* رواية رقصة السلو تدور حواريا بين جنرالات ورجال أعمال وتجار عرب وغير عرب
* هناك كاتب الرأي وآخر للجوائز ،وكاتب آخر يعرف من أين تؤكل الكتف
كاتب جزائرى من ولاية الجلفة غاص بعمق في الأدب الثوري واثمر الغوص برواية رقصة السلو وأظهر وعيه بما يدور حوله كمواطن في كتاب الحراك،حلم بإصلاح ذات البين بين مثقفي ولايته عندما قبل منصب رئيس إتحاد الكتاب فرع ولاية الجلفة ،قال أن الإتحاد في وقت الحزب الواحد كان يحقق الهدف من وجوده وضاع في أيامنا هذه في إحتفاليات (الزردة )ولم يؤدي دوره الحقيقي في التعريف بالكاتب الجزائرى .
يعد المبدع عبد الباقي قربوعة من أصحاب الأقلام التي تتلون بألوان الأجناس الأدبية ونال تكريمات و نجده يرفض التكتل الثقافي ويحترم مقام الأديب، بدأ شاعرا فكتب في عدة مجلّات وجرائد وطنية وعربية، لكن تجربته في الشعر لم تدم طويلا لينتقل إلى عالم القصة القصيرة والرواية، اهتم أيضا بمجال النقد.
-ماهي أسباب خصومة ضيفنا مع الإتحاد العام للكتاب الجزائريين ؟
-وكيف يفسر نبؤة الكاتب في كتابه الحراك ؟
وكيف حدثت القطيعة بين السينما والرواية الجزائرية؟ الإجابات نجدها في هذا الحوار
بصرياثا:نرحب بكم ضيفا على صفحتنا الثقافية لمجلة بصريثا الأدبية العراقية على أهازيج رقصة السلو ،ماذا تناولتم في هذا الإصدار؟
– عبد الباقي قربوعه:- أهلا وسهلا بكم وبمجلة بصرياثا ، سعيد جدّا بالتفاتتكم الجميلة نحوي، وممنون كثيرا بترحيبكم الوهّاج.
– رواية السلو ضحكة تاريخية ساخرة حول فكرة الاحتلال الفرنسي للشعب الجزائري، فتصور الرواية المشهد كما لو أن الجيش الفرنسي من حكام وقيادات وجنرالات، هؤلاء كلهم جاؤوا ليخوضوا غمار خيانات أخلاقية مختلفة ضد بعضهم على أرض لا تصلح لمثل هذا الرقص، السلو رقصة هيجت الثوار في الجهة الأخرى وجعلتهم يرقصون بالبنادق والعصي، لأن هذه الرقصة الأجنبية أرادت أن تزيح الرقصة العربية المفعمة بالهمّة والشجاعة.
تعرض الرواية أيضا شطحات سياسية تميّز بها أولئك الذين تناولوا ملف الاستقلال في تسيير أحادي للبلاد، هذه الرقصة الخاطئة خلّفت بعد الاستقلال ثلاث فئات اجتماعية: فئة غنية بسبب عائدات ومنافع الْعَمالة الفرنسية، وفئة غنية بسبب عائدات البطولة الجهادية وأكثرها زائف، انزلاق أثّر سلبا وأساء إلى هذه المنظومة التاريخية الحساسة، لدرجة أن الشعب انصرف عن الخطابات التي تُمجّد الثورة وتشيد بها، خصوصا في نظر الشباب الذين وصلوا إلى مستويات متقدمة من العلم والثقافة. أما الفئة الأكثر مأساوية فهي فئة فقيرة لم تكن من أولئك ولا من هؤلاء، حيث بدأ هذا الصراع الطبقي الاجتماعي يتضخّم على ثلاث مناحي، التشبث بالحكم من جهة والعنف من الجهة الثانية.
