصيرة بين آراء النقّاد ورؤى المبدعين”. واستشهد به الدكتور نبيل راغب في كتابه “دليل الناقد الأدبي” ولا أدري إن كان قد ترجم هذا الكتيّب إلى العربية أم لا؟ وهل أنّ الإحالات هي شذرات من هذه الترجمة أم هي شواهد ومقتطفات تناقلتها الشفاه من سفر الكتاب إلى لغة أجنبية أخرى كالفرنسية مثلا، إذ إنّ أيّا من الباحثين المشار إليهما لم يقم بذكر النسخة المعتمدة لديه أو التنصيص الصريح هلى رقم صفحة من صفحات هذا المرجع.
العناوين التي ذكرها “براندر ماثيوز” في كتابه النقدي كانت مفيدة إلى حدّ بعيد، على الرغم من أنّ غالبيتها كانت تعالج مسألة أخرى غير فن القصّة القصيرة. فمقال مثل “الفنّ القصصي” (The Art of Fiction) لهنري جيمس (Henry James) يناقش موضوع المحاضرة المثيرة للاهتمام لوالتر بيسانت (Walter Besant) التي ألقاها يوم 25 أفريل 1884م بالمعهد الملكي وتحمل نفس الاسم، وقد نشر هنري مقاله النقدي كفصل في كتابه المعنون بـ”صور جزئية” (Partial Portraits) (الطبعة الثانية 1894، صدر الكتاب في طبعته الأولى سنة 1888). واثر ذلك قامت ثلاث دور نشر مشتركة بضمّ المقالين الأدبيين معا في كتاب واحد دون تحديد سنة النشر مثّل النسخة التي اشتغلت عليها لتكوين فكرة عن الرحم المزعوم الذي نزل منه الجنس الأدبي الجديد المسمّى بالقصّة القصيرة.
عنوان آخر أعتقد أنّه ذو نفع كبير لهذا البحث وهو كتاب روبرت لويس ستيفنسون (Robert Louis Stevenson) “ذكريات وصور” (Memories and Portraits) وما يعنينا منه أكثر هو المحتوى الذي جاء بالفصلين الخامس عشر والسادس عشر بخصوص الرومانسية. وبالإضافة إلى كتاب وليام دين هاولز (W. D. Howells) “النقد والفن القصصي” (Criticism and Fiction) (طبعة 1891) فقد استفدت أيضا من بعض العناوين الفرنسية.
قسّمت هذا البحث إلى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة. حوت المقدّمة على هذا التمهيد، مع مصطلحات البحث ونبذة عن مفهوم القصّة القصيرة المعاصرة، وبسطت في الفصل الأوّل آراء طبقة النقّاد والمبدعين الذين ذهبت بهم أفكارهم وثقافتهم إلى الاعتقاد بأنّ القصّة القصيرة هي من ابتكارات المبدعيين الغربيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أمّا الفصل الثاني فقد تناولت فيه الآراء المخالفة لهذا الاعتقاد، النافية للريادة الغربية لهذا الفن، وقمت في الفصل الثالث بدرس الحركة القصصية الغربية قبل قرن ونصف من الزمان.
1.1. مصطلحات البحث:
في البداية، أعتقد أنّه من المفيد إجلاء المقاصد من بعض المصطلحات السردية التي وردت في هذه الدراسة وذلك لعدم استقرار اللّفظة على مدلول واحد.
• القصّة: في مفهومها اللّغوي تعني تتبع أثر أمر ما والإخبار به كتابيا أو شفويا. أمّا اصطلاحا فهي الحكاية المستمدّة أحداثها من الخيال أو الواقع أو تمزج بينهما. هذا هو المدلول المستعمل في الدراسة ولم أستخدمها للدلالة على مشتملات الفن القصصي بصفة عامة رواية وقصة قصيرة وحكاية ونادرة وغيرها كما أنّني لم أوظّفها للدلالة على ذاك النوع من الفنّ القصصي الذي يقف، بمعيار الكم اللفظي، بين الرواية والقصّة القصيرة.
• الأقصوصة: هذا المصطلح وإن كان يستعمل عند بعض النقاد للدلالة على نوع أدبي غير القصّة القصيرة فهو عندي رديف للقصّة القصيرة.
• الأسلوب: هو الطريقة التي تروى بها القصّة.
• لحظة التنوير: هي اللحظة التي يكشف فيها الكاتب للقارئ الهدف من كتابته للقصّة. وفي أغلب القصص تأتي هذه اللحظة كخاتمة لها.
• الأنماط الأدبية: الأنواع الأدبية
• الحدث: هو الصراع الذي يدور بين الشخوص وهو جوهر العمل القصصي.
• الشخصية: هو العنصر المتحرّك في سياق الأحداث إنسانا أو حيوانا أو جمادا.
• الشخصية المسطّحة: هي الشخصية التي لا تتطوّر بتطوّر الأحداث.
• الشخصية النامية: هي الشخصية التي تتفاعل وتتطوّر مع الأحداث.
• البيئة: هو الإطار المكاني والزماني للأحداث.
• التوتر: اصطدام قوى متضادة. وهو من العناصر البنائية للقصة القصيرة.
• التراث: مصطلح جامع لما توارثته الأجيال العربية على مرّ القرون ومنها الأدب والفكر والأساطير والخرافة شفاهيا كان أو مدوّنا .
• الحبكة: طريقة ترتيب الأحداث المروية.
• السرد: هو الطريقة التي تروى بها الحكاية نثرا.
2.1. ماهية القصّة القصيرة:
لإنجاز هذه الورقات استعنت بالعديد من الدراسات الأدبية بحثا عن تعريف للقصّة القصيرة فوجدت المئات منه متناثرا هنا وهناك كزجاج مرآة محطّمة. فكتابات النقّاد تعجّ بتعريفات متناقضة، وغير مقنعة، وبعضها مبهم لا يعبّر عن معنى حقيقي. فمنهم من يعرّف القصّة القصيرة استنادا على مقياس الطول كقولهم هو”سرد قصصي قصير نسبيا” أو بتعبير آخر يؤدّي إلى نفس المعنى أو هو قريب منه كقولهم “بأنها نوع من النثر الأدبي الذي يقرأ في جلسة واحدة” أو مقدار كمّي من الكتابة مثل قول أحدهم “رواية تقلّ كلماتها”، أو “تتراوح كلماتها بين ألفين وخمسمائة كلمة وعشرة آلاف كلمة”. ويؤكّد د. عبد العزيز السبيل على أن مقياس الطول في القصّة القصيرة لا وجود له إلاّ بمقدار ما تحدّده المادة نفسها ، وهذا الرأي لامسه الطاهر أحمد مكّي بصيغة أخرى متبدّية في قوله إن طول الرواية هو الذي يحدّد قالبها كما أن قالب القصّة القصيرة يحدّد طولها. غير أنّ آخرين يعتقدون أنّها رواية صغيرة يعود الاختلاف فيها إلى عدد الصفحات لا غير. بينما يؤكّد “براندر ماثيوز” (Brander Matthews)، أستاذ الأدب الدرامي في جامعة كولمبيا ما بين 1892- 1900، في كتابه “The Philosophy of the Short-story” (فلسفة القصّة القصيرة) أن وحدة الانطباع التي سمّاها إدغار آلان بو التأثير الشامل هي الفارق الأساسي بين القصّة القصيرة والرواية .
ورغم ربط مفهوم القصّة القصيرة بمفهوم الرواية ، فإنّ عبّاس محمود العقّاد تجنّب الإشارة إلى القصر والطول وعرّفها على أنّها شكل من أشكال الرواية تتمايز عنها في الموضوع وطريقة التناول فهي تحوي العناصر الأساسية للرواية لكنها تأتي بشكل مضغوط. ويتمّ ذلك بالإيحاء والتكثيف.
وجاء في الموسوعة البريطانية The Encyclopedia Britannica، الجزء 20 ص 589، أن القصّة القصيرة تمثل حدثا واحدا يقع في وقت واحد وتتناول شخصية مفردة أو حادثة مفردة أو عاطفة أو مجموعة من العواطف التي أثارها موقف مفرد.
ومنهم من يعرّفها انطلاقا من مبدأ وحدة الانطباع (وحدة الأثر): وحدة الموضوع ووحدة الغرض ووحدة الحادثة. الأثرالذيتتركهالقراءةفيذهنالقارئ، كقولهم إنها تعالجلحظةوموقفاًتاركةأثراًواحداًوانطباعاًمحدداًفينفسالقارئ.
