مرة أخرى وأخيرة، قمت من مكاني وحملت أوراقي أتفقد آخر ما جادت به قريحتي. لكن لم أم أجد أي شيء أكتبه. فمنذ مدة ليست باليسيرة والإلهام يجافيني، كأن لعنة ضد الكتابة أصابتني في مقتل، وأوقفت كل سيالة إبداعية يمكن أن تنسكب في مخي. سقطت على السرير وسقطت معي عدة أوراق، فرحت أقلبها لأجدها نصا قصصيا بعنوان “الموظف والتهمة”. تلك القصة التي كتبت منذ سنوات، ولا أعتبرها حتى من روائع ما كتبت. بدأت أقرأها من جديد. لقد خربت حياة الموظف بجرة قلم بسيطة. ما أنذلني من كاتب. لذا قررت زيارة الموظف، فلربما أصلحت ذات البين بيننا، وأكملت كتابة قصته لتصبح رواية مستقبلا. رواية تحكي عن معاناته مع كاتب متسلط.
دلفت مكتب الموظف، بعد أن أخدت موعدا وأمضت على عدة وثائق، ليقع نظري مباشرة على لافتة صغيرة مذهبية ومنمقة، مكتوب عليها: “المدير التنفيذي”. هوبا! ما أسرع الوقت! ففي عقد من الزمن أصبح الموظف الحقير مديرا تنفيذيا لأكبر شركة في البلد. الأمر غير طبيعي!
كما دخلت دون استئذان، وجلست دون استئذان (القصة قصتي سأفعل فيها ما أشاء)، سألته دون استئذان:
– كيف فعلتها؟ كيف تغير حالك من الأسوء إلى أفضل الأفضل؟
– حسنا، دعني أخبرك بسر صغير. ولتدعه بيننا. إذا كف الناس عن التدخل في حياتك ومضايقتك كل مرة، ستنجح. وهذا ما حدث معي بعد أن توقفت عن التحكم في كدمية داخل قصصك الفاشلة. أخبرني متى كتبت عني أول قصة؟ منذ 12 سنة أليس كذلك؟ وقد أخبرتني آنذاك أن أي شخص منا تتحكم فيه قوة أعلى منه. لكني نجحت في تغيير حياتي بعد أن تحررت منك، أما أنت ضللت فاشلا. أنت فاشل لأنك ما زلت لم تتحرر. تحرر وستنجح.
توقفت لأتأمل هذا الشخص الماثل أمامي، كلامه ينم عن حكمة عميقة، وكأنه ليس ذلك الموظف البسيط الذي وقع عليه اختياري لأول مرة. مع ذلك يبقى مجرد شخصية في قصصي، أما أنا هو الكاتب.
– أيها الموظف، فلنوقف هذه المهزلة الآن. تريد الحرية؟ انعم بها، وسأبحث عن شخصيات جديدة لقصصي. أنت الآن حر!
قمت وغادرت مكتبه، وعلامات الحيرة تعلو محياه. عزمت على زيارة زوجته لأستقصي أخبارها، وربما أعطتني فكرة عما يدور في الخفاء دون أن أعلم به. فها أنا ذا أدور في قصتي التي أعتزم أن أكتب دون أن أعلم من أحوال شخصياتها شيئا ما، وكأني أصبحت من شخصياتها. ربما أنا فعلا من شخصياتها، كما حدث في رواية “عالم صوفي” حين أصبح السارد من الشخصيات، واستطاع ألبرتو كنوكس أن يفر منه في النهاية. الأمر منطقي إذن.
– أهلا زوجة الموظف، هل تتذكرينني؟
– بالطبع! أنت ذلك الكاتب المتسلط الذي كان يحاول تخريب حياة زوجي.
– نعم أنا الكاتب، لكني لست متسلطا ولا أحاول تخريب حياة أحد هنا! أيمكن أن أدخل؟
أفسحت لي الطريق وقادتني إلى صالة الجلوس، وأحضرت براد شاي منعنع وصحنا مليئا بحلوى كعب غزال، ثم جلست قبالتي. هذه المرة أنا من سيبدأ الحديث
– أرى أنكما في بحبوحة من الخير! فقد تغير الكثير منذ زيارتي الأخيرة لكما.
– نحمد الله كثيرا، فبعد أن نسيت أمر زوجي لسنوات وظروفنا تتحسن إلى الأفضل. ولا فضل لك في ذلك.
ضربة موجعة! بعد هنيهة صمت منها أكملت.
– ما الذي فعلته في القصة التي حاولت فيها تخريب حياتنا؟ ألم تكن تريد أن تدخل امرأة أخرى في القصة لتجعلنا نفترق؟
ما بال شخصيات هذه القصة تعرف أكثر مما يجب؟ لقد بدأت الأمور تخرج عن سيطرتي! حتى الآن أسرد الأحداث دون أن أعرف إلى ما الذي ستؤول إليه في النهاية. لقد أدخلت نفسي في عبث ربما لن ينتهي على خير. شخصيات متمردة، كاتب متسلط، نهايات غير متوقعة! ما هكذا يجب أن تكون القصص عادة.
– تلك مجرد ردة فعل انتقامية، وقد فقدتها هي الأخرى، كما فقدت قصصا غيرها.
– ألم تنتقم منه في الجزء السابق؟ ما الذي تحاول إثباته الآن؟ أنت لست القدر، بل مجرد كاتب يحاول شق طريق الشهرة على حساب شخصياته، دون اعتبار منه أنه بعد خلقها تستمر في الحياة….
بدت علامات الصدمة واضحة على وجهي!
