من البوح ما يفرح، ما به الروح تنشرح و الخواطر تتفتح كريحان نفث رحيقه في السماء بعدما لفحه حر الفقد أو الوجع. فبوحوا تصحوا….كان ذلك نشيدا داخليا أملته الثالثة صباحا. همست به قائلة: عليك بالذكريات، فهي خُلْوةٌ حُلوة مع الخيال. يكون الشخص خلالها خليلا مخلصا لنفسه، جوالا في جنانها يتمخثر بخيلاء. محاكاة فاشلة لكنها جديرة بالمحاولة للحظة اتخذ الله إبراهيم خليلا. أو العكس. لعله علمنا درسا آخر مع التوحيد هو أن أجمل مشاعر التعالق تتحقق صحبة ما هو أكبر منا: أن نكون بشرا نعاشر الإلاهي. و ما الخيال إلا الرباني فينا نحن الفانين حين نهرب الى السنوات من السنوات فلا يبقى إلا أن نلوذ بالذكريات وحدها. نذوذ بها في مواجهة أيامنا الهاربة بلا رجعة.
بها وحدها، ندرك مفارقات الحياة العديدة بقدر ما مواقفها عنيدة الاستيعاب على عقولنا المحدودة كأن تجتاحك ذكرى قُبلة فريدة ستُنقشُ على لوح روحك كوشم صلصالي. لكنها ذكرى لا تأتي بريئة عزلاء من معمعات القلق. فلقد تلقيْتَها مرافقة لصفعات كانت اليد فيها أكبر من خدك، أخشن منه. فتشابه عليك الأمر أ تلعنُ الصفعة؟ أم تنتعش بذكرى القبلة المالحة نكهتها من أثر الدمع. وقتها تصير فريسة لحيرة تغذو مسكنك، سِكينك الجارح الذي ينغص سكينتك إلى أن يقضي الوقت أمرا كان مفعولا، بما أننا لسنا إلا دقائق معلقة على الجدار.
استحضرت الواقعة مع غبار الزمن الغابر و أنا أطبع قبلتي الأولى على الخذ الرخو لابني. المولود حديثا. عقِبها، رجع بي الزمن لذلك الفجر المشهود من العمر سنة 2001. حين كان أسامة بن لادن و رفاقه يضعون آخر اللمسات لضرب أمريكا بأكبر عمل إرهابي. سنتها سمى كل من خالي و عمي من ابنيهما باسم أسامة تَيمُنا و افتخارا بصاحبنا الذي قتله الأمريكان مؤخرا و ألقوا بجثته في البحر. كرروا محاكين بذلك سيناريو غرق فرعون. مع فارق الفاعل. في نفس الفترة حمل إلينا البحر خبر غرق ابن عمي أسامة في قوارب الهجرة المكتوبة في مقدماتها “هيا إلى الجنان الأوربية” في مؤخرتها مدون بالطباشير الأسود “هلم بنا إلى موت جاهز بنكهة الملح.
يومها كنت أنا ابن الثانية عشر. صبيا صغيرا حقل تجارب لنوع جديد من الغرق. أُكابدُ فيه أضرارا نفسية ثقيلة الأثر مكابرا في سبيل الحفاظ على رجولة مبكرة جاءت قبل ميعادها. فقد توجب علي سياقة عربة رباعية الدفع يجرها حصان نحيل لدرجة التيبس. أضلاعه ظاهرة بالإمكان عدها. كان يعاني من أزمة مجاعة و ككل المخلوقات الجائعة فقد احتج متمردا على الوضع. أصبح عصي المراس، يتيه شرقا حين توجهه غربا. يصهل حين يتعب. يركض أحيانا بدون توقف. و يركل الذباب بحافره بدل الهش عليها بذيله. بذلك يتراءى للناظرين أشبه ببهلوان أتلف إتقانه لحركاته. مع ذلك بقي كفؤا في تأدية مهامِ مصيرية بإعالة عائلة من ست أفراد، متوسطي الحجم. عبر الإتجاه مبكرا إلى الأسواق و نقل الناس مع البضائع إلى نواحيه، ما جعل لقمة عيشنا متوقفة على حوافره الأربعة.