وعرّفها محمد المومني على أنها “مجموعة من الأحداث يسردها المؤلف في قالب تعبيري يعتمد فيه على الشخوص في عملية الحوار ووصف الأحداث عن طريق التشويق حتى تصل القصة إلى ذروة التأزم، وتكون مختلفة من حيث التأثير والتأثر في المتلقّي” .
أمّا مصطفى الكيلاني فقد نظر إلى القصّة القصيرة بعيون بورخس فرأى القصّة القصيرة كأنّها قصيد وليس بالقصيد، كأنّها رواية وليست بالرواية. هي في جملة قصيرة ذكرها “لحظة بمنظور خورخي” .
وعند القضماني هي “ابتكار حكاية” وهي “شكل أساسي وأوّليّ له صلة وثيقة بالسرد البدائي” ، وهي الظاهرة التي تجمع الأسطورة والدين.
ويقول عزالدين اسماعيل في كتابه الأدب وفنونه “لعلنا لا نجاوز الحقيقة عندما نزعم أن عدم وجود تعريف محدّد للقصّة القصيرة هو أهمّ الأسباب التي أوجدت الاختلاط بين القصّة القصيرة وغيرها من الأنماط الأدبية” .
ولا شكّ أن البحث عن التجاوز لما كُتب ويُكتب هو من طبيعة الذات الكاتبة وهو غاية مشروعة لكل كاتب يسعى إلى التفرّد في مجال إبداعه.كما أنّه من المقبول أن يختار الدارس أفضل النماذج ويصوغ من سحرها تعريفه الخاص على نحو جيّد. غير أن الباحث عن نقطة بداية القصّة القصيرة ليس معنيا بهذه النماذج إن لم تتنزّل في بداية السلّم الزمني لمراحل تطوّر النوع الأدبي مهما كانت درجة انغماسها في تيّار الحداثة والتجديد، لذا قد يكون من المفيد والأجدى القفز فوق تعريفات كتّاب ونقّاد الأحقاب الزمنية التي تلت الحقبة التي حصرت فيها غالبية النقّاد الغربيين مولد القصّة القصيرة والوقوف عند تعريفات الروّاد وكتابات النقّاد المبكرة. هذا التفريق بين التعريفات القديمة والجديدة قد يسهّل مهّمة البحث ويخرج البساطة من التعقيد. لن يكون الإيحاء حينئذ قائما ولا مسألة الأغراض،سيكونبإمكاننا رؤية تعريف بسيط لا التواء فيه ولا تعقيد وهو تعريف ما قيل أنّهم رواد فن القصة القصيرة. موضوع سنعود لتفصيله في الجزء التطبيقي من الدراسة.
2- جذور القصّة القصيرة:
اختلف الدارسون في تحديد زمن ومكان مولد القصّة القصيرة وانقسموا إلى فريقين: فريق يعتقد أن نقطة بدايتها في السلم الزمني تقع ما بين القرن الرابع عشر ميلادي وأواسط القرن الثامن عشر وهي من الفنون الغربية، وقسم يعود بتاريخها إلى العصور القديمة ولا ينسب أصلها إلى بلاد الغرب.
ذكر رياض عصمت في دراسته حول القصّة السورية الحديثة “والغريب في الأمر أنّه بينما تستمدّ القصّة القصيرة العربية أصولها وملامحها من القصّة الأجنبيّة فإنّ أوّل ميلاد للأدب القصصي في العالم كان من أرض العرب”
ويؤكّد يوسف الشاروني في بحثه المعنون بـ”القصّة القصيرة نظريا وتطبيقيا” أنّ فنّ القصّة ليس نتاجا غربيا وأنّ القصّة رافقت مسيرة الإنسان منذ طفولته الأولى. أورده عبد الله أبو هيف في بحثه المسمّى النقد الأدبي العربي الجديد في القصّة والرواية والسرد.
ويقوم فاروق خورشيد بسحب رأي الشاروني على بعض الأشكال النثرية إذ يبيّن في كتابه “في الأصول الأولى للرواية العربية” أنّ بعض النقّاد العرب قد سقطوا في”خطأ اعتبار الأشكال الدرامية المختلفة للأدب أشكالا وافدة مع معالم الحضارة العربية والفكر الغربي الذي بدأت أمّتنا تتصل وتتأثّر به بشكل أو بآخر، واندرج تحت الخطأ أدب المسرح، ومعه أدب الرواية وأدب القصّة القصيرة، بل وأدب المقال أيضا.”
وهذا عبد الله ركيبي يؤكّد أنّ فنّ القصّة القصيرة هو وليد الغرب ويضيف خلال حديثه عن ميلاد القصّة القصيرة الجزائرية :”وهذا التاريخ طبعا ]أي أوائل الخمسينات[ يعدّ متأخرا جدّا بالنسبة لباقي العالم العربي، بل حتّى العالم العربي عرف القصّة القصيرة متأخّرا بالنسبة للغرب حيث نشأت وتطوّرت القصّة القصيرة وتحدّدت سماتها كفن متميّز في القرن التاسع عشر” .
أمّا مخلوف عامر فهو يعتقد أنّ “القصّة القصيرة فنّا حديثا في الأدب العالمي” . ويزعم أن الكاتب الأمريكي “ادجار آلان بو”، في القرن التاسع عشر، اقتنص اللحظة المناسبة ليقوم بعصر ما تراكم من الثقافات الإنسانية وينشأ النموذج الأوّل لفن القصّة القصيرة بمواصفات كل ما سبق ليختلف عن كل ما سبق !
في منطق أهل العلم، مبتكر أداة تحويل الصلب إلى سائل يستحقّ الثناء ومعه التمكين من براءة الاختراع. أمّا في حالتنا هذه فيتناقض قول عامر مخلوف مع المنطق “المعقول” الداعي لأن تكون فترة النضج واكتمال الشكل الفنّي هي بداية التأريخ الحقيقي . أي ولادة هذا الفنّ الجديد الموسوم بالتحوّل والتغيّر المستمر في الشكل والمضمون!
والمعروف أن “آلان بو”، هذا العقل البشري الفذّ الذي ارتبطت حياته بالمولود الذي خرج من بطن المعارف الأدبية بالغا، عاش بين عامي 1809 و1849 ، في حين كان ظهور أول إنتاج فنّي سينيمائي ناطق هو سنة 1927 بعد فترة طويلة من التجارب المخبرية قاربت زُهاءَ القرن من الزمان. وهذا يعني أن تقنيتيْ التقطيع والاسترجاع المتصلة بلغة السينما والتي اكتسبتها القصة القصيرة فيما بعد هي من الفنيات غير المألوفة آنذاكفي زمن “إدجار”. وحتّى تقنية تيار الوعي تميّز بها “تشيخوف” المتأخر حياتيا عن “بو” وهذا يعني أن القصّة القصيرة التي كتبها الأخير لم تصل بعد إلى النضج الذي يؤهلها إلى تبوأ مكانة الريادة بمقياس اكتمال الشكل الفنّي. لأنه ببساطة لا وجود – ولن توجد – لفترة محددة يطال فيها النضج والكمال الشكل الفنّي للقصّة القصيرة في ظلّ تجدّدها الدائم.
التواريخ التي أسكنها النقّاد العرب بطون أبحاثهم عن روّاد القصّة القصيرة في أقطارهم لم تضف لهذا البحث خطوة زائدة وذلك لوقوعها جميعا خلف البداية الأولى التي أجمعوا على أنّها النقطة البارزة لميلاد القصّة الغربية، لكن أهميتها لديّ تكمن في اثباتها لعمق الاختلاف حول النص المرجع بكل قطر. ففي بحثه البيبليوغرافي أورد الأستاذ ملفوف صالح الدين ثلاث تواريخ لبداية فن القصّة القصيرة بالجزائر تقع في المجال المغلق ] 1908، 1926[ وهي آراء كل من د. عمر بن قينة وعبد الملك مرتاض وعايدة أديب بامية .
