حل عيد الحب الذي طالما انتظرته لأهدي زوجتي تهنئة ملؤها رحيق فؤادي. تهنئة تنفض غبار البعد، وتجدد أواصر الحب. جلست والاستعجال يهزني لأعبر لها عن آيات الوفاء والإخلاص. أمسكت قلمي لأفرغ مكنونات صدري آملا أن تشفي حروفه شوقي ولهفتي إلى حروف جمالها، صورتها، عيونها…رائحة عطرها، شموخها…
وضعت القلم على الورقة لأخط لها كلمات ليست كالكلمات. كلمات منتزعة من حدائق وجداني. كلمات فريدة ليست كتلك التي أتحفت بها سمعها في الأعياد السابقة. كلمات تسجل في قاموس فؤادها بمداد الفخر والانشراح. كلمات تطرب أذنها، وتغازل محاسنها، وتراقص مشاعرها، وتهز قلبها، وتحرك حروف الأنوثة فيها، وتمسح غبار الخمول عن شوقها، وتحرك جداول الحنين النائمة فيها لتقرأ من جديد صفحات ماضينا المجيد. كلمات تجعل روحها تسافر في عنان السماوات لتعانق روحي، فتجمع سيف العشق بغمده. كلمات تجعلها تحس، رغم بعدي، إني قريب منها.
فمهما فرقتنا المسافات، فتجمعنا الآهات، وتوحد تفكيرنا الذكريات. نشترك الأحلام، الحنين، الآمال، الجراح… لكني وجدت أن قلمي عاجز عن إراقة المداد. خلته نضب. غيرت القلم، وغيرته مرة أخرى، لكن سيلانه بقي عصيا.
عجزت الكلمات المنتقاة عن الانسلال من فتحة فكري، فحاولت أن أكتب باللسان المعتاد، لكن التبكم كان سيد الموقف. تسيدني وسد فمي وأبطل لساني، حركت لساني فتحرك بلا حروف، بلا روح، بلا معنى… ضاعت مفرداته في سراديب الظلام، وحبس صوته في معتقل الصمت. جعله البعد أخرصا، أنساه لغة الحب، لغة الغزل. نال الكتمان منه شر منال.
أعياني البحث في كل أركان قلبي عن عبارات تائهة، عن كلمات، عن حروف، لكن دون جدوى. قلت إن للحب يوم وليس ساعة، وأرجأت الكتاب إلى منتصف النهار.
في منتصف اليوم، وأنا في الحديقة، بعدما جمعت باقة ورد ملون غلبت عليها الورود الحمراء علها تجبذ كلمات أعماقي وتحطها أمامي أنتقي منها مايناسب اللحظة والمقام. وضعت الباقة على الطاولة قبالتي، وجلست كأنني أنتظر قدومها لأهديها لها.
جلست تحت شمس دافئة عساها تشتعل حرارة لساني، فتتدفق كلماتي. لكن الكلمات اندفعت بعيدا عنه. أخذت أرتشف قهوتي رشفة بعد أخرى كأنها قبلات أتوسلها أن تشعل فتيل مشاعري، وتحرر لسانا جعله قر البعد جامدا، وقتل بنات شفاهه فبقي مصدوما. تأجل الكتاب مرة أخرى.
وفي المساء، قعدت في البهو بعدما أشعلت شمعة لتبدد ظلمة مشاعري، وتنير طريق حروفي، وتثير شاعريتي، لكن الإلهام تأخر، فعلمت بأن العيد سيمر دون كتاب، وسيترك وصيته للقادم. لكني قررت أن أضاعف الجهد وأغوص في دواخلي لاصطياد فرائس تشفي غليلي وتؤنس وحشة زوجتي.
بعد ساعة عسر، تقاطرت هذه الكلمات: “إلى القاطنة بمملكة حبي والقاعدة على عرش مملكتي، إلى مليكتي”، ثم صفت سماء الإلهام من غيوم الكلام، وبقيت أستغيث غارقا في مكاني أحمل قلبي بين يدي أعصره تارة، وأستجديه أخرى دون كلام يذكر.
صرت أفكر فيها، أتخيلها… فيكبر توجسي، ويزيد تدفق قلقي لكوني أعلم أنها على أريكتها تنتظر كتابي كأنه النبراس الذي سيطرد وحشة وحدتها، والحبل الذي سيوطد العهد الذي بيننا، والضيف الذي سيملأ غرفة انتظارها ومكاني الشاغر في قلبها.
حرر الانقباض قلمي، ففاض لساني بكلمات بسيطة المبنى عظيمة المعنى:
” إن خيالك يا توأم روحي لا يفارق مخيالي، أجدته أينما وليت وجهي. يحاصرني، يمسك بتلابيب ذهني، فيسل مني نفسي. وكلما فقدتها، أبحث عنها أجدها هائمة فيك… مرة يبلسم طيفك جراحي ومرات يحفر ندوبا في مشاعري. فأعلق الذكريات على مشجب ذهني، وأفتش في جيوبها عن مفاتيح تطفئ لهيب شوقي إليك.
أبعث إليك إكليل ورد على جناحي حرفي كلمة “حب” تضعينه على صدرك الذي ينبض عشقا. وأبعث إليك باقة ورد كتبت على كل ورقة من أوراقها دام الحب شمسا بين عينيك، ودامت الابتسامة رسوله.
كل عام وويدان هيامي تتدفق في بحر حبك. كل عام وطيور ودي على أغصان أشجارك. وكل عام ونيران العشق متقدة، ونسائم الهوى تهب، وجدائل المودة تربط قلبينا. كل سنة ومد حنانك يبلل شطآني. كل عام وحبنا، ودنا، عشقنا، حناننا بخير. كل سنة ومملكتنا ومماليك العشاق بألف خير.
وفي الأخير، أزف إليك هدية العيد، نبأ تنتظرينه منذ حين إنه قرب انتهاء مهمتي من منفاي المهني، وعودتي إلى حضنك الدافئ. في العيد المقبل سأكتب كلمات مباركتي بين يديك بشفاهي على جدار فؤادك. وسأكتبها كل يوم جاعلا من كل الأيام أعياد حب”.