وما كل وجه مضيء يدور
بعـتـمة لـيـل يُسـمّى قـمـر*
قُبيل غـروب الشـمس بقليل، يشتد الزُّحام فـي الزُّقـاق. تَوهُّـج شـمس الصيف ولهيبها داخل أسـوار مراكش يـبـدأ فـي الانخـفاض بشـكل تدريجي، ويسـمـح للنـاس بالهرب من عتمة الغـروب. الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة، إذا لـم يكن عنده ضيوف أو شُغل مهم داخل البـيت، لا بـد أن يخـرج. يتفسح قلـيلا، ويشـم الهـواء،ويـودع يوما آخر مــن حياته ثم يعود إلى البيت. أغلب جدران الأزقة والدروب والمنازل المبنيـة بالطين تنفث في المساء الصهد الذي ظلت تمتصه في النهار.
ضـوء المصابـيح الكهربائية ينـبعث خجــولا، وكأنــه يلتـحق متأخرا بحـركة الزقاق. نسـاء وفتــيات وأطفال ورجال مـن مختـلف الأعــمار، يسيرون فـي اتجاهات مختلفة.
الصيف موسـم الأعراس، فيه تعتـني الفتـيات والأرامل بمظهرهن الخارجي بشكل ملفت. وتتمنى كـــــل واحدة أن يطرق الخـطاب باب البـيت، وتخـتار فارس أحلامها قبل أن يـرحل عنها القطار. زينـب امرأة في الثلاثـينات توفي زوجـها منذ سنتين، ولم تُخلّف منه أطـفالا. ترتـدي جلبابا مــن ثوب صـيفي، وبلـــون أزرق مفـتوح ناعــم وجـذاب، وتحتـه لـبـاس خفـيف، يُناسب حرارة مراكـش، وصهد مدينـتها القـديمة. تستعمل على طريقة نـساء السبعينات مـن القـرن الماضي قُبّا يُخفي الشعر، وجـزءا مــن الرأس. تتفنّن في طي جنباته، ويمر فوق حاجبين رقيقـين، تحتهما رموش زاد الكحـــل مـــن سـوادها حتى بدت مـثل الخــناجر الحادة التي تعـودت عـلى الفتـك بأرواح القواد والملوك. فوق أرنبة الأنف ينزل نقاب أسـود شـفاف يغطي النصف الأسفل من الوجه، ويكـشف قلـيلا عــن ظـلال الشفـتين. بناء القُـــبّ فـوق الرأس، وطَيّ بعـض أطرافه يحـتاج إلى وقـت، ومهارة فائـقة، ويُعـبّر عـن ذوق رفيـع، يـزيد مـن أناقة المرأة، وجمال مظهرها الخارجي فـي ذلك الــوقت. وهــو أصعب مـئة مرة من طي العصابة فوق الرأس عند الرجال.
قبـل تخـلّص النـساء مـن النـقاب الأسـود، كـان الرجال شـديدي الخـوف مـن الوقوع في مصيدة الغواني اللواتي تساقطت أسنانهن.
سُعــــاد الفــتاة التي ستُرافق أو تُراقب زينـب هــي أخـتها الصغـرى وكاتمـة أسرارها، تكتفي بوضع منـديل تغطي به شعـرها، وتحرص علـى أن يتناسق من حيث اللون مـع الجـلباب. أما العـطـر فيتسرب بطيـئا مثـل الضـباب، ولا يفـوح بعبيره إلا إذا اقتربتَ أكثر مـن ذات الجلباب الذي يشبـه لـون السـماء. ويُسـمح لهـما بالخروج مرتين، أو ثلاثا في الأسبوع.
تتحــــول بعـــض الحــــفر إلى بِركات مـن الماء الآســن أمام دكاكين التجار والصناع. وقد يتـعمّد بعضـهم تســريب المـاء إليـها عـنـدما تنـشف. زيــــنب بقامتها الممشوقة، ترفع الجلباب قليلا، لتجنب الماء الوسخ، وكأنها تخشى أن يلطّخ أطراف ثيابها، فتكشف فتحة في الأسفل عن ساقـها. ويحدث معها مثـل ما حدث لبلقيس في الكتب المقدسة، عندما دخـلت صرح الـنبي سليـمان عليه السـلام. الرجال في هذه المدينة يُصوّبون عيونهم دائما إلى الأسفل. يتصيدون السيـقان والأحـذية والصنادل. امتـــلاء الأرساغ التـي تربـط عظام الـقدم السفلية مــع عـظم الكاحل أو الزغـب الخفـيــــف فـــي السـاق مقياسان جماليان لا تخطئهما أعيــن الكبار، ويقتضيان رفـع الرأس، وإطــلاق رسائل غزلية قصيرة وحادة، تطير سريعة مثل السهم نحو الهدف المنشود.
رفـع علال بصـره، ونظـر بدهـشة ناحـية زينب، وهــو يبتسم، وعندما التقت عيناهما قال بصوت رخيم لا يتجاوز مداه الطريدة:
ـ يا إلهي كيف تشرق الشمس بالليل!؟
الغزال المسـتــهدف إمـا أن يفـتح صدره للسـهم، ويُطـــلق ابــتسامة خفـيـــفة تعبيرا عن الرضا مثل زيـنب، وهذا ما يحـدث في الغالـب، أو يحـمر الوجـه غضـبا، وتـرسم صاحبته حركة امتعـاض، وتـشيـح بـه إلـى الجـهة الأخرى، إذا لم يعجبها السهم أو من أطلقه. وفي أحيان أخرى لا تهتم ولا تفـعل شيـــئا إذا كانت سيدة متزوجة داخلة سوق رأسها.
بعد صـلاة العشاء، تعود سعاد وزيـنب إلــى البـيت. تستبدلان ثياب الخـروج بثياب المنزل. يفـتحان الأنبوب، ويــمـلآن الدلوين بالـــماء، ويفرغانها على الزليج في قاع الدار، مسرح سهرة الليل. تُداعب زينب برودة الماء برجليها، وتسبح في بحر من الخيال. وجه الصياد الذي أطلق السهـم لا يـفارق عينيها. تتخيله فـي صورة فـارس يمتـطي صهـوة جـواد يطــيـر بجـــــناحـين، مـثـل صـورة الفـارس المعـلقة فـي صالـة الضيوف. يمـد يده إلى الشـمس. يحـاول انتـشال الزهـرة مـن دائرة النسيان، والذبـول البطيء. تمـسح يـدها بـــطـرف القميص. تتردد قليلا! يخفق القلب بخـوف غامض، يشبه نفـور الغزال عندما تتحسس، وتشم رائحة كائن غريب يقترب من النهر الذي تشرب منه.
—-
الهامش:
*أبو العتاهية
مراكش 19 / 07 / 2020