أمّا عبد الله أبو هيف فقد اعتبر الجهد المبذول في البحث عن أيّ القصص العربية الأولى في العصر الحديث كانت فنّية جهدا “أشبه بالضائع” وأرجع سبب ذلك إلى “فهم القصّة أنّها غربية، فإمّا أن تكون تقليدا للقصّة الغربية حتّى تغدو، بالمصطلح العربي الذي ساد زمنا طويلا، فنّية أو لا تكون”، ويضيف قائلا: “جرى هذا في مصر، وتحدّثوا عن «زينب» (1913) لمحمد حسين هيكل كأوّل قصّة فنّية، ثمّ فعل نقّاد هذا القطر أو ذاك مع قصص وقصّاصين آخرين من أقطارهم كتّابا لأوّل قصّة فنّية أيضا”
ما يُعاب على موقف المتبنّين لوجهة نظر الغربيين هو ما يلي:
تأثّرهم بالمستشرقيين الغربيين وتطبيقهم المخل لنظريات “متداعية إلى مزبلة أوهام الفكر” على حدّ تعبير صالحة رحوتي. فهذا محمد غنيمي هلال، أحد منكري وجود القصّة في الأدب العربي القديم، يقول في كتابه النقد الأدبي الحديث : “ويمكن أن نفيد من نظرية تين في النقد العربي فيما يخصّ تأثير الجنس، ذلك أن الجنس السامي – والعربي منه بخاصة – لم يهتمّ بالأدب الموضوعي، أدب القصص ثمّ أدب المسرحيات والملاحم.”
غفلتهم عمّا جاء في الكتب السماوية من قصص تبدّد مزاعمهم وتثبت للأوائل سبقهم في هذا الجنس الأدبي.
تعسّفهم على قصص القدامى بتطبيق مقاييس القصّة الحديثة وقواعدها الفنية عليها. ففي كتابه دراسات في القصّة والمسرح، يعتبر محمود تيمور أن الموازنة بين القصّة العربيّة القديمة والقصّة الحديثة خطأ منهجيا فادحا بسبب تأخّر قواعد الأخيرة ومقاييسها في الوجود .
الاعتقاد بأنّ القصّة بمفهومها الحكائي العربي نوع حكائي مغلق أمّا القصّة الحديثة فهي نوع مفتوح.
ضعف اطلاعهم على كامل المدوّنة النثرية الموروثة، بل حتّى القليل منها بسبب القطيعة التي صنعها ورثة المُلك العاضّ بُعَيْد الإستقلال مع ميراثهم الأدبي الحسن والتماهي مع فكر الغرب إلى حدّ الذوبان فيه بصورة جعلتهم عاجزين تماما عن تبيان ما هو لهم فيما تحمله إليهم الرياح الهابّة من الغرب.
التجاهل التام للتراث الأدبي وتغييبه باعتبار البحث فيه مرضا نفسيا أو حسب تشخيض جورج طرابيشي “عصابا” لا دواء له.
ربطهم المخلّ ميلاد القصّة القصيرة بنشأة الصحافة التي ظهرت اثر بروز المطابع في حين أن القصّة القصيرة من وجهة نظر الآخر تدين للصحافة بانتشارها وتوسّع انتاجها لا غير ولا علاقة لها بابتداع وظهور هذا الفنّ الأدبي.
ما يُعاب على موقف المعارضين هو التالي:
اعتمادهم على عنصر الحكاية وحده.
استنادهم على مسألة الحجم وليس على الشكل الفنّي المكتمل.
خلطهم بين ظاهرة القصّ والفنّ القصصي فرجعوا إلى الأصول القديمة كالنوادر والملاحم والخرافات والمقامات والمنامات والحكايات الشعبية والأساطير وأحاديث السمر والأيّام والكتب السماوية لتقصّي مولد القصّة القصيرة فيها. يقول: “إذ البحث في هذه الأصول، غالبا ما يتجه نحو التركيز على ظاهرة القصّ التي هي ظاهرة بارزة في هذا الفنّ” .
الأصوات التي غلبت عليها نبرات عدم اليقين في كون القصّة القصيرة هي وليدة أواسط القرن الثامن عشر توزّعت على عدّة أجنحة:
• جناح تائه في عالم الازدواجية واقف بين منزلتين لا يروم إغضاب هذا ولا ذاك وإن كان إلى الفريق الثاني أميل. نجده يضيف إلى عبارة القصّة القصيرة صفة تلازمها كظلّها مثل كلمة الحديثة لاحتواء الغموض.
• ومنهم محمد عبد اللاه عبده دبور الذي لاحظ أن كتب الأدب في العصور القديمة وكذلك كتب التاريخ لا تخلو من القصص التي تتوافر فيها عناصر القصّة الفنية من أحداث وشخصيات وحوار وسرد وعقدة وحل وصراع وإن كانت من جهة الكم قليلة. وضرب مثلا على ذلك قصّة سابور وابنة ساطرون التي قصّها ابن هشام في كتابه السيرة النبوية والقصّة الشعرية “وطاوي ثلاث” للحطيئة. . لكنه من جهة أخرى يقول متحسرا “وظلت القصّة تعتمد على عنصر الحكاية في عصر صدر الإسلام اعتمادا كبيرا، وكانت عناصر الفن القصصي خافتة إلى حد كبير، وعلى الرغم من أن القرآن الكريم صنع نهضة عظيمة في باب القصص لم يستثمرها العرب في إنشاء قصص أدبي راق بل اتجهوا في تأثيرهم بالقصص القرآني إلى الناحية الموضوعية البحتة.” .
ولو ثبّتنا هذه التواريخ على السلّم الزمني لتحصّلنا على المحور التالي:
وما من شكّ أنّ النثر في العصور القديمة،وفي جميع الحضارات، قد احتلّ مكانة واطئة في مرافع الأدب مقارنة بفن الشعر الذي كان طاغيا وسائدا في نفوس الناس طيلة قرون طويلة، إلاّ أن مردّ ذلك ليس إلى إهمال الدارس له كما ذهب في ظنّ بعض النقّاد والباحثين . وإنّما سببه في اعتقادي هو ارتفاع مستوى الأمية وانتشار الجهل بالقراءة لدى طبقة العوام من الناس. فالجمهور المتلقّي والمتفاعل مع الأجناس الأدبية والمسؤول بدرجة أولى على نقل النصّ الأدبي وحفظه وتمريره، لا يعتمد في تلك الأحقاب إلاّ على مخازن الصدور ووعاء الذاكرة. وهي ملكة قد تكون ناجحة في ما يتعلق بالشعر لسهولة التصاقه وتجذّره في الذهن بينما النثر اشدّ تفلتا وإقبال العوام على الشعر لسهولة حفظه فكثرت حفظة الشعر فسلمت من التحريف والتبديل وأسهم في انتشاره وحفظه من الضياع وقلّت حفظة النثر .. ولعلّي لن أكون مجانبا للصواب إذا قلت إنّ اهتمام الناس بالنثر المتمثل في الحكايات أكثر من الشعر غير أن ما وصلنا من الشعر جاء على رواية واحدة سالما من كل التحوير أما ما وصلنا من النثر شفويا فهو على روايات عدّة ولقد كان هناك انتاج أدبي في مخازن الدفاتر لا يعنى بها إلاّ ذوي الاختصاص.
لا شكّ أنّ التفاهم حول مجموعة أساسية من العناصر المكوّنة للقصّة القصيرة تجعل الناقد الساعي لمواكبة عملية إنتاج نصوص هذا الجنس الأدبي لا يظلّ طريقه بعيدا عن الموضوعية فيصدر أحكاما عشوائية ويستخلص نتائج غير واضحة إن لم أقل شطحات عابثة.
والتحديد الزمني لميلاد القصّة القصيرة باستطاعته أن يكون موضوعَ دراسة لتحقيق هذا الغرض. كما أنّ البحث في الطور الأول من تاريخ هذا الفن سيكون مسلكا للدارس يقوده إلى جملة من الأهداف مثل:
• تقصّي إشكالية الانتماء الثقافي والتباين بين الشرق والغرب.
• الكشف عن جوانب قصور الأدب الغربي للثقافات الأخرى.
• تحديد درجة الانحراف المعياري عن المحدّدات الأوليّة لشكل القصة القصيرة وتقنياتها.
بجملة واحدة ، البحث عن الساعات الأولى من عمر القصّة القصيرة هو البحث عن الخصائص الفنية الأساسية لها للخروج من متاهة التعريفات المتضاربة.
ومن أجل هذه الغاية أستسمح أهلَ الأدب في أن أستدعي فكرة أهل العلم في حل مشكلة تفاعل وحدة القياس مع عنصر الزمن، هذا العامل المشترك المؤثر أيضا في الأحكام وميزان القيم ومناخ الذائقة لدى النقّاد والقرّاء على حدّ سواء.
