رشيد مجيد اسم مغمور وسط سحب النسيان, يشكو الألم والضياع , والحرمان , صوته الدافئ الرخيم يتبدد في عالم لا يفهم , ومعاناته الشاقة تتحدث عنها الأيام , ولد شاعرنا رشيد مجيد سعيد في مدينة الناصرية عام اثنين وعشرين وتسعمائة وألف للميلاد , من أبوين عراقيين معوزين , ولما بلغ السن التي تؤهله للدخول إلى المدرسة ادخل المدرسة المركزية الابتدائية , وفي نهاية الدراسة ظهرت ميوله الأدبية فكان شاعر المدرسة آنذاك , ويتخرج رشيد مجيد من تلك المدرسة عام (1934م) على الأرجح , ليكون في العام التالي على مقعد من مقاعد لمتوسطة المركزية في مدينة الناصرية , ويحالفه الحظ في تلك السنة فيكون من الناجحين , لينتقل بعدها إلى الصف الثاني , ورشيد مجيد شاعر فطري أنجبته تجربة ضخمة ترك مقاعد الدراسة واتجه مصورا فوتوغرافيا يتجول ما بين مفاتن وإسرار طبيعة جنوب العراق ,فامتهنها ردحا من الزمن , كتب أول قصيدة له في مطلع الأربعينيات إذ مجالس الأصدقاء , ومقاهي الأزقة , وهموم الصبا الحالمة بحياة أفضل , وهي تلك المدة كانت تنشر معالم القصيدة الدينية وقصائد ضيقة الانتشار في المدينة لبعض أصحاب المكتبات والمعنيين, وكان يقرا لشعراء عرب قصائد في الغزل , وكان يحبذها مع ما ينسجم من هاجس رشيد مجيد الخاص , إذ نمى في داخله كائن الشعر , وفي بداية الأربعينيات وكان ذلك صدفة لم يتعمده غير انه وجد نفسه كتب مقطوعة شعرية مما يجول في خاطره , نشرت في مجلة (الغري) آنذاك مما دفع الشاعر لان يتناول آراءه وهواجسه, بصوره الشعرية , وهكذا كانت بداية الشاعر بداية عفوية , فقد كتب أولى قصائده :
تلعب الآمال دورا في العقول
تتهاوى حلوة ثم تزول
فإذا الإنسان في يأس يقول
تلك آمالي كحلم هارب
وكان مقدرا لها ان تكون رسالة موجهة لصديق , فان الشاعرين عباس الملا علي , وعبد القادر الناصري , قد اكتشفا وقتها مقدار الشاعرية التي انطوت عليها تلك الرسالة , وهكذا اقنعا الشاعر رشيد مجيد بنشرها في مجلة الغري التي كانت تصدر بمدينة النجف, لتسجل البداية الفعلية لواحد من شعراء القصيدة الوجدانية العربية , فضلا عن حبه لــ(ليلى) جعله يتأجج عواطفا وشعرا يدل على قدرة الشاعر الفطرية حتى عندما نقرا دواوين الشاعر رشيد مجيد نحس أننا أمام شاعر كبير من شعراء العراق , بل من شعراء الوطن العربي, وانه ذو ثقافة راقية وكأنه قارئ ومتتبع للأدب إلا انه في الحقيقة شاعر فطري شانه شان الشعراء في العصر الجاهلي , فكانت لديه القدرة الفطرية على صياغة أشعاره ذات المعاني السامية , واللغة المؤثرة والإحساس المرهف .
يقول الشاعر رشيد مجيد : تركت المدرسة وأنا طالب في الصف الثاني المتوسط , ومن تلك الفترة ولحد هذه اللحظة أي منذ عشرين سنة لم اقرأ أي كتاب , بل الشارع العراقي هو مدرسة كبرى أنني ابن الشارع العراقي الحافل بالتجارب والتناقضات , والحياة كتاب مفتوح في رأس الشاعر يصقل مواهبه. ومن الغريب القول بان رشيد مجيد تأثر بالمعنى الدقيق بأحد من الشعراء العرب القدامى , والمعاصرين , لأنه لم يكن من القراء المتتبعين تتبعا حرفيا إلى الحد الذي يتأثر معه القارئ , إذ كان قارئا متواضعا يلهم ما يقع في يديه من آثار الأدب العربي , أحب التراث حبا جما , فقد نمت موهبته الشعرية في الكتابة بشكل فطري فكان أسير الشعر. ولعل فشل رشيد مجيد في مواصلة الدراسة يعود إلى حسه السياسي , ثم اقبل على دواوين الشعر العربي الحديث , وبشكل خاص قصائد شعراء المهجر , وجماعة ابولو. ومن الجدير بالذكر ان شاعرنا لم يكمل دراسته الثانوية بسبب مطاردة السلطة الملكية له آنذاك, والظروف الاقتصادية المحيطة بالشاعر فقد اضطر إلى ترك الدراسة , والاتجاه إلى ممارسة التصوير اليدوي , والخط , ثم ممارسة التصوير الفوتوغرافي , وعين موظفا في الإدارة المحلية لمدة سبعا وعشرين عاما , أحيل بعدها على التقاعد عاش رشيد مجيد عيشة المتشائمين من الحياة , وكثيرا ما تمنى الموت , والانتحار , ولكن العناية الإلهية حالت دون ذلك .