في إحدى المرات. تحت قيادتي، أبى هذا الحيوان غير الشهم إلا التحالف مع الظلام ليزيحنا نحو منعرجات ذات مطبات شاهقة عانينا فيها من اهتزازات بفعل السرعة و ارتخاء تحكمي حتى كدنا ننقلب انحدارا إلى وادي سحيق مجاور للطريق. فانبرى أبي الجالس بجانبي – بسبب فقدانه سيجارته- لإشباع الحصان الأصم ضربا، خبطا عشوائيا، هستيريا بهراوة ثقيلة كان يضعها دوما تحت الكرسي تحسبا للطوارئ البشرية. بعدها جاء دوري في تلقي نفس الجزاء بنفس الكيفية تماما. فأبي إنسان عادل. مع فارق إعطاء الأولوية للحصان حين بدأ به. بل فضله علي حينما تحاشى المساس بوجهه على العكس مني. انهالتْ علي الصفعات تِباعا جعلتني أستفيق من نوم غير تام. إنصاف مستحق لتصنيف تراتبية الموجودات العاقلة و غير العاقلة صاغه أبي بعدها ببلاغة قاتلة قائلا:
“حصان برجلين يسوق حصانا بأربع” نطقها، أرخاها من فمه مع دخان سيجارته الرمادي كأنه جندي نازي من فرقة إعدام تواجه ولدا بريئا به برد طافح رجلاه تنتعلان التراب و في يديه وردة في ذهنه اعتقاد أن البندقية نوع آخر من الزهور.
أطلق والدي جملته الفظة تلك فقنص بها دبدبات قلبي الهش و هو متكوم داخل معطفه الأسود القاتم. إلى اليوم ما زلت أكره المعاطف الطويلة السوداء. مع أصحابها على حد سواء.
البسُوا الأبيض رعاكم الله. لعلكم تتمرنون على أناقتكم و أنتم بزي الكفن….
نعم تلقيت صفعا و رفسا و سبابا في الرابعة فجرا. و ما أدراك أن تبكي. و يسيل مخاط أنفك متدفقا دون قدرة إخراج يديك من جيبك لمسح ذاك المخاط و الدموع بسبب البرد. أن تعاين عينيك دموعا متهاوية من عينيك نفسها مع صياح الديك و هو يدشن بنشيده يوما مشهودا، فيتحول نعيقه – بسبب ترددات صدى الصفعة- إلى نحيب حاد للعجائز في مآتم العزاء. للمشاعر و الانفعالات الغالية أوقاتها المقدسة الواجب ألا تحيد عنها. من غير اللائق ذرف الدمع و الناس داخلة إلى صلاة الفجر، لمحو ذنوبهم، مباهين الليل ببياض جلابيبهم. و السكارى خارجون من الحانات لنحت ذنوب أخرى، لنسيان ديونهم أو نبذ أدرانهم الملتصقة بتلابيبهم.
يا له من توازن فذ. يحفظ للمؤذن و ساقي الخمر دورهما. توازن حُرمتُ حقي في استكمال تأمله. كنتُ مشغولا بشيء آخر. أستجدي الشهقات المتقطعة للتوقف بلا جدوى. أستنجد بكمي المتسخ لإزالة آثار العدوان من الأنف و العين. راجيا ارتجافي التوقف. ارتجاف البرد وافق و رضخ. أما رجفة الخوف من القادم فقد رفضت. جعلت جسمي المطوي يهتز كممسوس. أرقصُ رقصة ركادة وجدية. دون بندقية طبعا و إلا كنتُ فجرت دماغي في ذلك الفجر هربا من فجور زمن أخر طلوع النهار نكاية في ولد صغير… كان اليوم سيشهد عملين إرهابيين. أو تراهما لم يحدثا؟.