في علم القياس (Metrology)، تمّ إحداث وحدة معيارية عُدّت أساسا ومرجعا يُرجع إليها لضبط المقدار المعلوم المتفق عليه لوحدة القياس التي بها تقاس المقادير المجهولة عندما يطرأ على هذه الوحدات تغييرٌ بفعل مرور الزمن أو يُثارُ مشكلٌ جرّاء عملية غش. المرجع الذي وضعه علماء المقاييس والأوزان لتبيّن علاقة وحدة الكتلة بمنظومتها جاء في شكل اسطوانة من البلاتين والإيريديون. أُطلق على هذه الأسطوانة اسم كيلوغرام معياري ووقع حفظها في مقرّ المكتب الدولي للأوزان والمقاييس بـ«سيفر» قرب باريس. وعلى هذا الأساس تمّ صنع المتر المعياري وعرّف بكامل الدقّة. وجه الشبه كبير هنا بين مهمة المنظمة الدولية للأوزان والمقاييس ومهمة الباحثين العاملين في حقل النظرية الأدبية، كلاهما يعمل على وضع تعريفات لمنظومات القياس لديه ويسعى إلى تحسينها وتطويرها وإدخال التعديلات والإضافات الضرورية عليها عند تبدّل مواصفاتها بمرور الزمن وصنع معايير جديدة لمنظومات قياس مستحدثة أو اشتقاق وحدات قياس فرعية عند تبيّن قصور المعايير الموجودة عن تحقيق المنشود.
غير أنّ الخطوة العملاقة التي خطاها علم القياس تُحقّر بجانبها الخطوة الضعيفة لعلم الدراسات الأدبية رغم الوعي المبكر بمشكلات الحركة النقدية ومنها مشكلة الحكم النقدي، ورغم المحاولات المبذولة لوضع أسس مفصلية للتفريق بين الفروع الثلاث: النظرية الأدبية والنقد الأدبي والتاريخ الأدبي، كما فصّل ذلك رينيه ويليك في كتابه مفاهيم أدبية حيث يقول:” فالنظرية الأدبية تدرس مبادئ الأدب وأصنافه ومعاييره، وما إلى ذلك، بينما تنتمي الدراسات التي تركّز اهتمامها على الأعمال الأدبية نفسها إمّا إلى النقد الأدبي وإمّا إلى التاريخ الأدبي” .
وقد تضاربت المواقف حول لعبة المفاضلة بين الكتّاب. وسواء كان اصطفاف النقّاد خلف نظرة نورثروب فراي التي تعتبر النقد الأدبي لا يبنى على الأحكام والتقويمات أو كان وقوفهم إلى جانب رينيه ليليك لدعم موقفه المعارض، فإنّه من المؤكّد أن هذا الاصطفاف هو رأس الشوكة الذي أعاق تقدّم النظرية الأدبية نحو إيجاد المعايير العليا والمطلقة وأبطأ تطوّرها زيادة عن الجدل القائم حول الأفضلية في ثبات المعايير أم في تغيّرها.
وإن كان التطوير الدائم مطلوبا في كتابة النصوص القصصية وأدوات القصّة الفنية فإنّه غيرُ مسموح به في النقد خارج دائرة هدفه الرئيسي وهو المعرفة الفكرية. التطوير الذي يحدث في صلب النقد الأدبي كفرع مستقل عن النظرية الأدبية يجعل الدراسات المتعدّدة للعمل الأدبي الواحد تختلف في ما لا يجب الاختلاف فيه وهو مسألة التصنيف. التجنيس. تتجه جميعا، رغم تنوّعها، إلى الخروج بأحكام متقاربة إن لم نقل متطابقة لا أن تتفرّق في أحكامها إلى حدّ نسبة العمل إلى أجناس أدبية مختلفة.
وما يدعو للاستغراب أنّ بعض النقّاد العرب يتماهى مع المقولة التي تعتبر أن الدراسة الأدبية ليست معنية بإطلاق الأحكام ومع ذلك لا يتردّد في إصدار أحكام نقدية يقينية حينما ما يتعلّق الأمر بالتفريق بين النصوص السردية في التراث العربي بالاعتماد على معايير القدامى أنفسِهم والتي تفضي دائما إلى نتائج متطابقة. وهذا تؤكّده الآراء التي توازن مثلا بين مقامات بديع الزمان الهمذاني ومقامات غيره من المحدثين.
جاء في دراسة عن نشأة القصّة القصيرة وميزاتها في مصر أعدّها جماعة من الأساتذة بالجامعات الإيرانية ونشرت بفصلية دراسات الأدب المعاصر ما يؤكّد أنّ القصّة القصيرة “هي من الفنون المستحدثة التي ظهرت في العصر الحديث ولم يعرف العرب هذا النوع من القصّة في العصور الماضية” .
ومثل هذا القول يتبدّى في دراسة مخلوف عامر، مظاهر التجديد في القصّة القصيرة بالجزائر، حيث يؤكّد الباحث على أنّ نشأة القصّة القصيرة بإجماع الدارسين والنقاد كانتﻓﻲﺍﻟﻘﺭﻥﺍﻟﺘﺎﺴﻊﻋﺸﺭﻋﻠﻰﻴﺩﺍﻷﻤﺭﻴﻜﻲ “ﺍﺩﺠﺎﺭﺃﻻﻥﺒﻭ”
وقد شذّ على هذا الاجماع رياض عصمت الذي يؤكّد بشكل حاسم أنّ نوادر جحا هي البدايات الحقيقية لفن القصّة القصيرة
وأكّد أحمد المديني في عرضه للقصّة القصيرة بالمغرب أنّ سبب تحوّل الكتّاب عن الأشكال النثرية الموروثة كالمقامة والأيام وتوجههم إلى الأشكال النثرية “المستحدثة” هو عدم استجابة القديم للتحوّلات الاجتماعية والثقافية الطارئة. وبتعبيره الجذّاب عدم استجابتها لخصوصيات المرحلة هذا التبرير المرتبط بالحاجة جعلني أشعر كأن الباحثَ أمٌ تسعى لتبرير تصرّفات طفلها المدلّل. الأجناس الأدبية ليست هاتفا أو تلفازا باستطاعة الأسر البدائية جلبها من الخارج لمواكبة التطوّر. الأمر أعقد من ذلك وأكثر تشعّبا يتطلّب توسيع دائرة التشخيص لتشمل عنصر الاحتلال وقابلية الاستعمار. الباحث عن وصفة لأمراضه بعين المغلوب المولع بتقليد غالبه.
يمدّنا الدكتور عبد الله خليفة ركيبي بالغربال الذي يستخدمه بعض النقّاد كوسيلة لفرز وتصفية المنتج الأدبي من النثر العربي القديم وهي الخطوة الأولى التي تسبق انتقالهم إلى تحديد المنتج الأدبي ذي الخطاب القصصي. يعرّفه للقارئ في فقرة من كتابه تطوّر النثر الجزائري الحديث حيث يبيّن فيها الفرق بين الأديب والعالم ذاكرا أنّ اللغة لدى الأديب هي أداة تعمل على إحداث اللذة الأدبية بينما هدفها لدى العالم هو نقل الأفكار بتجرّد تام. ثمّ يعود ليذكّر به مرّة أخرى في الفصل الذي خصّصه لأدب الرحلات فيقول عارضا طريقته في تمييز أدبية كتب الرحلات عن غيرها : “فإذا عنى الرحالة بتصوير شعوره لوصف ما شاهد أو حاول استخلاص فكرة معيّنة فإن رحلته حينئذ تدخل في مجال الأدب لأنه ينفعل ويتأثّر ويصوّر لنا هذا من خلال عمله الأدبي، ولكنه حين يصف الأشياء بنوع من التجرّد فهنا يصبح مؤرّخا لا أديبا لأنّ حظّ الخيال في رحلته يكون قليلا.”
وإذا كان للنصّوص القصصية خصائصها المميّزة فإنّ الدارس القدير في استطاعته اقتلاعها بسهولة من منابتها في حقول الأدب المختلفة وأمهات الكتب كأدب الرحلات والأمثال والمقامات والرسائل والأيّام وغيرها وجمعها بعد ذلك في كتب، مثلما هو الشأن في العصر الحديث حيث اقتلع الدارسون القصّة القصيرة من بواطن الصحف أين كانت تنام جنبا إلى جنب مع أخبار الوفيات وبشائر الأعراس والمقالات الأدبية والسياسية والاقتصادية والمنوعات، ومثلما أكّده أحمد ممو في معرض حديثه عن التيجاني بن سالم بقوله إن الكتابة القصصية اقترنت بالصحافة باعتبارها الحامل شبه الوحيد لنشر تلك الكتابات .