تتضمن رقصة السلو شعبا يتخبّط في شبكة منظومات اجتماعية عشوائية فاسدة، فظل لوقت طويل يرقص بعيدا عن آلة الإنتاج الفكري والثقافي والسياسي والاقتصادي، أحيانا طواعية وأحيانا أخرى بسبب إرادة سياسية داخلية وخارجية. تتحدث الرواية عن الاحتلال البارد، والاختراق اللذيذ إلذى مارسه اليهود في الجزائر، وأقصد المستوطنين من عمّرت بهم فرنسا الأراضي الجزائرية على أنهم فرنسيون خوفا من أن يزاحموا الفرنسيين الأصليين في البلد الأم وهي فرنسا، تحت مقولة لا تزال سائدة حتى اليوم (فرنسا للفرنسيين)، وهذه المقولة هي التي استطاع أن يوظفها فيما بعد الرئيس ماكرون لمغازلة القوميين من الشعب الفرنسي، لتشير الرواية إلى أن الفكرة قديمة جدّا وأن فرنسا لا تزال تحرك زعانف شائكة ضد مستعمراتها القديمة. بالمختصر رقصة السلو وصايا لا يدري أحد كيف منحت فرنسا لنفسها حق ممارستها على إرادة الشعب الجزائري..
رقصة السلو تعرض واقع المجتمع الفرنسي الذي أراد الأرض الجزائرية أن تكون مكانا للنقاهة، يستغل فيها كل ثرواتها ما ظهر منها وما بطن عبثا بالأخلاق والذوق العام الذي اكتسبه الشعب من تعاليم الدين الإسلامي ومن حضارات سابقة، خصوصا نشاط الدعارة الذي غذّت به الدخل القومي الفرنسي، حيث اعتبرته مصدرا اقتصاديا هاما بتشييد بيوت الدعارة، لتجد الرواية نفسها مجبرة على الرحيل إلى مدينة من مدن الوسط حيث برزت هذه الثقافة بصورة فضيعة.
رقصة السلو جرس يرن بمخاطر جمّة تتهدد الشباب خصوصا بالضغوطات المزعومة التي تدفعهم إلى الهجرة الشرعية وغير الشرعية، لأن فرنسا أرصت دعائم هذه الرغبة ودوافعها منذ القديم، حيث أن رقصة السلو كانت مجرد تلهية لتتم أمور كثيرة في الجهة الأخرى كزرع ألغام بهذا الشكل تهدّدهم مستقبلا، قناعات غريبة تنحرف بالأمة إلى متاهة قد يصعب الرجوع عنها.
أحداث رقصة السلو تدور حواريا بين جنرالات ورجال أعمال وتجار عرب وغير عرب، بذخ وترف وعنف يدوس الفقراء ويملأ بهم سجون الحديد والنار، حيث تتضاعف المقاومة وتتفاقم رغبة النهوض والتحرر، فتنطلق شعلة الثورة من البيوت الفقيرة ومن الخيام المترامية في الجبال ومن داخل السجون المُغلقة.
رقصة السلو أحداث تناولتها بأسلوب ساخر، خصّصت فقرات طويلة منها التفاتا إلى جيل ولد في السبعينيات، ترعرع على وقع شعارات مفرغة من الواقعية، أدرك ذلك عندما تعلّم وحصل على شهادات عليا، وعندما نوى دخول الحياة العملية اصطدم بالمحسوبية والبيروقراطية والرشوة والـ(بن عمّيس)، وآخرون وجدوا آباءهم منغمسين في الخمر والرذيلة بسبب ما تركته فرنسا من مؤسسات لهو ومجون، الحالة التي أفرزت صحوة غير سوية تتوعد بالانتقام منهم وليس من فرنسا التي انتهجت هذا الأسلوب وأسّسته في الواقع، ثم تورّطت سيرا فيه أجيال كثيرة مما جعل فرنسا تغوص بجذورها في الأرض بشكل جعل جيش التحرير يصعب عليه اجتثاثها.
