كالعادة… ما أن يصل المعهد حتى يتجهُ نحو النافذة المطلة على الشارع الرئيسي ليُراقب السيارات والمارة, وذات يومٍ وبينما هو على حالهِ ذاك… لمحها…. كانت حسناءً بكل مقاييس الحُسن وبكل ما تحملهُ الكلمةُ من معنى, لمحتهُ هي الأخرى ولم تكترث للأمر, إلا أن لنظرتها تلك وقع السهام…. وأصيب الفؤادُ بنظرةٍ طائشةٍ أوقعتهُ أسيرا……. وأخذ الأمر منحاً آخر… حيثُ لم يعد جلوسهُ أمام النافذة تضييعاً للوقت واستجلابا لوقت الانصراف وإنما لشوقٍ ما كان لهُ أن يكتمهُ أو يخفيه…..
واستمر الحال لمدة ستة أشهرٍ كل يومٍ فيها يطول عن الذي قبله حتى فاض بهِ الشوق وبلغ مبلغه… تلقى اتصالاً ذات صباح:-
– الوو.
– نعم؟!.
– صباحُ الخير .
– صباحُ الأنوار
– معهد الأقصى؟!.
– نعم معكم معهد الأقصى.
– ممكن سؤال؟!
– تفضلي.
– أرغبُ بالتسجيلِ لديكم.
– مرحباً بكِ.
– متى آتي؟!
– نحنُ متواجدون من التاسعة وحتى الواحدة ظهراً ومن الثالثة حتى التاسعة مساءً.. يومياً عدا الخميس والجمعة.
– إذاً سآتي في نفس الوقت الذي أمر بهِ.
– نعم؟!.
– لا شيء إلى اللقاء.
– مع السلامة!.
كان اتصالاً غريباً لكنهُ لم يكترث له, وعادَ إلى مكانهِ على النافذة مُسرعاً تأخذهُ أجنحة الشوق واللهفة حتى لا تمر دون أن يراها, و ما هي إلا لحظاتٍ حتى مرتْ… رمقتهُ بنظرةٍ حانيةٍ وابتسامةٍ هادئةٍ وساحرةٍ لم يستطع تفسيرها.
تلك أول مرةٍ تبتسم لهُ بها على رغم طول الفترة وملاحظتها لهُ بكل يومٍ تمر به من أمامهِ… شعرَ بشوقٍ يعتصِرُهُ…..إحساس أقرب ما يكونُ افتقاداً وأدركَ أنهُ قد وقعَ ببحرٍ لا يحسنُ العوم بهِ, لذا قررَ الانسحاب وترك مكانه شاغراً على تلك النافذة منذ تلك اللحظة.
مر أسبوعهُ طويلاً ومُمِلاً وكئيباً وهو يجافي تلك النافذة.
وبأحد الأيام وبينما هو على مكتبهِ مُنهمكٌ بالكتابة….
– صباح الخير.
– صباحُ النور (لم يرفع نظرهُ إلى المتحدث)
– مشغول؟!
رفعَ نظرهُ إليها وأجابَ:
– لا تفضـــ….ـ لم يستطع المتابعة فقد كانت المفاجأةُ فوق قدرتهُ على استيعابها ولم يتوقعها البتة..
ارتبكَ وتلكأ وعصفت بهِ الدُنيا في لحظه…
لاحظت ذلك فابتسمت ابتسامتها الساحرة…. حاول استعادة اتزانهُ أمامها إلا أن المفاجأة أكبرُ من أن يحتويها في لحظات…. وساد الصمتُ لُحيظاتٍ قطعتها بقولها:
– أنا التي اتصلتُ قبل أسبوع للتسجيل لديكم.
– أهلاً وسهلاً.
– طبعاً أنا أمر من أمام المعهد يومياً وأرى اللوحة التي بجانب النافذة (مبتسمة).
– تفضلي اجلسي.
– شكراً.
وساد الصمتُ لحظاتٍ قطعتهُ بقولها:-
– ألا تعتقد أننا التقينا من قبل؟!
– أظنُ ذلك!
– ألا تتذكر أين؟!
– على النافذة..(مبتسماً)
اِحمرَّ وجهُها واتسعت حدود ابتسامتها الممزوجة بالخجل…. حاولتْ إخفاء وجهها عنهُ فبادرها:
– اغفري جرأتي.
– بالعكس… أُفضِلُ الصراحةَ, واسمح لي أن أكلمك بنفس الصراحة.
– تفضلي .
– لا بد أنكَ تذكرُ أول لقاء!!.
– بالتأكيد .
– كان ذلك منذ ستة أشهر, أليس كذلك؟
– نعم .
– هل تسمح لي بسؤال؟
– تفضلي .
– بعد ذلك اللقاء تتالت اللقاءات .
– صحيح .
– هل كانت وليدةُ صدفة أم مقصودة؟!!
– ما هي؟
– بدأنا بالصراحة و ارجوا أن نكمل الحديث بنفس الصراحة .
– بمنتهى الصراحة ؟! , كانت مقصودة فعلاً .
– والسبب!!.
– هل كان ذلك يضايقكِ؟!
– لا بالعكس … أقصدُ كان الأمر ُ عادي ..
– على كل حال السبب هو نفس السبب الذي جاء بكِ الآن .
– ماذا تقصد ؟!
– اتفقنا على الصراحة … أليس كذلك ؟!
– نعم … لكن الصراحة ليستْ إجاباتٍ عائمة .
– إجابتي ليست عائمة … وبصراحة أكبر كان ذلك بسبب شوقٍ لم استطع تفسيرهُ أو مقاومتهُ .. وبعد أن بدأ سببهُ بالجلاء شعرتُ بالرهبة فتركتُ مكاني على النافذة .
– أنت باليمن مُنذُ متى ؟!
– منذُ ولدتُ …. لكن .. لمَ هذا السؤال ؟!!
– مستحيل !..
– ما هو المستحيل ؟!
– أسلوبكَ في التعامل يدلُ على أنك عشت في أمريكا أو أوربا طيلة حياتك !.
– لماذا ؟!
– صراحتك !.
– ما بها؟!
– بالعادةِ لا يتكلم الشاب مع الفتاة بهذه الصراحة .
– اتفقنا عليها من البداية .
– ليس لهذا الحد .
– لماذا ؟!
– عاداتنا … تقاليدنا ..
– أنا لم أتجاوز أيِ منها …. كلما في الأمر أنَّك سألتـِني وأنا أجبتـُكِ .
– ألم تلاحظ أنِّي لم أتشرف باسمكَ للآن !!.
– ربيع منصور .
– تشرفنا أستاذ ربيع .. أستأذنكَ الآن .
– لم أتشرف بالاسم !!
– شذى عبد السلام . والآن اسمح لي ….
– زادنا شرفاَ حضوركِ آنسة شذى . و سأنتظر تكرار الزيارة .
– جئتُ أسلم عليك فقط وأشكركَ على انتظاركَ لي بالنافذة
– كأنهُ الوداع آنسه شذى ؟!.
– هو ذلك فعلا … سأغادر صنعاء إلى عاصمة الضباب فجر الغد وقد لا أعود قبل العام أو العامين …..
– سأشتاقُ إليكِ شذى .. أقصد ستشتاقُ إليك النافذة !.
– و أنا أيضاً … أراك بخير أستاذ ربيع .
– أراكِ بخير آنسه شذى .