وقد حاولت مجلة قصص أن تكون “المرجع الأكمل والأوفى لما صدر في تونس من أقاصيص” فتتبّعت القصص المنشورة في الجرائد والمجلّات و وضعت لها ثبتا تسهيلا للباحث مثل المسرد الذي أعدّه محمد الهادي بن صالح في القصص القصيرة التي نشرت في جريدة السردوك الأسبوعية ما بين 7 أفريل 1937 و 9 جوان 1937 و جريدة السرور من 30 أوت 1936 إلى 15 أكتوبر 1936
وإنّي لأستغرب ممن ثمّنوا دور الصحافة في احتضان القصّة القصيرة ولم يروا في كتب الرحلات أو الأيام وغيرها حاضنة لها. بل سلك بعضهم سلوكا غريبا إذ ذهبوا إلى انكارها وتجاهلها لمجرّد اختفائها عن أعينهم في حقول أدبية أجناسية أخرى حملتها المدوّنة التراثية متناسين تلك المقولة التي يتردد فيها القول إنّ خفاء الشيء لا يعني انعدامه وأنّ تلك المجاميع القديمة هي المنابت التي توفّرها العصور القديمة للكتّاب لنشر حكاياتهم وأقاصيصهم.
فإذا كان من الصعب على كتّاب القصّة القصيرة في بدايات القرن الماضي نشر إنتاجهم في كتب فهل كان سهلا على القدامى فعل ذلك؟
وجملة القول إنّ النقّاد الذين اهتمّوا بتلك النصوص القصصية الحديثة المبثوثة في بطون الصحف والمجلات فقاموا بالتنقيب عليها في المدوّنة الصحفية ووضع المسارد لها وجمعها في كتب والتقديم لها واجدين لكتّابها الأعذار بكون تلك الأوعية هي القنوات الوحيدة المتاحة لديهم لنشر إنتاجهم والتواصل مع قرّائهم، عليهم أن يسلكوا مسلك الإنصاف إذا راموا العدل فيعذروا القدامى الذين لم يجدوا غير الأشكال التي وفّرها لهم عصرهم لتضمين حكاياتهم وقصصهم الصغيرة فيها.
قدّم جان فونتان في العدد 52 من مجلّة قصص عرضا لافتا للأقصوصة التونسيّة المنشورة في المجموعات والصحف والدوريات بين عامي 1968 و 1980، سجّل فيه ما توصّل إليه بعد دراسة عيّنة منتقاة من 1500 قصّة قصيرة معتمدا في تحليله على معاييره الخاصة لتصنيف هذه التجارب القصصيّة والتمييز بين كتّابها. النتيجة مثيرة للاهتمام. خلاصة قوله إنّه على الرغم من تعدّد وتباين نصوص تلك المرحلة يمكن للدارس تشكيل أربعة عوالم مختلفة: أخلاقي، مخضرم، يومي ومتحوّل، نوافذها مفتوحة على ثلاثية : التذكّر أو التسجيل أو الخلق، حسب أزمنة فعل كتّابها: الماضي، الحال أو الاستقبال. وإنّ هذه النصوص السردية هي نوع خاص من الكتابة القصصية لا علاقة لها بالقصّة القصيرة التي يعرفها الغرب. وتلطيفا لرأيه الصادم أطلق على هذا النسيج المستحدث الذي اعتبره “نقل القصيدة نثرا” اسم أقصوصة واعتبره جنسا متطوّرا على القصّة القصيرة الغربية!
ونلحظ في ما دوّنه بوراوي عجينة وهو يتحدّث عن نصوص مرحلة الطليعة الأدبية إقرارا ضمنيا بهذا إذ يقول: “لقد عرف مسار الأدب التونسي المعاصر حركة حداثة هامّة هزّته هزّا في ما بين 1968-1972 حيث نجمتصدمة الحداثة القوية وتمثلت قيمتها لا في انتاجها الذي كان والحق يقال قليلا مخبريا ولا في بياناتها الصاخبة وإنّما في روحها الثائرة وإصرار أصحابها على النقد والرفض والبحث عن طرق جديدة مجهولة في الكتابة” . ويعرّف بوراوي عجينة الحداثة التي قصدها على أنّها “روح التجديد والبحث والإنشاء أكثر مما هي أعمال أدبية بعينها أو قواعد فنية ثابتة للاحتذاء بها أو اتجاه أدبي دون آخر” .
وقد حذا حذوه محمد الهادي بن صالح فذكر في شهادته “الحسّ والإدراك لدى محمود التونسي” أنّه سبق له أن قرأ لمحمود التونسي وهو أحد اعمدة الطليعة الأدبية أشياء بمجلة الفكر بدت له غريبة جدّا لم يستسغها لخروجها عن المألوف . واستنادا إلى هذه الشهادة نفسِها وفي موضع آخر منها تتأكّد هذه الحقيقة حين يستعمل الشاهد لفظة أقصوصة على معنى “الشيئيّة” ويضيف : “وإنّي لأذكر أنّه عندما قرأ أقصوصته فوتغرافية الحذاء وأصرّ على أنّها نص ورفض أن يحمل نصّه علامة قصّة سألته عن سبب وجوده بنادي القصّة؟”.
أمّا كلمة أقصوصة المذكورة في النصّ المعرّب للأستاذ توفيق بكّار “اشكالية اللغة لدى محمود التونسي” المنشور بالعدد 118 من مجلة قصص فهي من وضع المترجم أحمد ممو وليس من استعمال الناقد.
والمصطلح الذي استعمله جان فونتان ليس جديدا في عالم النقد فقد استعمله قبله غيره.
ولكن الأستاذ عبد الرحمان الكبلوطي وهو يتحدّث عن علي الدوعاجي ومحمود تيمور بوصفهما من حاملي مشعل الأقصوصة في الأدب العربي لا يعرّف هذا الفن على النحو الذي قصده جان فونتان في بحثه الاستقصائي بل بمحمول الجنس الأدبي المطابق للقصّة القصيرة إذ يقول معدّدا أنواع الكتابة القصصية :”وقد فرّق النقّاد بين أنماط أربعة من القصص فسمّوا القصّة الطويلة المتشعّبة بالرواية (Roman) والقصّة المتوسطة الطول بالقصّة (Nouvelle) والقصّة القصيرة بالأقصوصة (Conte) والقصّة التي تنزع إلى الخبر بالحكاية (Récit)”. ولعل الناظر في ما يقابل المصطلحات السردية بالحروف اللاتينية يكتشف ارتباك الكبلوطي في اختياره للمصطلح المناسب. ففي مشروع المصطلحات الخاصة بالمنظمة العربية للترجمة الذي أعدّه الدكتور هيثم الناهي بمساعدة هبة شرّي وحياة حسنين والمنشور على موقع المنظمة الإلكتروني تترجم لفظة Nouvelle الفرنسية بالقصّة القصيرة وهي الترجمة الشائعة لدى جمهور النقّاد والباحثين وما تؤكّده ترجمة مقابل القصّة القصيرة بالإنجليزية إلى الفرنسية (Short Story) (ص 732) و Conte مقابل الحكاية (ص 247) أمّا لفظةRécit فهي تستعمل بصورة شاملة عند معظم الدارسين للدلالة على السرد وهذا ما يؤكّده أحمد شربيط شربيط حيث يقول في حديثه عن الفن القصصي بالجزائر: “ولذا كانت Nouvelle الفرنسية تعني القصّة، وكلمة حكاية العربية وكلمة Conte الفرنسية وكلمة Tale الإنجليزية تعني جميعها سرد مغامرات لا تستند على الواقع الحياتي للإنسان، وإنّما على الخيال والأساطير وتهدف إلى التسلية.” وهو تقريبا ما ذكره أحمد المديني في دراسته فن القصّة القصيرة بالمغرب من أن مصطلح القصّة القصيرة قد نقل عن المصطلح الإنجليزي Short Story وعن المصطلح الفرنسي Nouvelle وهما في رأيه اسمان لمصطلح واحد ومدلول واحد.
أمّا الصَبْغة التي استعملها رضوان الكوني لطلاء واجهة قول بعض الدارسين بعدم وعي الدوعاجي وكتّاب فترة الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي بفنّ القصّة وتقنياتها فقد كانت تنقصها المثبّتات القويّة المعتمدة لدى النقّاد والباحثين. أغلب الاستشهادات المطوّلة والتراجم التي غطّت المساحة الكبرى من بحثه، كانت بعيدة تماما عن سياق الموضوع. فالوعي بخطورة الكتابة القصصية لا يعني بالضرورة الوعي بتقنياتها أو النجاح في تنزيل ما بالوعي في قوالب فنية مكتوبة. وفي العموم، الدراسة التي تتحدّث عن أوضاع الإيالة التونسية بين الحربين لا يمكن لها أن تنسف قناعة جان فونتان وغيره في أنّ النصوص التي كتبها “الروّاد” ليست قصصا قصيرة وأنّ رغباتهم في أدب جديد وآمالهم في بناء صرح أدبي رفيع بقيت معلّقت في فضاء الأماني ولم ترتسم على أرض الواقع.