رقصة السلو اعتمدت فيها على متعة الحكي ابتعادا عن علمية التاريخ فأنا لست موظفا لدى أحد، لذلك نأيت بقلمي عن إرضاء جهات معينة، فكتبتها كفرد يتلقّى كغيره معلومات معتمدا على ثقافة شفوية بعيدة عن التنظير والمزايدة والكتابة مقابل أجر معيّن، لأن ذلك فيه ضغوط وأطروحات لا تخدم الحقيقة، فقد تعلو بأناس لا يستحقون العلياء وقد تنزل بآخرين هم أهلا لها وأجدر..
كل ذلك والرواية لا تزال تكتنز مما لم أذكر من تفاصيل.
بصرياثا: الأدب الثوري هوية الأديب الجزائري في التظاهرات الثقافية العربية ومن بعدها توسعت دائرة الإدراك في إصدار الحراك هل هي نقلة نوعية في الأدب السياسي؟
– عبد الباقي قربوعه:أدب الثورة مرغمٌ الكاتب عليه وليس بطلا فيه، لأنه فعلا حالة ساخنة تستدعي الكتابة، وهو لصيق بتطورات سياسة الدولة، لأن الكاتب مصلح بدرجة تتقدم عن السياسي، والثورة التحريرية لا تزال محرومة من الكتابة فيها لأنه تستحق، ولأنه لا شيء يسير في رواقه السياسي السليم إلّا بالاستمرار في التصحيح الثوري والبحث في مجال تاريخ الثورة المجيدة، والحفر عن مرجعياته ومشاربها الفعّالة والطاقات التي تدعهما وتقويها، لأن الأجيال الآتية بحاجة مُلحة إلى إظهار هذه الأدوات التي تميّز بها الشهداء والمجاهدون، فالجزائر لا تزال في حرب ضروس ضد أعدائها على جميع الأصعدة، لذلك فالكتابة في هذا الشأن ليست موضة ولكنها واجب مقدس.
الثورة الجزائرية مثيرة إلى حد التفكير في توثيقها، خصوصا من كاتب وجد نفسه في كنف أسرة ثورية ليس في متناول حديثها سوى سيرة المعارك والشهداء والمجاهدين، وكذلك تفاصيل تجوب سلوك الخونة والعملاء، فكيف لا يستهويني الأدب الثوري وأنا بين أحضانه، إنها ظاهرة صحّية مقارنة بدوائر تخصص الكتابة في دول عربية مختلفة رغم أنها تعرضت لنفس البشاعة من الاحتلال، فنجد الكتابة عند الكثيرين هنا وهناك حبيسة المغامرات العاطفية.
لا شك أن التحولات السياسية تشد الكاتب المنتبه وتجرد من أواصره لتورطه في توثيق كل من المواقف العبثية والجادة على مسرح السياسة، فهو ليس رئيس حزب مثلا حتى يهتم بهندسة إستراتيجية يمكن أن يؤثر بها الناس، ولكنه يشعر حيال ذلك بمسئولية أكبر، لأنه يعلم أن التعلم من الماضي نظرية تعتمد عليها الدول العظمى، ويعلم أيضا أن الاستثمار في الأخطاء فكرة رائدة، بحيث نمنع المواقف من التكرار حتى لا يعيد علينا التاريخ نفسه بطريقة مملة، الكاتب يرصد كل ذلك ولكن النقاد يسمون ذلك كتابة ثورية، وهي ليست كذلك، إنما هي مشاعر تتوازى مع يحدث، الكاتب فيها أكثر حرصا على توثيقها والإشادة بالنافع منها، والتحذير من المغلوط والمنحرف فيها، لأن السياسي عادة ما يهمل ذلك بحجة غبن التسيير حينا، وحينا آخر تلعب الحاشية دورا سلبيا في حجب ما يحدث في الواقع، فيكتب الكاتب ليخبره بأنه لا شيء على ما يُرام.
