أريكا .. عامّة
أريكا .. عامّة
تتراقصُ ضحكاتهنَّ المتناغمة، تتهادى صيحاتهنَّ مستقرّة في أذني، فيمتزج داخلي اشتياقٌ إلى أيّام خلت، وحنقٌ على أيّام قادمة تنتظر ابنتي “سُلوان”.
عندما تسمعُ البنات يصِحن “أريكا” وهنّ يلعبن “الحجلة” فورا تنتقل عيناها إلى قدمها الضَّامرة في أغلالها، فتتذكّر أنها لن تتمكن من الصياح بهذه الكلمة مثلهنَّ، أذهبُ بها إلى النّافذة المطلّة على الوسعاية أمام بيتنا القروي الدَّافئ، تراقب البنات بِنَهم، يتقاذفن فوق مربعات ستة، رسمنها على الأرض بالطَّباشير، ترمي إحداهن الحجر على المربع الأول، ثم تقفز على قدم واحدة بينما تبقى الأخرى مرفوعة عن الأرض، وتقوم بدفع الحجر بقدمها إلى الأمام في المربعات الأخرى بالترتيب، وتستمر في دفع الحجر في كل المربعات حتى إذا انتهت، تبدأ الهتاف(أريكا) وهي تقفز فوق المربعات مغمضة عينيها، فيجبنها البنات (عامّة).
سرعان ما تطلب مني صغيرتي العودة حيث كنا، نقرأ القصص، نرسم، ونكتب الحروف والأرقام.
أشعرُ بغصَّتها في حلقي، تُرى كيف ستكون ردة فعلك يا ابنتي، حين تعلمين أنني من صممت على مجيئك إلى الدنيا بإعاقتك هذه؟ هل ستغفرين لأمكِ وتقدّرين تمسّكَها بكِ، أم ستسخطين لأنها أتت بكِ إلى عالمٍ لا يرحم؟
“لا بدَّ من الإجهاض يا سمر، لا تعاندي، الطب قال كلمته!”
نهشني التردد والجزع، أجلّتُ الأمر يوما، يومين، أسبوعا، وشهرا، حتى تسرّب الوقت، وأصبح في الإجهاض خطر على حياتي.
“ركبتِ دماغك، ونفذتِ رغبتك!”
غضب أبوكِ فسافر، عاد يوم ولادتك، لكن قلبه لم يعد، من يومها ألِفَت روحه السفر، أيام غيابه تتخطَّى أيام إقامته بيننا، يعاتبني قلبه مع كل عثرة تعيق سير علاجك، سنوات ست، بعدد مربعات “الحجلة” مرّت من عمر ابنتي، اجتزناها معا، لكنَّها أبدًا لم تكن بسهولة اجتياز مربعات الحجلة، كانت مُرّةً بمذاق الحنظل، حُلوة بنكهة ضحكة ابنتي ونقاء سريرتها، سنوات ست تعلمت فيها ما لم أتعلمه فيما مضى من عمرى.
– غدا موعد الطَّبيب..!
-الفلوس عندك في الدرج، خذي أختك معك، سأتأخّر في المكتب.
“ومتى لم تتأخَّر؟”
حتى وإن كان متفرّغا، سيتأخر قاصدا، لم يكلّف نفسه حتى اليوم مشقة مشوار الطبيب سوى مرة واحدة، كان فيها مضطرا، مرة واحدة خلال سنوات ست لم تكل فيها قدمي أو تمل طريق الطبيب، مرة واحدة اصطحبني وابنته التي لم يحملها بين يديه مذ ولادتها سوى مرتين، كلاهما كانتا خفية، الأولى رأيته فيها بعيني، والثانية أخبرتني بها سُلوان ..
“يديّ بابا حانيتين جدا يا ماما، كقلوب ملائكة الرحمة في قصصك، فتحتُ عيني اليوم على قُبلةٍ منه وهو يحملني”
حنون أبوكِ يا ابنتي، وإلا ما كانت أمّكِ لتحبّه وتقرن حياتها بأنفاسه، لكن متى بقيت القلوب على حالها؟!
“هل أقول لها إن قلب أبيها تعلّم القسوة مذ أتتْ إلى عالمه ..!”
جاء موعد الطّبيب هذه المرّة بعد سفر أختي إلى جامعتها، لم يجد زوجي بدًّا من مرافقتنا إلى الأقصر، حيث عيادة الطبيب المتابع لحالة ابنته، والذي يأتي من القاهرة مرة واحدة كل شهر.
في موقف السّيارات، دقَّت السّادسة والنّصف صباحًا، الزّحام لم يشتد بعد، حمدتُ الله واستبشرتُ خيرًا، ركبنا سيارة الأجرة المتَّجهة إلى الأقصر، دقائق واكتمل عدد الرّكاب، فانطلق السَّائق يقطع الطّريق التّرابي وهو يُدندِن (صباح الخير يا اللي معانا، الكروان غنّى وصحّانا) رفقة صوت الست في الراديو.
على الكرسي المجاور لنا جلست امرأة أربعينية مع ابنتها التي تكبر ابنتي قليلا، أو ربّما في مثل سنّها، نظرت إلينا المرأة نظرة تضج شفقة، قبل أن تقول وهي تمصص شفتيها:
-الله يعينكم على ما بلاكم..!
امتقع وجه عماد، وأشاح بوجهه بعيدا حتى لا ألحظ تغيّره، فقلت للمرأة:
– بل هي سعادتي وسعادة أبيها.
نظر عماد إليّ نظرة أعرفها جيدا، فسكت؛ حتى لا أثير غضبه أكثر، لكن سُلوان نظرت إلى الصغيرة من فوق الكرسي المتحرك وقالت:
– هل تحبّين الرسم؟
ثم نظرت إليّ، وهي تقول:
– ماما ، الكراسة معك في الحقيبة؟ دعيها ترى رسوماتي..
انكمشت في حضن أمها، وهي تنظر إلى ابنتي بعينٍ خائفة.
– ماما، لماذا تنظر إليّ هكذا؟ هي لم تتفرج على رسوماتي!
– لا عليك حبيبتي، ليس كل الناس يحبُّون الرسم.
تغيّر لونها، نظرت إلى والدها، ثم أمسكت كفّه بكفِّها الصغير وقالت:
– بابا، أنت أيضا لم تشاهد رسوماتي من قبل، هل أنت أيضا لا تحب الرّسم؟
انهمرت دموعي كما لم تنهمر من قبل، قبَّلت يد ابنتي، بينما راح عماد يحتضن كفها بشوقٍ كمن عاد لتوِّه من سفر بعيد.
مرّ اليوم بفضل الله وكرمه، في طريق عودتنا، رأينا البنات يلعبن الحجلة أمام البيت، رغم نثيث المطر المتساقط، نظرت سُلوان إليهن بلهفة، أشرت إلى أبيها فتوقّف عن دفع كرسيّها المتحرك، رأى لهفتها ونظراتها فحملها بين يديه، وراح يقفز بها وسط البنات بعد أن طلب منهن أن تشاركهن سلوان اللعب، أخذ عماد يقفز ضاحكا فوق المربعات المرسومة على الأرض، وهو يصيح:
– أريكا
فتجيبه البنات بمرح:
– عامّة..
غمز لسلوان، فبدأت تصيح بصوتها الندي والفرحة تقطر منه:
– أريكا
فتجيبها البنات:
– عامّة..!
أريكا .. عامة!