قررت فاطمة عدم زيارة الطبيب. تعب معها احميدة وكانت في كل مرة تماطله وترجئ ذلك إلى الأسبوع المقبل. الآن أصبحت في وسط شهرها الرابع. انتفاخ بطنها أصبح ظاهرا للعيان. جاءها الوحم عاديا وبسيطا. من حسن حظ احميدة لم تتشهّ لبن العصفور، أو لسان الطير، أو الكافيار الأصفر، أو غصنا من شجر شوكولاطة (الفوج هوك). كل ما في الامر انها لم تعد تحتمل طبخ الطعام، وإذا فعلت تشعر بالغثيان، وتفقد الشهية في تناوله.
عاد متأخرا من العمل. سلم عليها وذهب إلى المطبخ. مسح المائدة ثم خرج وعاد. فاجأها بوضع (بلاتو) تزينه علبة وجبة (الماكدولاند)، وكأس الكوكاكولا باللون الأسود والأبيض والأحمر. لم تصدق عينيها، قبّلته بشدة حتى كادت عينها تدمع من الفرح. تذكرت أيام زواجهما الأولى. كم حلمت من قبل بتناول هذه الوجبة رفقته في مطعم (الماكدونالد) الشهير، وفي كل مرة يقف عليها شبح سلسلة الموت (الخبز والماء والضوء والخضار والبقال والجزار وقسيمة الشقة )، ويحرمها من تذوقها. عندما تعود من الرياض في المساء تمر بجانب مطعم (الماكدو)، وترى الأطفال والمراهقين والعشاق والأسر الميسورة، تستمتع بجمالية هذا الطعام القادم من بلاد العم سام. والواقف أكثر من الجالس. ومع توالي الايام بدأ يستيقظ في داخلها حقد طبقي دفين تجاه هذا المطعم، وتجاه من يجلس فيه.
لا تعلم من اين أتى هذا الفرح الذي انتابها اليوم؟ هل هو الوحم أم حب احميدة أم رغبة دفينة في اللاوعي؟
وفّى احميدة بوعده رغم كثرة مشاغله هذه الأيام. كان يهيئ وجبات الغذاء في الليل، وهو يتبادل الحديث مع فاطمة، ويعمل بتوجيه منها عندما يسألها عن نوع التوابل التي تناسب هذا النوع من الخضر او ذاك. ويسأل عن صحتها كلما دخل إلى البيت. ويتلفن من العمل ليطمئن عليها، ويشدد على أن تأكل جيدا.
قالت له وهو في المطبخ بعد ان خفضت من صوت المذياع:
ـ سأزور والدتي، واسأل عن أحوال الجيران في الدرب، وأسلم على والديك.
رد عليها وهو يخرج إلى باب المطبخ، والبصل في يديه:
ـ أعتقد انه من الصواب أن أذهب معك، والدي سيؤنبني إذا تركتك تزورينهم وحدك وأنت حامل، ثم ماذا ستقول حماتي؟
غمزته وبعثت له بقبلة على الهواء، واتفقا على تأجيل هذه الزيارة إلى يوم الأحد.
قبل أسبوعين، زارت والدتها، وقضت معها الجزء الأطول من يوم الأحد. جست نبض الوضع بطريقة غير مباشرة، اعتادت على مساعدتها من حين لآخر حسب ظروفها المادية.
آخر مرة عاتبتها عن التأخر في إخبارها بأنها حامل، وذكرتها بتقاليد النساء قديما كيف تعودن على إخبار أمهاتن قبل أزواجهن بالحمل. قبلت رأسها، واتكأت على صدرها.
داعبت أناملُ أمها خصيلات شعرها. سرقتها غفوة نوم خفيف. أحست بأن الجنة أيضا في أحضان الأمهات.
تذهب أحيانا إلى الرياض. تعمل أسبوعا أو أسبوعين، ثم تذهب بعد ذلك عند ليلى. لم تعد تحتمل الجلوس بمفردها في البيت.
اليوم قررت أن تستريح قليلا. لم تستيقظ باكرا. رتبت الفراش، وطوت الأغطية، وبذلة نوم زوجها. تناولت الفطور بمفردها، وجلست في الصالون. أشعلت المذياع، وسرح بها الخيال بعيدا.
تذكرت عصابة (المشرملين)* بالقرب من باب العمارة، وكيف يختفون لساعات، ثم يعودون لاقتسام الغنائم. غنائم في الغالب من هواتف نقالة، ومحتويات حقائب نسائية. وفي الجانب الآخر الشباب أصحاب اللّحي، بزيهم الأفغاني يؤسسون لخلافتهم الإسلامية بطريقتهم الخاصة. عندما تمر بجانبهم امرأة لا يرفعون بصرهم عن الأرض، أو ينظرون بجَنْب كمن به حول. يتوعدون المارة من الفتيات والنساء بارتداء (اللباس الشرعي)، أو على الأقل لباسا (محتشما) كما يتصورونه، وإلا سينتقمون منهن في المرة القادمة.
كلهم كانوا أجنة في بطون أمهاتهم. ماذا حدث يا رب؟ أين تربوا؟ لماذا لفظتهم المدرسة على هذا الشكل؟ كيف وصل تعليمنا إلى هذا الحضيض، وأصبح مشتلا للتطرف بكل أصنافه من أقصى الانحراف الى أقصى التشدد في الدين ؟ من يخطط لذلك؟ ومن يستفيد منه؟
أسئلة كثيرة أصبحت هذه الايام تنغص عليها فرحتها بالضيف الجديد الذي يتحرك في بطنها، ويكبر بسرعة.
طريق مظلم يتراءى بين عينيها يقود إلى مثلث (التشرميل) والتطرف و(الحريك ـ ثلاث نقط فوق الكاف)*. رفعت يدها إلى أعلى، وقالت بصوت مسموع ظل حبيس جدران الصالة:
ألا يوجد يا الهي طريق آخر يضمن لأبنائنا وبناتنا نحن الفقراء الذين لا نملك ثمن مقعد في مدارس البعثات، أو المدارس الخاصة، حدا ادني من التربية والتعليم الجيد؟
المعجم :
ـ المشرملين: لقب أطلقه الناس على الشباب المنحرف.
ـ الحريك: بثلاث نقط فوق الكاف: الهجرة غير الشرعية.
مراكش 09 غشت 2018