نتحدث عن كاتب مهموم ومنشغل بالوطن بروح المجاهد الذي لا يتوقع عائدات عمّا يكتب، بالعكس قد تجعله هذه المهمة عرضة للسجن والمنفى وربما للإقامة الجبرية، أقل عقاب ذلك التهميش الكاسح المر الذي قد يدفعه إلى التخلي عن الكتابة تماما، مقارنة بكاتب يحوم بقلمه بحثا عن قوت يومه فيكون بذلك عرضة للمساومات والإغراءات والإملاءات التي تُثقل كاهل التاريخ بالزيف والتدليس.
هكذا أوردت رواية حراك، وهكذا حاولت إمتاع القارئ وكعادتي جعلت من السخرية بوابة للصعود بالمواقف الهزلية إلى مراتب الجدية، ونزلت أحيانا أخرى بالمواقف الجادة إلى مراتب الهزل كما تبتغي الروح المرحة للمواطن الجزائري. وانطلاقا من العنوان اتهمني بعض النقاد بالخوض في أدب المناسبة وكأنه عيب، مع أننا كنا نُعلّم أبناءنا في المدرسة أن السؤال حول مناسبة النص يأخذ علامة أكبر في الامتحان، وأجبت على ذلك في مقال مطول نشرته مجلة فكر التي تصدر بالرياض، ومن جملة ما قلت أن الكتابة التي لا ترافق الوطن شدائدَه ومحنَه، وتقف معه في مناسباته الأليمة والسعيدة هي كتابة لاهية عن قضايا الأمة.
أدب الثورة هي بالفعل نقلة نوعية في مسار الإبداع الإنساني إلى جانب الفن التشكيلية والفنون الغنائية والمسرح. حتى أولئك الذين لا يجيدون شيئا سوى الكتابة على الجدران كوسيلة للتعبير والتغيير، إنها تركيبة تتشكل اجتماعيا فجأة فلا يجب على الكتابة أن تكون معزولة أو متأخرة عنها، بهذا النمط رافقت رواية حراك الحراك وشاركت فيه إبداعيا، وليس ذلك من باب التقليد والجري وراءه كمشاهد، ولكنها كوثيقة قديمة فقد كانت نائمة في الأرشيف ثم توفّرت أسبابها ومعطياتها، بمعنى أن الرواية لم تكن بحاجة من وراء الأحداث كمشاهد، بل على أساس أنها مكتوبة من مقبل، فلم تكن بحاجة إلّا إلى المصطلح الذي استعملته الثورة وهو “حراك” الذي توسّمت به فيما بعد عنوانا.
بصرياثا: – نبوءة الأديب في مواضيع مصيرية هل تجسدت في إصدار الحراك؟
عبد الباقي قربوعة :ليس ذلك من باب التنبؤ ولكن لأنني أحسب نفسي من المهمومين بهذه الإنتفاضة بناء على كثير من التراكمات مثلي مثل باقي الأحرار الذين يريدون الرفعة والرقي للجزائر. أكيد ما ورد ليس علم غيب، بل لأن الروائي أكثر انتباها لِما حدث في الماضي ولِما يحدث في الحاضر، لذلك فهو يحوز في لاوعيه من المواقف ما أهمله الآخرون، هذا البنك من المواقف يساعده على توقع الآتي من الأحداث، لأن القراءة علمته أن الحياة مجموعة المتكررات، على غرار تشابه المشاكل السياسية والاجتماعية