3- الحركة القصصية الغربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
في ملاحظته التمهيدية التي قدّم بها الطبعة الجديدة لكتابه المعنون بـ”فلسفة القصّة القصيرة”، ذكر الأمريكي، أستاذ الأدب الدرامي، جيمس براندر ماثيوز أنّ بعض الآراء المطروحة في صفحات هذه الطبعة كانت قد نشرت في البداية مضغوطة ومجهولة النسب في ورقات على أعمدة الصحيفة اللندنية “استعراض السبت” (The Saturday Review) صيفعام 1884م، ثمّ ظهرت بعد ذلك بشكل أكثر تفصيلا في صفحات مجلّة ليبينكوت (Lippincott’sMagazine) أكتوبر 1885م.
النص الأصلي تمّ طبعه في كتيب، خريف عام 1888م، تحت عنوان: ” قلم وحبر: مقالات حول مواضيع هامة أو أقل أهمّية”.
ومع تزايد اهتمام الجامعات الأمريكية بتاريخ الفن القصصي ومبادئ فن السرد، في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، أعاد مؤلّف “قلم وحبر”، سنة 1901، نشر كتابه ذاك منقحا ومزيدا تحت عنوان “فلسفة القصّة القصيرة”، وقد أضاف إلى ما تمّ نشره سابقا الملاحظة التمهيدية في بداية الدراسة والتذييل في نهايتها.
جاء الكتاب في 83 صفحة، ورغم صغر حجمه فإنّ أهميته تكمن في كونه من أوائل الكتب التي عُنيت بدراسة القصّة القصيرة وتحديد سماتها كجنس أدبي مستقل عن جنس الرواية.
النقاط المثارة في هذا الكتيب هامة وعديدة، غير أنّ ما يعني بحثنا منها هو النقطة التي ناقش فيها الكاتب إشكالية التجنيس. التقط براندر ماثيوز خيوط أحاديث روائيي بريطانيا والولايات المتحدة حول مبادئ وممارسة فن كتابة القصص فلاحظ أنّ كلَّ مناقشاتِهم تدور حول مشاغلهم كروائيين وأساليب عملهم، مقاصدهم وغاياتهم، نجاحاتهم ومكانتهم الاجتماعية، وأن الأمثلة القصصية التي يوظفونها في دراساتهم هي روايات كاملة الطول وحكايات، إذ الرواية منذ نشأتها إلى تلك الأيّام “حكاية ما غريبة أو مألوفة” ، ومع ذلك فهم لم يستشهدوا أبدا بالقصص القصيرة رغم أنّها لا تُعْتَبَر، في تلك الأيّام، جنسا أدبيا قائما بذاته .
وقد كان المؤرخ والروائي الإنجليزي “والتر بيسانت” (Walter Besant) يصارع، آنذاك، بقوّة من أجل تحقيق رغبته في أن يعتلي السرد القصصي المكانة العالية التي يستحقها بين الفنون الجميلة. وقد دفع بثلاث مسلّمات معلومة لدى جمهور الكتّاب جعلها ركيزة أساسية لتثمين الكتابة القصصية واتخاذها مادة أدبيّة تُدرّس للطلاّب بالمدارس والجامعات. أولى هذه المسلّمات أنّ السرد القصصي هو فن ككل الفنون الأخرى، مثله مثل فن الرسم والنحت والشعر والموسيقى ، ومجاله، على حدّ وصفه، لا محدود وامكانياته واسعة وتميزه يثير الاعجاب، والمسلّمة الثانية هي أنّ هذا الفنّ المشار إليه يخضع لقواعد وأساليب ومبادئ عامة يمكن وضعها وتدريسها بدقّة متناهية كما تدرّس قوانين الرسم والموسيقى، أمّا المسلمة الثالثة فهي أن هذه القوانين المتعلّقة بالفن القصصي لا يمكن تعليمها لأولئك الذين لم تهبهم الطبيعة قوانينها العامة.
وقد تعيّن على “بيسانت” القيام بشرح دقيق ومستفيض لهذه المسلّمات الثلاث وإظهار أوجه الاختلاف بين الرواية من جهة والشعر والموسيقى والرسم والنحت من جهة أخرى، كي يثبت جدارة الفن القصصي بنيل مكانة نبيلة بين أشكال الفنون المتعددة، ويقترح الإعتراف بالمبدعين في هذا الحقل كفنّانين بما تحمله هذه الكلمة من دلالة ومعنى دقيق، وأن يتلقّوا نصيبهم من التمييز الوطني فيحظوا بشرف التكريم ويحتلّ المتميّزون منهم المستوى نفسَه الذي بلغه عظماء الرجال في العالم. فيُنظر إلى الروائي الكبير كما يُنظر إلى الرسّام العظيم أو الموسيقى العظيم أو الشاعر العظيم. وحمّل الروائيين نصيبهم من المسؤولية لعدم انتظامهم داخل إطار أكاديمي أو خيمة إجتماعية كأتباع فنّ خاص، وأيضا بسبب نظرتهم القاصرة لمهنتهم حيث أنهم، في تقديره، كانوا يعتقدون أن إتقان رواية القصص يمكن تحقيقه عبر الموهبة والتقليد وحسب.
شدّت محاضرة بيسانت اهتمام هنري جيمس فتفاعل معها بسرعة وتلقائية، في تنافذ تام بين الأدب الأنجليزي والأدب الأمريكي الذيْن كانا على أبواب انعطافة كبرى نحو التحرّر من هيمنة الأدب الفرنسي الذي كان تأثيره، آنذاك، قويّا وواضحا ملموسا، نطالعه في الألفاظ والمصطلحات الأدبية التي تجري على ألسنة المبدعين الأنجليز بلغة الفرنسيّين ، ونلحظه في كثرة الدراسات النقدية عن أعمال المبدعيين الفرنسيين ونستخلصه من كثافة النصوص الفرنسية المسافرة إلى اللغة الأنجليزية. كثافة النصوص القصصية الفرنسية المترجمة معيار آخر لا يقدر براندر ماثيوز نفيه بتلك الحجّة الغليظة التي استعملها لتأكيد تفوّق الإنتاج الأمريكي في مجال الرواية على انتاج المملكة المتحدة، على الرغم من كثافة طباعة الروايات الأنجليزية في الولايات المتحدة واقبال الشعب الأمريكي عليها. كدليل على تفوّق الأنجليز والتي بررها على عدم وجود اتفاقيات لحقوق التأليف.
يعتقد “هنري جيمس” أن القواعد والمبادئ التي أشار إليها “بيسانت” في مقاله، وموجّهاته للسلوك القويم عند النشر هي مثال جيّد على حماسة الرجل وجهده في تأطير الناشئة وتحفيز رغبتهم للوصول بالرواية، كشكل فني متفوّق، إلى الجودة والكمال، في فترة حرجة تتعرّض فيها الروايات الجيّدة إلى التهديد بسبب موجة الأعمال الروائية السيّئة التي تجتاح، آنذاك، ميدان الرواية المكتظّ. غير أنّ ما يشعره بالقلق ويُلَبّس عقلَه ثوبَ التشكّك في وجود آلية نقدية سليمة لغربلة النصوص الإبداعية المتوافرة بكثافة يتمثّل في تقدير الجودة، أي في تفسير مصطلح الرواية “الجيّدة”. لأنّ كلَّ ناقدٍ سيعمد، حسب مزاجه، إلى تأويل وشرح المصطلح بطريقته الخاصّة لتقديم نغمته في خصائص ومحدّدات الرواية “الفنّية”.
ولهذا فإنّه يرى أنّه من الخطأ محاولة الإفصاح المسبق بكل ثقة عن شكل العمل الذي ستكونه الرواية الجيّدة. وهو غرض الكاتب من كتابة المقال ونقطة خلافه مع “بيسانت” ومعارضته له، لكون الرواية، عنده، في تعريفها الواسع هي انطباع شخصي عن الحياة، ولذلك فإنّ قيمتها تتحدّد وفقا لشدّة الانطباع المرتبط ارتباطا وثيقا بحرية الشعور والقول، والتحديد المسبق للخطّ الذي ينبغي على الكاتب إتباعه، والأسلوب الذي ينبغي عليه اتخاذه، والشكل الذي يتعيّن عليه ملؤه، هو تقييد لهذه الحرية وطمس لكل عامل من شأنه أن يثير فينا أقصى الفضول .
