
كنت أميل إلى الوحدة كثيرا، سواء داخل البيت أو خارجه. فبالبيت أنعزل عن باقي أفراد الأسرة إلا أوقات تناول الوجبات اليومية، وغالبا ما كنت أتناولها سريعا بمفردي لعدم ارتباطي حرفيا بمواعيد الأسرة. فأنا مثلا أحب تناول فطوري باكرا فيما يكونون نائمين بسبب سهرهم إلى ما بعد منتصف الليل، الوقت الذي أكون فيه قد تناولت عشائي ونمت بساعتين. وبالخارج أبتعد عن الأماكن المزدحمة وأسلك الطرق المنخفضة الحركة ولا أتردد على المقاهي إلا التي روادها عادة ما يكونون قليلين، ونادرا ما كنت أتردد على المقاهي أصلا.
مرة وكان الوقت قبل غروب الشمس بقليل أحببت التجول ولم تكن بنيتي وجهة معلومة. سرت بخطوات متثاقلة وكأنني ألتمس من الوقت أن يسرع، الشارع كان طويلا فسيحا آخذا في الارتفاع النسبي حيث خلفي قد تمددت عقبة تبدي السماء والهضاب القصية. لما التفتت هالني انعكاس أشعة الشمس، وسحرني لونها البرتقالي الممزوج بالأصفر الناعم فتاهت أفكاري وحسبتها دفنت في أَقْبَاء الوقت الذي شعرت به قد توقف. تسمرت هادئا وقد استدرت وقابلت ذاك المنظر الساحر وكأني لأول مرة ترى عيني منظرا لغروب الشمس. تقدمت مغيرا اتجاهي الذي سلكت أول الأمر، ربما جذبني تيار مغناطيسي إلى اللوحة التي رسمت أمامي.
تخيلت أني أشارك الطيور في السماء رقصتها على إيقاع سيمفونية ساحرة. تحرك نسيم خفيف لطيف لعب بأعصابي فارتخت وسرعان ما تلاشت شيئا فشيئا تلك الألوان الرائعة لتغيب الشمس تاركة مكانها لبدر يبدد قتامة المكان الذي وصلت إليه تاركا خلفي الشارع والحي مقتحما غابة على مشارف القرية. سحر آخر عطل تفكيري فنسيت الماضي والحاضر ولم تحضرني خاطرة عن المستقبل. أصوات الحشائش تحت خطواتي كانت كأنها تحدثني عن سر الوجود، واللون الفضي المنعكس على أشجار الصنوبر الضخمة بدد مخاوفي من شيء مجهول قد يكون متربصا بي في هذا المكان الخالي. تقدمت في السير كمجنون لا يعلم من أين أو إلى أين يسير. خلف الأشجار الكثيفة كانت تختبئ أسرار عديدة ولأني قد أسرني الأمان هناك فقد قل حذري حتى تعثرت بجدع شجرة قطعت من قبل لم أنتبه إليه ووقعت على صخرة حيث ارتطمت رأسي بها ففقدت الوعي. عندما أفقت، بدا كل شيء أقل وضوحا داخل كهف يفتقر للإنارة الكافية حتى تتضح محتوياته. بعد مدة قليلة لفت انتباهي قدوم نور من خارج الكهف وقد كنت مستلقيا على فراش من جلد حيوانات وجلود أخرى كانت تدثرني، وبرها الناعم كان يمدني بالدفء والأمان. عندما اقترب مني النور القادم ميزت الشخص الذي كان يحمل المشعل مرتديا لباسا أبيض. كانت سيدة في الثلاثين، تضع وشاحا أخضر على رأسها، مبتسمة سألتني: “هل أنت بخير الآن؟” لم أدر كيف تظاهرت بالإعياء عندما وضعت يدي على جرح ناصيتي، وأنا أجيب: “لا … رأسي تؤلمني… أين أنا؟” ردت برقة: “أنت بأمان لا تقلق … ستكون بخير…” استأذنت قبل أن تتركني وتنصرف لتعود بعد دقائق معدودة من داخل الكهف وقد حملت طبقا به فواكه برية: قليل من القَطْلَب أو كما يسمى ‘قاتل أبيه’، قليل من البندق، قليل من توت العُليق وقليل من عنب بري وحبات من كمثرى شوكية صفراء لم تر مثلها عيني من قبل، وقدح من لبن تكهنت أنه لظبية. ناولتني الطبق وانزوت في استحياء. ولأني كنت أموت جوعا هجمت على الطبق ولم أبق عليه حبة واحدة. ضحكت من طريقة أكلي مما جعلني أستغل الفرصة لأسألها عمن هي؟ وكيف تعيش في هذا الكهف الغريب؟ غير أن سؤالي كان عن نفسي: ” كيف جئت إلى هنا؟ من أنا؟” أخبرتني أنها بعدما أخرجت ظبيتيها للرعي بعد منتصف الليل وجدتني ملقى على الأرض تحرسني سناجيبها البيضاء فحملتني إلى الكهف من أجل إسعافي.
شعرت أكثر بالرفاهية لما قالت: “أنت الآن في مأمن. فلا تقلق، ستعود لك ذاكرتك وتكون بخير”. هزني فضول وسألت: “ألا تخبريني من أنت؟”. لاحظت ساعتها أن النور يزداد بريقا وأن كل ما حولي يتحول من كهف مغبر وضعت به هنا وهناك جلود حيوانات كأفرشة وبسط وبعض قلال وأقداح إلى غرفة في قصر بهيج يطل على بحيرة شفافة قد حفتها بساتين ورد وشجيرات بألف لون، الأثاث الحريري والأرائك الذهبية والفضية متشكلة في بهاء منقطع النظير. فجاءني صوت موسيقي كرد عن سؤالي:
” أنا ملكة من الجن أبدت جميع شعبي لانتشار خيانتهم لي وأنا الآن وحيدة كما أنت وحيد، فانظر ماذا ترى”. لقد أسرتني الصدفة اللذيذة كثيرًا وبعد هذا الموقف الذي لا يسمع به إلا في الأساطير تمسكت بالامتثال والطاعة.
أنا الآن لما تعود ذاكرتي نهارا أعيش منعزلا، وبالليل أرعى ظبيتين، تلعب حولي سناجب بيضاء ومن فروع أشجار الصفصاف تتدلى فوانيس فضية تشع منها أنوار بألوان ساحرة، أمسي متكئا على جذوعها حتى تشبع الظبيتان وتتعب السناجب فأعود إلى كهفي وقد ملأته العطور والأطايب والأنس الخرافي وأطباق مختلفة مما لذ وطاب وعلى بلكونة تطل على بحيرة آسرة، أتمتع بصنوف الطرب والحكايات حتى لأني لا أتمنى أن تعود لي ذاكرة.
فاس، في: 12/11/2022