…..كانت الفتاة ذات الحادية عشر ربيعا جالسة القرفصاء تشاهد برنامجا على التلفاز حول القضية الفلسطينية حينما دخل والدها السيد عادل، رمقها بامتعاض كانت عيناها ماتزال شاخصتان في ذاك الركن وكأن دخول الوالد لم يحرك بها ساكنا ، اتجه صوب التلفاز وغير القناة بقناة أطفال وقال مخاطبا صغيرته : سلمى يا ابنتي هذه البرامج ليست للأطفال حبيبتي انظري الآن للشاشة أليس هذا كرتونك المفضل ؟ أجابته والدموع تغرق عينيها الحزينتين: لكن فلسطين قضيتنا جميعا ، إنها رمز عروبتنا أبتاه ، لم كل هذا الدمار !! لم يقتل الأبرياء.. أطفال…نساء…عجائز…لم…؟!! أليس من حقنا الحياة الكريمة أبتاه ؟!! أحس كما لو أنها أغمدت سيفا في صدره بأسئلتها اللامتناهية ، كان هو الآخر ينظر لتلك المجازر البشعة لكنه لم ينبس ببنت شفة أقفل التلفاز وظل صامتا يترقب ، كيف له أن يتراجع عن قرار ربما ارتآه لنفسه في يوم من الأيام ، فمنذ أن أصبح عميلا للموساد الإسرائيلي وضميره يؤنبه …
حتى زوجته ماريا تركته ، يومها قالت بنبرتها الحزينة والعبرات تخنقها : إذا لم تتراجع عن قرارك يا عادل فسيكون هذا آخر يوم تراني فيه ، هذا فراق بيني وبينك، جلس في الشرفة المطلة على الشارع العام يراقبها وهي تضع حقائبها في السيارة ببرودة دم بادية على محياه، كانت سلمى لاتزال في عامها الأول…
حتى أمه المسكينة الحاجة ” فاطمة” تركته ورحلت قالت له مساء ذاك اليوم عندما علمت بأمره: عادل يا ابن بطني هل فكرت جيدا بالأمر ؟ لم تتخلى عن أهلك ووطنك وتخدم أولئك الأوغاد؟! أجابها مخاطبا : هؤلاء ليسوا أوغادا أماه بفضلهم ستتغير حياتنا للأفضل سنترك هذه البؤرة المظلمة ” يقولها بعصبية وقد احمر وجهه واحتقنت وجنتاه وبرزت أوداجه” ، ولكن أستتخلى عن مبادئك ؟ أرضك وطنك…أتتخلى عن مسرى رسول الله ، إننا نحبك يا عادل لمن تترك ماريا وسلمى….وأنا…لمن ؟!!
وأنا أيضا أحبكم لكن لن أتراجع عن قراري…
رمقته بنظرتها الحانية قائلة : من الآن فصاعدا لم يعد المكان يسعنا فوجهتنا ليست وجهتك، وقبل أن تغادر وضعت على الطاولة مصحفا صغيرا وقالت له: هذا لكي لا تنسى أن لك ربا كريما…
ولكن إلى أين يا أم عادل ؟!!
إلى هناك، إلى هؤلاء الرابضين على الجبل، إلى هؤلاء القابضين على الجمر ، انسكبت دمعة حرى على خدها الأيسر أغلقت الباب وغصة في حلقها وغادرت تدعو الله في سرها…
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر ليلا ، الجو مكفهر ، والبرد يعوي مثل الذئاب الجائعة أما عادل فيحترق في قلق من غير نار، أمسك بالمصحف ضمه إلى صدره بدأ يذرف الدمع تلو الدمع وكأن سمفونية الفراق تعزف للتو ، هذه أول مرة تبكي فيها ياعادل !!
سمعت سلمى نحيبه ، طرقت الباب واستأذنت بالدخول ، ادخلي يا حبيبتي فالباب مفتوح هيا يا سلمى وكأنه يحتضنها لأول مرة منذ عشر سنوات…بدأ صراخه يعلو شيئا فشيئا ، كانت نبضات قلبه متسارعة حينما أخبرهم الطبيب أن حالته مستعصية ويجب نقله على وجه السرعة للمصحة.