اقترب “وليام دين هاولز” من “بيسانت” في زاوية رؤيا مشتركة للمسألة النقدية ووجوب وضع معايير حقيقية دائمة وقوانين ثابتة لتقدير الفنون، تتشكّل بطريقة تُطمئن هنري جيمس على الحرّية الجمالية ولا تكون إلزاما مكروها لمزاج وذوق جيل أدبي لآخر حين تتبدّل الأمزجة العامة والأذواق وتتغيّر الموضات في عصر ما، مثل مسألة التخلّي عن المثالية والغائية الأخلاقية. فمن الخطأ أن يتمّ تحويل الموضات المتغيّرة باستمرار إلى عناصر ثابتة في محدّدات الفنون حتّى لو كان من المحتمل عودتها في المستقبل. هذا ما فهمه “هاولز” قبل أكثر من مائة سنة وأشار إليه وثبّته في ثنايا كتابه “النقد والفنّ القصصي”، على الأقل في ما تعلّق منها بوحدة الذوق وديمومة العناصر، عند وضع القوانين والقواعد النقدية. وهذا ما جعل “بيسانت” مثلا يصل إلى نتيجة مفادها أنّ الرواية الدينية الكنسية هي موضة قديمة. يقول موجّها كلامه إلى الكتّاب الشبّان بشيء من الحرص في انتقاء الألفاظ المناسبة:
«At the same time, one may be permitted to think that the preaching novel is the least desirable of any, and to be unfeignedly rejoiced that the old religious novel, written in the interests of High Church or Low Church or any other Church, has gone out of fashion»
موضة باتت نفوس الناس الميّالة إلى التغيير تشيح عنها، كما أشاحت أيّامها نزعة الكتّاب عن موضة كتابة القصّة الطويلة ذات الحجم الضخم التي يطلق عليها نقّاد اليوم اسم الرواية النهر، وتجافت جنوب روح إنتاجهم عن مضاجع الرومانسية لتسترخي بلطافة في عمق مسابح تيّار الواقعية.
كان هاولز يدفع بكل ثقله لإحداث التوازن بين القبح والجمال في العمل القصصي وتعويض الشخصية المثالية الحالمة بتلك الشخصية البسيطة الطبيعيّة الصادقة التي تأخذ شبهها من الواقع المعاشللإنسان وتتنفّس بحسّ سليم كنفس بشرية. كان يقف متمرّدا أمام عجلةتقدّم الحركة الرومانسية، التي ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر وسيطرت سيطرة شبه مطلقة في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، ليعلن عن خطأ توجيه الكاتب الشاب الراغب في تأكيد حضوره نحو خلق شخصيات قصصية تشبه تلك التي أنتجها كبار الكتّاب وتبدو صفاتها وملامحها وأسلوب حديثها مثل صفات وملامح وأسلوب حديث شخصيات أعظم كلاسيكيات شكسبير أو سكوت أو ثاكيراي أو بلزاك أو هوثورن أو ديكنز، ويرى أنّه من الأفضل أن يُدفع الكاتب إلى الواقع ينحت منه شخصيات عمله وأن يضع أذنيه قرب شفتي الطبيعة لتمييزها.
وفي حين كان “غوته” مسحورا بعالم الشرق، مفتونا به، يدعو من يرغب في المساهمة في عمليّة خلق العقول النيّرة إلى التمثّل بما هو شرقي، كان هاولز يسعى إلى فكّ هذا السحر وغلق أبواب الشرق أمام قوافل الرومانسيين الباحثين “عن مثل جمالية رومانسيّة في مسلمات هذا الشرق الأخلاقيّة – الجماليّة وفي الصورة كما في الفكرة معا.” ورغم أنّه في تلك المرحلة قد تمّ الانتقال بالفنون الغربيّة من الغرائبيّة إلى الاستشراق إلاّ أن هذا لم يرض هاولز وتمسّك بتثبيتهم على أرض الواقعيّة الصلبة حتّى يصنعوا من الناس الطيّبين من الطبقة الدنيا أبطالا.
وبكثير من التعصّب لنزعته الواقعيّة شنّ هجومه الكاسح على بعض أعمال كبار الروائيين وقلّل من قيمتها الأدبيّة بسبب ما تحتويه من جزيئات الرومانسية وتنتهك قوانين الطبيعة، وربّما كانت النيّة المبطّنة متجهة أكثر إلى كسر صورة الآلهة المزيّفة وإسقاط هالة القدوة التي تشعّ في مخيّلة الكتّاب الجدد وإظهار هؤلاء العمالقة كـ”غوته” و”سكوت” و”بلزاك” في شكل كتلة من المؤلفين العاديين الذين يخطئون ويصيبون بقدر قربهم أو ابتعادهم عن المثل العليا وانعكاس هذا الجانب أو ذاك من عالمهم المادي في أعمالهم. “لا أخاف أن أقول الآن إن أعظم الكلاسيكيات ليست في بعض الأحيان عظيمة على الإطلاق” ، يقول هاولز وهو يشحذ سكاكين معاييره الجديدة التي تسلخ كل عمل أدبي لأنّه يحتوي على ما يكره من مسائل الذوق وطقوس الفضيلة. رغم تأكيده مرارا أنّه من السهل استعمال النقد الجمالي، من السهل القول إنّك تحب هذا أو لا يعجبك هذا ولكن الأجدى أن يكون الحكم على الكتب لا كأشياء ميّتة، بل كأشياء حيّة لها تأثير وقوّة بغض النظر عن الجمال.
ولم يكتف السيد هاولز في محاربته الرومانسية بجبهة قتاله ضد المبدعين بل وسّع دائرة معاركه ففتح جبهة جديدة ضد زملائه النقّاد السيّئين الذين يعملون كمشرط في الشرّ متسبّبين في فناء ما اعتبره كتبا إبداعية طازجة جديرة بالحياة وإطالة عمر الكتب التقليدية فاقدة القيمة المبنيّة على أسس زائفة. هم سيّئون لأنّ أدواتهم النقديّة غير مفيدة للأدب فهي آثار من عبادة نماذج معيّنة وليست قوانين يمكن التحقّق منها بسهولة.
ومهما تكن الأسباب الداعية إلى التحوّل إلى كتابة الرواية القصيرة ومدى اتصالها بالتحوّلات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى في العالم ونشأة وتطوّر الصحافة، فإنّ الإقبال الكبير على هذا الشكل النحيف من النصوص الروائية وكثرة ممارسيه في الصحف والعناية المتزايدة به قد أدّى إلى تطوّره على صعيد البناء والمضامين ولحقه تطوّر سريع على مستوى الدراسات النقدية ذات الصلة حيث انتقلت عناية الدارسين من تناول المبدعين كعنصر بحث أو دراسة فترات مميّزة من تاريخ الأدب إلى دراسة الأنواع الأدبية وخصائصها، وهو ما أشار إليه “ألفونسو سميث” (Alphonso Smith) في إحدى محاضراته التي كان يلقيها بجامعة برلين ما بين عامي 1910 و 1911 حول الأدب الأمريكي ، ذاكرا كمثال على ذلك مؤلَّف “ثيودور ستانتون” (Theodore Stanton) “دليل الأدب الأمريكي” (Manual of American Literature) (1909) وسلسلة مكتبة “وامبوم” حول الأدب الأمريكي من إعداد “براندر ماثيوز”. وعزا سبب هذا الاهتمام المتزايد بالأنواع الأدبية إلى نشأة وظهور القصّة القصيرة الأمريكية. فهل كان هذا الجنس الأدبي الوليد في أمريكا هو اتيان بما لم تأت به أوائل النخبة الأمريكية الحديثة في تاريخها الأدبي أم عموم النخب في العالم ككل؟ وهل أن هذه النقطة تمثل العطب في الدعوة إلى أن القصّة القصيرة هي وليدة الغرب في القرن التاسع عشر؟ سنترك الإجابة على هذه التساؤلات إلى آخر البحث
ومن الغريب أنّه على الرغم من اتّساع دائرة الاعتراف الرسمي بهذا الشكل الأدبي الجديد بعد سنوات قليلة من توصّل نقّاد الأدب إلى استخلاص الفروق الجوهريّة التي تفصله عن جنس الرواية وعن الحكاية فإنّهم لم يجعلوا له اسما مميّزا وتركوه مشدودا إلى الاسم العام الفضفاض الشامل لكلّ أنواع القصّ القصير. وحتّى الاسم المركّب من لفظتين بينهما واصلة التي ابتكرها ماثيوز استخدمها مبتكرها وقليل من معاصريه لزمن قليل وأهملها الذين أتوا بعدهم.