التي تعيد نفسها بسبب استمرار وجود فاعليها، الشعب طيب يمكن نسيانها بمرور الزمن لكن الروائي يحتفظ بها، ليس لأنه ليس طيبا ولكن لأنه يحتاج إليها توظيفا لذلك يظن الناس أن ذلك تنبؤ بما آت، فالروائي لا يسمح بتكرار المواقف التافهة إلّا من باب التسلية أو التماس الموعظة، ولا يسمح بمرور الحلول الفاشلة أو التي زادت الأمور تعقيدا في عقبة تاريخية ما.. فرواية حراك كانت تحتفظ بمجموعة من الكبسولات القابلة للتفجر في أي لحظة، وهو يعلم توقيت انفجارها بناء على الأخطاء وعلى الزمن الذي مرّ على وجوها ألغاما في حقل السياسة، ويعلم أيضا ما يتحكم فيها من عوامل طبيعية استنادا على الوقت الذي أخذته للتضخم أكثر. الروائي ليس مجرد مستهلكا للحياة بل هو منتبه فيها لدرجة أنه يستمتع بالمستهلكين ونمط استهلاكهم لها. ويضحك على ما تخلفه أنفسُهم من فضلات.، وقد يجدهم بعيدين عن لبها بما يجعل الحياة عذراء لم يمسسها أحد بعد، وهكذا أحسب الجزائر منذ أن اجتحها المحتل حتى الحراك الذي يُعد محاولة من الشعب للتزاوج مع الجزائر زواجا شرعيا مكتمل الأركان والشروط
بصرياثا:- تصنيف الأديب في الجزائر :ناشئ ,محترف ,هاوي , مشهور الخ
– من هؤلاء حسب رؤيتكم كناقد؟
* عبد الباقي قربوعه:وحتى أشعر بأني متقمّص لقب الأديب حتى أتحدث عن الشهرة، أردت القول بأني لا أعد نفسي أديبا وقوفا عند حجم المصطلح، وحياء من كُتاب كبار لا أزال أتلعثم بالكلام أمامهم، وتوقيرا لآخرين قضوا نحبهم في الكتابة، أنا كاتب ناشئ ولا يمنعني من قول ذلك تقدم العمر، لأن القيمة الإبداعية لا تثبتها شهادة الميلاد، وإنما يثبتها الحضور على مستويات عربية وعالمية، عملا بذلك فأنا فعلا كاتب ناشي أو هاوي كما تشائين، أما بخصوص الشهرة فأحيانا تطغى شهرة الكاتب على شهرة نصه وأحيانا العكس، وقلّما يتوفر التلازم بسبب وضع الإعلام العربي بناء على كثير من الخلفيات السياسية والدينية والعرقية، وهناك من صنع شهرته بكثير من التدخلات خارج النص، وهناك من شدّ بناصية نصه حتى صار مشهورا بفضل ما كتبه، وهناك كُتاب يعرفون من أين تؤكل كتف الجائزة فهو مشهورون وأغنياء بذلك، وهناك من تحق لهم الشهرة ولكنهم في هامش الحياة يتآكلون بفعل النسيان، تصفع وجوههم حيطان السجون والإقامات الجبرية، لأنهم كُتاب رأي وليسوا كُتاب جوائز أو كُتاب تمجيد الأنظمة، وهناك مشاهير بفعل آلة إعلامية معادية مغرضة تشجعهم على إيقاظ الفتنة في أوطانهم. والكاتب عموما إنسان مليء بالنزوات والانفعالات المنفصلة عن كونه كاتب.