– …أنتم الكتاب تعتقدون أن حياتنا تنتهي بمجرد وضع نهاية تناسب أهواءكم! لكن لا، نحن نستمر في وجدان القراء وقلوبهم، يتعلقون بنا، يرسمون لنا نهايات وتأويلات كما يحبونها. نحن الشخصيات أحياء ولسنا مجرد حبر على ورق.
لم أشعر بمثل هذه الصدمة من قبل! كل ما أكنت أريده أن يسير الموظف وباقي الشخصيات حسب ما أمليه عليهم من أحداث في هذه القصة. وربما بحثت عن القليل من الشهرة وربما فوز في إحدى المسابقات، ما الضير في ذلك فأنا أيضا لي طموحاتي وأهدافي.
بعد هذا اليوم الشاق في تنقل بين الشخصيات، عدت إلى المنزل لأرتاح قليلا ولأفكر في هاته العُقد التي كثرت دون حل. كنت مستلقيا على ظهري، أعصر مخي عساه يتفتق على فكرة لتكون لي مخرجا من هذه القصة الورطة، لكني أغفيت قليلا. حين استيقظت وجدتني في عالم سوداوي يحكمه الموظف، وفي يده سوط مشكل من أقلام الكتابة، يجلد به بعض الأشخاص. اقتربت منهم أكثر لأتبين من هم، رأيت نقشا على جباههم: “كاتب”. أما أنا فكنت مقيدا بسلاسل إلى عرش الموظف وكأني أنتظر مصيري المحتوم.
استيقظت مفزوعا وقلبي يريد الخروج من مكانه هلعا، لأجد الموظف جالسا أمامي وبيده غليون طويل منقوشا عليها بعض الأقلام. كان يشبه السوط الذي رأيته في الحلم. سألته وفرائصي ما زالت ترتعد خوفا، وجبهتي تتصبب عرقا.
– كيف هربت من القصة؟
– أنا لم أهرب أبدا! ما زلت هنا! أتعلم أنت خائف من تتبدل أدوارنا وأصبح أنا من يتحكم في مصيرك. أنت خائف من أن تعيش بعيدا عنا. فكما ترى نحن من نعطي معنى لحياتك! الكتابة هي متنفسك الوحيد، ولو هجرتك الشخصيات لأصبحت وحيدا في هذا العالم، وستموت حتما وحيدا إذا لم نتواجد حولك. وفي محاولة منك خلق عالم بديل ترتاح فيه من صخب الحياة، أصبحت حياتك رهينة هذا العالم. وإن أردت الحقيقة أنا لم أهرب من القصة، بل أنت من هرب إليها، أصبحتَ شخصية من شخصياتها دون رغبة ووعي منك. فمرحبا بك في عالمك الذي خلقته، عالمك الذي يفتقر إلى المعنى والثبات، لهذا نحن ننفلت منك، بينما أنت تصبح عبدا لنفسك!
– لكنكم مجرد شخصيات، ويجب عليكم أن تسيروا حسب ما أمليه عليكم!
– تؤتؤ، أنت مخطئ يا عزيزي الكاتب، نحن كلنا –بما فيهم أنت- ممثلون قذف بهم نحو خشبة المسرح، دون أي مخطوط يحدد أدوارنا المنوطة بنا، دون أي موجه يملي علينا أفعالنا. إن علينا نختار كيف نعيش حياتنا. لكنك أخطأ في اختيار الدور المناسب لك وأصبحت شخصية في قصتك!
– لكن هذا لا يمكن! لن أسمح لك أن تحدد دوري! أنا الكاتب وسأظل كاتبا مهما حصل.
وصلت إلى حد لم أعد أملك فيه زمام الأمور، فها هي شخصيتي الرئيسية قد تمردت عني، والأفكار التي جمعتها من تجاربي الحياتية في السنوات السابقة، تقف عاجزة أمام ما سأقدمه لقرائي تاليا. بالمختصر غير المفيد، لم أعد أملك ما سأكتبه، ولربما يملك رولان بارت الحق حي قال بموت المؤلف، فها أنا أقف كالميت إزاء قصتي، إزاء شخصيتي الرئيسية، وما زلت أستعمل “تي” المتملكة لأبرهن لكم قرائي الأجلاء أنني أملك زمام الأمور في قص”تي”، وأنني المسيطر على شخصي”تي”، وأنني أحسن السرد”تي”.
لا وجود هنا لأي قص.. ولا لأي “تي”.. بل هي مجرد محاولة بائسة للكتابة!
توقفت للحظة أتفرس ملامح الموظف، وأزن جيدا ما قاله ما سيقوله، رغم جهلي –وأنا الكاتب- بما سيقوله أو بما سيفعله. وفي لحظة ما أصبحت أرى الحقيقة جلية أمامي –حقيق”تي”- واضحة كوضوح الشمس في نهار جميل، يجب أن أقتله، بجرة قلم، بمسدس، بسكين، بأي شيء، المهم أم أتخلص من شخصي”تي” العنيدة. فكما قتلنا رولان بارت، يجب أن نقتل شخصيات قصصنا، نكاية في النقاد والقراء والرقباء وكل متعاطف متعلق، بشخصيات”نا”، ينحب لمجرد خدش أصابها.
نعم سأقتل شخصي”تي”، سأقتل الموظف!
قمت بسرعة وبغضب، وأتيت بقلم حاد، وغرسته في أحشاء قص”تي”، وأنهيت حياة الموظف. أخيرا قتلته. بعد أن سقط متمرغا في حبره، استحال وجهه مألوفا جدا. اقتربت منه أتفرس ملامحه مرة أخرى وأخيرة. هرعت إلى المرآة وتفرست ملامحي جيدا. عدت إلى مكان الجريمة والصدمة تعلو فرائصي!
كان الموظف أنا، أو ربما كنت أنا الموظف، في عالم لا وجود له هنا.
تمت: 2022.