والذي يدور في الذهن هنا لماذا أحاط الشاعر نفسه بهذا التشاؤم ؟ أابسبب مرض الجدري الذي أصيب به فترك أثاره الواضحة على وجه الشاعر, أم بسبب فشله في حبه الأول (ليلى)؟ أم حسه السياسي المتدفق حين كان مطاردا من قبل السلطة الملكية , ويبدو لي ان شاعرنا أحب ( ليلى) حبا من طرف واحد , إذ انه اكتشف بعد مدة زمنية بان ليلى لا تحبه , بل تعطف عليه لأنه مصاب بمرض الجدري وهناك رأي جدير بالنظر وهو اطلاع شاعرنا على بعض دواوين العصر العباسي فقد قرأ لابن الرومي وأظنه وجد فيه تشاؤما وأخيرا اهتدى إلى دنيا الأدب , وراح ينظم الإشعار التي تجسد آلامه ولعل شاعرنا في بداية انطلاقه في الحياة أحب حبا رومانسيا , تتمثل فيه الحبيبة كأنها مخلوقة لها مزايا يندر ان تمتلكها امرأة على هذه الأرض , أنها ليلى , وربما يعود ذلك إلى بيئة الشاعر التي نشأ فيها إذ كانت بيئة محافظة تقوم على أساس التعارف , والمودة بين الآخرين , فكانت علاقته بالحبيبة علاقة سامية خالية من الصفة الجسدية , وإنما كانت مناجاة الروح. وسواء أكان هذا الحب قد تخيله الشاعر جريا وراء آثار شاعر حالم قراه , أم وقع فعلا فإننا وجدناه يناجي فتاته ( ليلى ) التي يقول فيها :
(( ليلاي)) أغنيتي الحزينة في فمي وترنمي
يا أفق أحلام يطوف وراء تلك الأنجم
يا ليل أوهام , وفجر مسرة وتبسم
يا سحر أمسية , وفي أفق بغير تجهم
شيئان يختلجان في قلبي الحزين المفعم
عيناك والصمت الذي يغرى ولم يتكلم
وها هو يصف لوعته , ويطلب من فاتنته أيقاظ الحب في دمه فنراه يقول :
أيقظي الحب في دمي وأعيدي
ذكريات الهوى المعهود
وابعثي الشعر فالمحبة لحن
وجوى ملهم يهدد عودي
وحنين يضمنا نحن والليل
وأطياف حبنا المنشود
فنغني وكل جارحة فينا
فؤاد يذوب في التغريد
وإذا كان رشيد مجيد قد هفا للسرور أيام صفاء جو ذلك الحب , وليلى ملهمة الشاعر التي ملكت قلبه , فقد شاءت الأقدار ان ترحل إلى ارض فلسطين المحتلة , يقول شاعرنا ان الناس في عام 1948 كانت تشتم الصهاينة لأنهم سلبوا فلسطين , وأنا شتمتهم لأتهم سلبوا مني ليلى الحبيبة ,وظل شاعرنا يكتوي بالأم الفراق , وكيف لا تدميه الخطوب , وكيف لا يتولاه الذهول , وهي التي بددت حزنه , ورسمت صفو أيامه واصفا حاله بعد رحليها إلى فلسطين :
فإذا هزني التذكر يا ( ليلى)
وأفضى الهوى بما يشجني
وتلوى الدم الحزين بأعماقي
يثير الأسى ويدمي شجوني
وتلفت حول ذاتي فلم الق
لذكراك غير ماض دفيني
شعر رشيد مجيد بالعقبة التي تقف في طريق حبه, تلك العقبة التي طالما عذبت روحه , وجعلت من حياته أسى ولوعة , أنها الحبيبات المنتشرة على وجه الشاعر , والتقاليد البغيضة التي لا تسمح له بحبها , والارتباط بها , تلك التقاليد التي فرقت البشر وجعلتهم شيعا وأحزابا , فنراه ينقم على هذه التقاليد بقوله :
الملايين قبلنا من ضحايا الحب
أودى بهم جنون الأنام
فتواوا عن الوجود
وملء الدهر من ذكرهم حديث دام
أي حب إذن يسود بني
الأرض وقد أغضوا على الإجرام
فالتقي التقي من صور
الباطل حقا ولج في الآثام