الكاتب الذي يعتقد أنه يحمل رسالة فإن الشهرة بالنسبة إليه هي آخر ما يهتم به، بل غالبا ما تشكل له عارضا عندما يريد أن يعيش كبقية الناس، يخالط البسطاء والمساكين، ويطوف الأماكن البائسة التي لا يزورها المشاهير عادة، لأن هذه الأماكن قد تطيح بشموخهم حسب ما يعتقدون بخلاف الكاتب الغير مهتم بالشهرة، فهو يعتبرها غذاء لقلمه وطاقة لإبداعه حيث يتموطن الصدق والعفوية والمعانان والقهر والحرمان، وكذلك السعادة الحقيقية الراضية بالقليل التي لا رأس مال لديها سوى راحة البال، فالشهرة تتعارض مع هذا الوضع لذلك لا يحبها الكاتب الجاد، لأنها تجعل هؤلاء البسطاء يتكلّفون ويتحنّطون أمامه، وكثيرا ما يتحولون في خطة سريعة إلى وضع آخر ظنّا أنه سيضحك عليهم، حالة تُسعد المشاهير الذي خطّطوا لشهرتهم بشتى الوسائل والحيل، بينما تجعل الكاتب الطيب حزينا لأنه يشعر أمامها بالعزلة، وربما ببساطته وتواضعه يدفع اللّئام منهم إلى الضحك عليه.. ورغم ذلك فالكاتب الناجح هو الذي يقاوم دائما، لأن غرضه نصٌّ أكثر إبداعا وتأثيرا وما دون ذلك فهو زائل.
أظن أن الكتابة الآن أكثر ازدحاما مقارنة بما مضى، وما أظنه أيضا أنها كانت قديما أكثر وقارا سواء التي كانت خادمة للحزب الواحد أو المتنصلة منه مدعية ثقافة معارضة مختلفة، أو ربما ثائرة تطالب بما هو حاصل اليوم من تدفق جزافي للحريات.
الكُتاب منهم الكاتب المبتدئ المتواضع الذي يمنح أعماله وقتا طبيعيا للنضج، ومنهم المتهور الذي استعجل صفة الأديب الكبير، ومنهم المحترف الحسود الذي يبخل على الناشئين الإرشاد والنصح، ومنهم المشهور المتواضع الذي يتغذى المحرومون من تواجده بينهم، وفيهم المشهور المتكبر الممنوع من اللمس. هكذا هم الكتاب شأنهم شأن الفنانين والسياسيين. أما أنا فلا يمكنني تصنيف نفسي إلّا بأنني مُبتلى بالكتابة لا أدري كيف حدث ذلك ومتى، أكيد هي ورطة القراءة وورطة حضور الحياة حضورا تأمليا، وكذلك الإصرار على إضافة شيء يمكن أن يكون سببا في إسعاد الآخرين، وإلى الآن لا أدري هل أنا موفق في ذلك أم لا.
بصرياثا :تجهرون بخصومتكم اتجاه الإتحاد العام للكُتاب الجزائريين في كل مرة.. ماذا حدث؟
عبد الباقي قربوعه:- المثقف يجهر بخصومته مع كل ما يمس القضايا الحسّاسة في الوطن خصوصا ما يعنيه من شؤون الكتابة والثقافة، أو يسيء إليها سواء بعلاقة مشبوهة مع من يعاديها أو بأداء سيء لا يعكس مستوى الكتابة في الجزائر أو في الوطن العربي، أو بتواجد رديء لا يتوافق مع طموحات الكُتاب في العالم، والكاتب كغيره لا بُد أن تكون له مبادرة في مشاركة المتغيّرات في الحياة، ويحرص أن تكون له بصمته الخاصة في تشكيل المستجدات، هذا الحس الذي يفرض على الكاتب اليوم أن يطرح سؤالا مهمّا: أين هو الاتحاد (الواعد) من الكُتّاب الذي تواجدوا عبر حقب تاريخية متفاوتة، ومن الكُتاب الذين يشكلون اليوم طابورا من الأجيال؟ حتى أولئك الذين توفّاهم الأجل في زوايا مظلمة لا يملك اتحاد الكُتاب القدرة على إضاءة ما تركوه من أثر، أظن أن هذا هو السؤال الأكثر إلحاحا، الرئيس الحالي كما لو أنه توعّد الكُتاب بالتشتّت والانشطار وليس بالاتحاد، وكما الدنيا قيل بأنها ستقوم على أراذل القوم كذلك الحال حدثت بالفعل لما يُسمى اتحاد الكتاب الجزائريين.