وبعد قرابة العقدين من الزمن يعود “براندر ماثيوز” ليضيف الجانب التطبيقي الذي لم يتطرّق إليه كتابه النظري “فلسفة القصّة القصيرة” ويفرد له كتابا بعنوان “القصّة القصيرة: نماذج توضّح تطوّرها” (The Short-Story : Specimens illustrating itsdevelopment) ضمّنه عددا من القصص النموذجيّة لإظهار التطوّر البطيء لهذا الجنس الأدبي عبر قرون قديمة من الحضارة المتقدّمة، وفيه يلمّح إلى المشكل المتعلّق بالاسم، حيث يقول إنّه على الرغم من أن القصّة القصيرة لا تزال تفتقر إلى اسم مُرْضٍ، فإنّه الآن يُنظر إليها على أنّها متميّزة بشكل واضح عن الرواية وأيضا عن الحكاية . ويضيف : “إلى الآن ليس لدينا اسم مميّز للشكل الجديد”
في كتاب “التاريخ الموجز للأدب الأمريكي” (A Short History of American Literature) (1922)فصل قيّم عن القصّة القصيرة، قام بتحريره ثلّة من الأساتذة المختصّين: ويليام بيترفيلد ترينت (William Peterfield Trent)، جان إرسكين (John Erskine)، ستيوارت شيرمان،(Stuart Sherman) وكارل فان دورين (Carl Van Doren) وقد استندوا في محتواه إلى مرجع هام وهو “تاريخ كمبريدج للأدب الأمريكي”. فبعد تأكيدهم على أن القصة القصيرة الحديثة ليست سوى أحدث صيحات الموضة في القصّ ، ذكر المؤلفون أن القصّة القصيرة الأمريكية شهدت أربعة مراحل، كحدّ أدنى. بداية محطّتها الأولى كانت مع حكايات “هانا مور” (Hannah More) في القرن الثامن عشر، مرورا بقصص “واشنطن إيرفينغ” (Washington Irving)، وآثار “هاوثورن” (Hawthorne) الأخلاقيّة. وجاء “إدغار آلان بو” ليكون أسّ المرحلة الرابعة في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، مرحلة “بو” الماديّة. ويشير مؤلفو الكتاب على أنّ مع “بو” جاء لأول مرّة علم القصّة القصيرة وعومل كشكل فني متميز بقواعده الخاصة ومجالاتهالمحدّدة. وكان “بو” أول من نظر إلى الشكل الفني الجديد وصاغ قوانينه.
الخاتمة:
مصطلح “القصّة القصيرة” هو مصطلح إشكالي ملتبس يحمل في دلالته مفهومين متشابكين أحدهما مطلق والآخر مقيّد. فأحيانا نجده يُستخدم كاسم جامع لكلّ أنواع القصّ القصير كالمقامات والقصص النبوي والقصص القرآني والخرافات والنادرة، إلخ. ومرّة نجده يستخدم كاسم مخصوص للتعبير عن القصّة القصيرة التي أشعّت وشهدت اتساعا في انتاجها في العقود الأولى من القرن التاسع عشر. وقد أدّى هذا إلى ظهور اختلافات صريحة واضحة في عديد الدراسات والبحوث المتعلقة بجذور القصّة القصيرة وبداياتها. ليس فقط لدى النقّاد والباحثين العرب وإنّما أيضا لدى الدارسين الغربيين . وقد رأينا كيف حاولت طبقة من النقّاد توليد مصطلح يعبّر عن الجنس الأدبي المستحدث إلاّ أنّ الترميم بالإضافة لم يَصُغْ اسما دقيقا لفن القصّة القصيرة الحديثة ولم يصنع لها لبوسا خاصا يفردها ويميّزها بالمعنى عن بقيّة الأنواع القصصية القديمة. فلفظة “مقامة” على سبيل المثال تشكّل في الذهنية العربية صورة دقيقة الملامح محدّدة المعالم لذاك الفن الأدبي المسجوع الذي ظهر في القرن العاشر ميلادي دون سواه. أمّا عبارة “القصّة القصيرة الحديثة” أو “القصّة القصيرة الفنية” فهي، في مجمل القول، لا تعني سوى آخر طراز من كتابة القصّة القصيرة، أي القصّة القصيرة المعاصرة بما لكلمة “معاصرة” من تحوّلات وشرود في بُعديها المكاني والزماني. وأفضل مثال على ذلك عدم ثبات مصطلح “القصّة القصيرة المعاصرة” (Modern Short-Story) الذي ثبّته “والتر موريس هارت” (Walter Morris Hart) وغيره على نصوص جيل الروّاد الغربيين ونسفته “فلورنس قويت” (Florence Goyet) وأحفادهم بمجرّد أن تحوّلوا به إلى المصطلح الجديد المناسب لتلك الفترة وهو”القصّة القصيرة الكلاسيكية” (Classic Short Story) ليأخذ دلالته الجديدة في ذهنية القارئ المعاصر.
الإضافة الجليلة التي قدّمها الأساتذة الغربيون في مجال القصّة القصيرة تكمن أساسا في تحليل وتحديد خصوصية هذا الجنس واستنباط قواعده وآلياته ليسهل تدريسه في الجامعات ومن ثمّة تطويره، وهنا كان تميّزهم الجليّ وخطوتهم البارزة. فمع منتصف القرن التاسع عشر صار للقصّة القصيرة أساتذة يدرّسونها وهم يمتلكون آليات العزل والفصل لجنس أدبي موجود منذ القدم.
الريادة الغربية إذن تمسّ باب النقد الأدبي وجوهره ولا تمسّ الجنس الأدبي في حدّ ذاته كما توهّم نقّاد “التلقّف العجول للاتجاهات والمؤثرات الأجنبية” على حد تعبير الدكتور عبد الله أبو هيف. مع الاشارة أن الغربيين الأوائل لم يدّعوا أبدا أنّهم هم من أوجدوا هذا الجنس الأدبي الذي لم يأت به الأوائل قبلهم، فهم يقولون ان القرن التاسع عشر شهدت فيه القصة القصيرة اتساعا في الانتاج وليس ابتداعا للقصة القصيرة. وانطلاقا من الكم الهائل من هذه القصص المضافة إلى المدوّنة السردية وتحديدا تلك التي صورتها تمثّل موضة عصرهم – وقد غفلوا عن تسميتها وتركوها في جلباب الاسم العام- صار بإمكانهم أن يتخذوا منها عيّنة استطاعوا من خلالها أن يشرّحوا نسيج القصة القصيرة ويحدّدوا بنيتها، وهيكلها العظمي الذي يميّزها أساسا عن الرواية القريبة منها في الشبه. لذلك جاءت تعريفاتهم لها بسيطة وقدّموا خصائص فنيّة قليلة العدد كوحدة الانطباع ومبدأ التأثير وتوفّر العناصر الأساسية للعمل القصصي، قبل أن تتفرّع وتتعقّد التعريفات وتتكاثر المحدّدات.
أمّا لو تمّ تمييز قصص القرن التاسع عشر القصيرة باسم معيّن فإنّ تلك التي أتت بعدها عبر عقود متتالية فهي لن تأخذ ذاك الاسم وسوف تتلبس بتسميات عدّة مغايرة بسبب المعايير النقدية المتبدّلة والتغيّرات التي طرأت على البناء القصصي وعلى الأسلوب من عقد لآخر ومن جيل أدبي لآخر ومن منطقة جغرافية لأخرى إلى أن تحوّلت القصص القصيرة إلى نصوص مفتوحة وغير مكتملة يعتبرها جان فونتان نوعا جديدا من القصّ ويراها خيري دومة نصوصا سردية لا تحكي قصّة وإنّما تزرع قلقا. ويضيف دومة قائلا: “بين متعة السرد ومتعة القلق نشأت كتب سرديّة كثيرة في المنطقة الواقعة بين الرواية ومجموعة القصص. وأطلقت أسماء كثيرة على هذه الكتب” .
وهنا في ظلّ هذه الخاتمة لا بد أن أشير، بشيء من الحزن ، إلى أنّه فيما يؤكّد الأساتذة الغربيون لطلاّبهم بكل تواضع أنّ القصّة القصيرة موجودة حتى قبل منتصف القرن التاسع عشر ويضربون لهم الأمثال من العصور القديمة ، نجد أن بعض المرشدين التربويين العرب يقررون لأبنائهم في برامجهم المدرسية ومناهجهم الدراسية وبكل يقين أنّ العرب لم يعرفوا في تراثهم النثري القصّة القصيرة وأن لا صلة بين القصّة القصيرة وفنّ المقامات.