اتصف رشيد مجيد بصفات من أهمها : هدوء الطبع , وسرعة الانفعال , ورقة المشاعر , بالنفس الشعري الطويل , كما اتسم بنرجسية , وحب ذات واضحة من خلال شعره , فهو أحب لغته , وأجاد في صياغة بعض مفردات قصائده الشعرية , وكان لا يصغي لشعراء آخرين, ومن الجدير بالذكر ان خلفيته الثقافية اقتصرت على معلومات شعره دون روافد أخرى , وفي طفولته كان انطوائيا يتأمل الفرات طويلا , ويكتب المقاطع , والقصائد الشعرية المعبرة عن تجاربه , وعانى من ظلم واضطهاد وقسوة.. وبعد فترة من الزمن أصيب الشاعر رشيد مجيد بمرض الصمم , مما أدى به إلى تدهور حياته من جميع النواحي النفسية , والعاطفية , والاجتماعية , فنراه يقول :
معذرة ان لم أكن أسمعكم
من أغلقت يداه بابي
أغلقت سمعي
فلا اعيي سوى حشرجتي
ورنة الحزن
وما ينفث قلبي في فمي
تزحف عيناي إلى شفاهكم
ثم أصيب الشاعر بمرض القلب بسبب ( ليلى) التي أحبها بكل أحاسيسه فكأنه يراها في كل الناس صورة جميلة معبرة عن أسمى لحظات الحب الصادق المعبر , وها هو يحدثنا عن قلبه المتعب : أعاني من قلبي المتعب الذي يريد ان يخذلني ويرحل عني إلى دياجير الظلمات , وأنا لم أكمل مشواري الجميل الذي بدأ الآن , ولم اتمم أحلى مواعيدي الجميلة مع اعز الناس في مدينتي الوادعة الناصرية , والتي تعد مصدر ألهامي الشعري , وكنت عاشقا حقيقيا لها , ولأناسها الطيبين , ولجاراتها وأزقتها بعد ان نهلت من معين فراتها العذب الذي تحول فيما بعد إلى شعر وموسيقى , والشاعر رشيد مجيد يعاتب قلبه لانه خذله , ويريد ان يرحل عنه , ويتركه وحيدا في هذه الحياة التعيسة , فنراه يقول :
لم ختني يا قلب… ؟
واغتلت البقية من هوى عمري المضاع
ألقيت مرساتي
وأفرغت الحمولة
فوق أرصفة الضياع
هذا محط رحالك الأبدي
فلتطو الشراع
العابرون على طريقك قد مضوا
وغدا ستمضي أنت
لا اثر تركت ولا متاع
ويتسم الشاعر رشيد مجيد بأسلوب جميل رقيق امتاز بالابتكار , والإبداع , فقد نفض عن يده غبار القديم , وحمل بيده مشعل التجديد الفكري والأدبي في المدينة , فهو رقيق المعاني , رشيق الألفاظ , ولشعره جرس وموسيقى يطرب السامع ,وها هو يقول :
أيقظي الحب في دمي وأعيدي
ذكريات الهوى المعهود
وابعثي الشعر فالمحبة لحن
وجوى ملهم يهدهد عودي
وحنين يضعنا نحن والليل
وأطياف حبنا المنشود
فنغني وكل جارحة فينا
فؤاد يذوب في التغريد
ونبث الهوى صدى عبقريا
سل نجوى فؤادي المعهود
كم سلونا الحياة والكون
وسنان وأحلامنا مباهج العيد؟
رشيد مجيد من الشعراء الرواد , وكأنني أتلمسه جبهة توحي بلهيب عمر زاخر بالقلق , والحب , والتجربة إلا ان شاعرنا يرفض رفضا مطلقا ان يكون من الشعراء الرواد إذ يقول : أنني ارفض رفضا مطلقا مسالة صهري داخل بوتقة خاصة أو مسالة إخضاعي إلى مشيئة جيل , المهم ان أبقى ضمن القادرين حقيقة على طرح عواطف الشرائح الكبيرة من أبناء الأرض المسحوقين اجتماعيا , ومعالجتها بحس جماهيري يعتمد الوعي النضالي الجديد , إذ يعتمد الوعي والأصالة فتكون القصائد حينذاك نوعا من الوعي النضالي الجديد الذي يعتمد في كل الأزمنة والأوقات كأسلوب لإحداث التغيرات في حياة الفرد والمجموع.
——
* ناقد وقاص عراقي.