بهذا المعنى فإن اتحاد الكتاب لا يعدو كونه معركة تزاحم مادي على عائدات الانخراط، وتنافس حول تخطّف ما تمنحه الدولة في إطار دعم نشاطات الجمعيات المدنية لا أكثر، خصوصا الأسفار السياحية والأسابيع الثقافية المدفوعة الأجر بما في ذلك الإقامة والأكل والشرب والبذخ بأنواع على نفقة الدولة، أمام الكتابة فلا شؤون أخرى بعيدا عن هذه الكرنفالية الرّادمة للإبداع الحقيقي الخانقة للنص الجميل، وأشهد أن اتحاد الكتاب كان في زمن الحزب الواحد أكثر قيمة وأكثر حضورا من حيث الهالة المؤسّساتية، وتوازيه مع المستجدات السياسية والظروف التي يمر بها الوطن العربي. كثيرٌ من الكتاب شرفوا الجزائر بحصولهم على جوائز عربية وعالمية لا يعرفون أصلا اتحاد الكتاب هذا ولا يمتّون له بصلة، وليسوا – أصلا – منخرطين فيه، ووالله لو أنه نزح إليهم وتعرف عليهم لأفسد طبائعهم كما أفسد طباع من سبقهم من الكُتاب.
يوم انتخبني كُتاب ولاية الجلفة على رأس المكتب كان طموحي كبيرا، فجعلت من بين أوليات نشاط المكتب إصلاح ذات البين، رأيت أنه لا يمكن تقديم نشاطا احترافيا إلّا بعلاقات جيّدة بين الكُتاب، لكن (الرئيس) تماطل في تنصيبي لسبب لا أعرفه، لقد تعرضت لبيروقراطية كبيرة مارسها علي شخص يسعى حاليا لتكريس أبدية وجوده رئيسا على اتحاد الكتاب الجزائريين، مع الأسف مستغلا تفشي الرداءة وقد استثمر فيها كما تنبغي الحال بالضبط، لأن الكتاب الرديئين نصا وموقفا يخافون من رئيس جاد يمكن أن يلفظهم، ويبحث عن كتاب يوازون جديته في النهوض بالكُتاب إلى مستوى أفضل، لذلك التفّت حوله الرداء من كل صوب وآزرته بالتصويت وبالتزكية المكتوبة، ومع الأسف طغى حضورهم على الكُتاب المُميّزين الذين تشغلهم مشاريعهم الإبداعية أكثر من الانشغال بالزحف والتسلق نحو الانخراط، ومن ثمة مشاركة الرئيس الأبدي عير هذه المنظمة التي نزلت – مع الأسف – إلى مستوى جمعية مدنية مثلها مثل جمعية التكفل بنفايات الشوارع.
ولأن الرئيس الأبدي التمس اندفاعي الفلسفي في التعامل مع اتحاد الكتاب، عدَل بطريق غير قانونية عن جودي رئيسا لفرع ولاية الجلفة، وفي مناسبة من المناسبة عرفت لأول مرة بأدق ما يعنيه الفهم معنى المثل المصري القائل: (يا فرحة ما تمّت خذها الغراب وطار)، بدليل لوحة العشاء الأخير التي قرأت شفراتها على المباشر في عش ذلك الغراب مع شهود عيان، لكن شهود العيان أنفسهم أثبتوا أنه لم يطر بعيدا، فقد حوم ثم حطّ على ركام من القمامة كان يظنه نادر قمحٍ تلّي.
* بصرياثا:- التكتلات في المجال الثقافي فكرة مرفوضة بالنسبة للمثقف عبد الباقي قربوعة.. نريد تصحيحا للرؤية الثقافية؟
عبد الباقي قربوعه:أظن أن المثقف الجديد ليس بحاجة إلى الاعتماد على ما يسمى تكتل حتى يشعر بكيان وجوده، سيان كان وجودا ثقافيا أو اقتصاديا أو غير ذلك، كما كان عليه سلوك الإنسان البدائي، أو سلوك الحزب الواحد في حقبة سابقة، فالآن لا منطق سوى للإنجازات على مستوى كل فرد على حدّة، أو مجموعة من الأفراد المرتبطين بمصير واحد، فالتكتل المرتكز على نمط سياسي معين، أو المنبثق من عواطف العرش أو القبيلة، أو الذي يستند على قناعات أخلاقية متشابهة، مثل هذه التكتلات يتآكل فيها مجهود الفرد الموهوب الذي يتمتع بقدرات متقدمة، لذلك يجب التنصل من هذه النمطية سريعا، والثقافة أولى بهذا التنصل وهذه البراءة والحيادية، لأن التكتل بتلك الجاهلية يطمسها ويجعلها تنظر بعين القبيلة أو الأيديولوجية أو العرش أو الشلّة، حينئذ تضيق رؤية الثقافة ويقتصر أثرها على مَن قزّموا دورها وجعلوها لا تنظر إلّا إليهم، فيُوَلّدون في أنفس الآخرين الرغبة في الثورة والتغيير، وبهذا نجعل الحياة دءوبة على تكرار نفسها، ولن تذوق الإنسانية بسبب ذلك طعم الراحة إلى أن تقوم الساعة.
هناك مجالات كثير غير الثقافة لا ينبغي لها أن تتكتل، لما لها من أدوار حساسة وأساسية في إثراء الحياة، فالمثقف – مثلا – مطالب برأي حيادي منبثق من دراسة واجتهاد شخصي حول ما يحدث في العالم، طالما أن مهمته جلل بهذه الصفة فإن التكتل قد يجعل منه أداة للقمع، أو لتكريس ما لا يجب أن يُكرّس من عادات وتقاليد، وقد يتخذ منه التكتل سوطا للظلم والبطش، أو مرتكزا للعبث بممتلكات الأمة ومقوماتها الحضارية، ولعل التكتلات الآن هي التي تدفع بالعالم إلى الانحراف، فالحقيقة لا تتطلب تكتلا على قدر ما تريد من الجميع وعيا بمصير الإنسان كقيمة مقدسة في الأرض، فتمنع عنه الظلم والاستغلال والعبودية. من هذا المنظور آن أن نحرّر الثقافة ونعتقها من التكتلات الحزبية والعشائرية ونتركها تحلق في الفضاء.
*بصرياثا:- ليس كل رواية قابلة لتحويلها لسيناريو ومع هذا حدثت القطيعة بينها وبين السينما وبين زخم كُتاب الرواية في الجزائر
– عبد الباقي قربوعه:مع الأسف أن القائمين على صناعة السينما الجزائرية يكتفون بمطبوعات تُكتب لهم تحت الطلب، وأغلبها يُحرّرها أناس شبه موظفين في المقاهي طمعا في عير الحقوق، لذلك يبدو الإنتاج السينمائي في الجزائر ضعيفا وغير مواكب فنّيا لما يُنتج في العالم على سبيل المنافسة، على غرار احتفالية السينما المصرية بروايات كثيرة لعمالقة فن السرد، فإلى متى ستظل السينما الجزائرية تكتفي بمطبوعات غير رسمية، بينما تظل الروايات الموثقة بشكل رسمي تتراوح مكانها في المكتبات العمومية، مع أنها كلّفت الدولة مبالغ ضخمة لدعمها
* بصرياثا :في ختام حوارنا ،لكم الكلمة الحرة
عبد الباقي قربوعة:ولأنه (لا يشكر الخالق من لا يشكر الخلق) أشكر مجلة بصرياثا على إتاحتي هذه الفرصة كمتنفس للتعبير على كثير مما يشغلني. وأتمنى أن أكون قد أجبت على الأسئلة بما تصبو إليه تطلّعات المجلة . ووافر الشكر لتركية التي أجرأت بجرأة هذا الحوار متمنيا لها نجاحا وتألقا أكثر.