صدر في القاهرة عن «منشورات سشات» كتاب جديد للناقد المصري الكبير الدكتور صبري حافظ، بعنوان «طه حسين .. ذكريات شخصية معه»، يقع الكتاب في مائتي صفحة من القطع المتوسط، بغلاف من تصميم الفنان التشكيلي “عمرو الكفراوي”، وتتصدر الغلاف الأمامي صورة شهيرة للعميد من تراث المصور الأرمني/ المصري “فان ليو”.
وقد ضم الغلاف الخلفي للكتاب وصفا موجزا لعالمه وموضوعه، يقول: لعل الأهمية اللافتة لهذا الكتاب، الذي يضع «طه حسين» في بؤرة اهتمامه؛ لا تكمن فقط في تقديمه صورة قريبة وفريدة للعميد من قلب بيته الشهير «رامتان» وهو وسط زواره من نجوم الأدب والثقافة والسياسة في عصره، بل أيضًا في تقاطعه مع حقول أدبية ومعرفية عديدة، دون أن يعطي ذاته بالكامل إلى حقل بعينه، مما يجعل قارئ الكتاب يطوف من رحلة خلال الجغرافيا والتاريخ إلى رحلة ما بين الأنواع السردية والمعرفية، هكذا يأخذنا «صبري حافظ» من «المنوفية» مسقط رأسه إلى «قاهرة» الستينيات، ومنها إلى أكسفورد، لندن، باريس، وبرلين. من الدراسة بمدرسة الخدمة الاجتماعية بالقاهرة إلى الدراسة والتدريس في جامعة أكسفورد، ثم الدراسة كطالب دكتوراه بجامعة لندن. رحلة ممتدة في الزمان والمكان، من تقديم صفحات نادرة عن واحد من أهم مثقفينا في كل العصور، إلى رحلة كاتبنا التي تترسم خطى العميد في تحصيل العلم من مظانه مهما بعدت، وخوض غمار صعوبات التعلم على الرغم من تحديات العمر واللسان. يضع الكتاب بين أيدينا رحلة أخرى تشكل إضافة بارزة في كل من أدب السيرة، وأدب الرحلة، وتقترح فيهما الثقافة كوسيلة أساسية لإعادة إنتاج وجودنا الأصيل في عالم يزداد تعقيدًا.
الكتاب مكون استهلال وأربعة فصول هي على التوالي: سياقات مرحلة: حفل ثقافي متنقل، رامتان جميلتان استراح في إحداهما طه حسين، دلالات تحقق دعاء طه حسين، وأخيرا الفصل الرابع: تناقضات بريطانية وعالم أكسفورد الرحيب.
لكن دعنا نقرأ فقرة من الكتاب من الفصل الثاني من الكتاب حيث يتحدث فيها الكاتب عن وصوله لأول مرة إلى بيت العميد: “إلى هذا البيت الذي كان على الحالة التي وصفتها زوجته في كتابها وصلت مبكرًا، وأخذت أدور حوله، وأتلمس شيئًا من الجو المحيط به. وكان أهم ما يشغلني وقتها، هو كيف سأخاطب طه حسين. هل أقول له يا سيادة الدكتور، أو يا سعادة البك. وكنت أسمع وقتها وطوال سنوات من عملي إلى جوار أستاذنا الكبير يحيى حقي أنه يستخدم «سعادة البك» حينما يريد التبجيل، فقررت استخدامهما معه. وقبل الموعد بعشرين دقيقة اقتربت من البيت وضغطت على الجرس، ففتح لي سكرتيره، فريد شحاتة – وكان في حلة كاملة مثلي فقد حرصت على ارتداء أفضل ما لديَّ – الباب فعرَّفته بنفسي، وكان ينتظرني وينتظر هذا الاجتماع. فأدخلني إلى غرفة مكتب فسيحة ومحاطة جدرانها جميعًا بمكتبات رصت فيها الكتب بشكل أنيق. فقد كنا في الزمن الذي كانت تجلد فيه الكتب ويكتب على كعوبها المتماثلة اسم المؤلف وعنوان الكتاب واسم صاحبه/ أي حائزه. ألم يخبرنا طه حسين نفسه في «الأيام» أن أخاه الشيخ أحمد كان يقتطع من قوتهما ما يجلد به الكتب المهمة، ويحتفظ بها في أهم ما كان بالغرفة من أثاث، وهو الدولاب الذي اشتراه خصيصًا لذلك.
وكانت هذه هي المرة الأولى التي أدخل فيها بيت أديب كبير، باستثناء شقة يحيى حقي التي كانت جميلة وبسيطة، ولكنها مليئة بالكتب أيضًا، وإن لم يكن فيها الكثير من الكتب التي أعيد تجليدها. كما لم تكن المكتبات التي يحتفظ فيها بكتبه من النوع المرتفع الذي يشغل الحائط كله إلى قرب السقف كما كانت الحال في بيت العميد، وإنما كان ارتفاع كل منها لا يزيد على المتر إلا قليلًا. وكانت سطوحها عامرة بقطع الخزف الفنية التي كانت تنتجها زوجته «جان» الفرنسية أيضًا. ويحرص على أن يُعرِّف زائريه عليها كفنانة. بينما الجزء الباقي من الحائط كان به الكثير من اللوحات، تعرفت فيها على بعض لوحات حامد ندا وإنجي أفلاطون وكمال خليفة وحسن سليمان وغيرهم. كما كنت قد زرت يوسف إدريس في شقته المترفة المطلة على النيل، والتي لم يكن فيها كثير من الكتب. وإن كانت شقة أنيقة وجميلة يطغى حضوره فيها على أي شيء سواه. أما بيت طه حسين فقد كان فيلا باذخة ذات حديقة واسعة، لاحظت جمالها والاعتناء ببستنتها وأنا أدور حول البيت قبل دخوله، وكان الممشى بين الباب الخارجي وباب البيت الداخلي محاطًا بأحواض الزهور. فيلا ذكرتني بالقصور التي كنا نراها في الأفلام السينمائية القديمة لأحمد بدرخان.
فإذا كانت شقة يحيى حقي تتميز بالتوازن الجميل بين المكتبات المليئة بالكتب، ولوحات كبار الفنانين المصريين المعروضة على الجدران. فإن بيت طه حسين كان مختلفًا، ينطق بالجمال والثراء والذوق الأوروبي الرفيع. أخذت أدير نظري في حجرة جلوسه الواسعة، وجدرانها المكسوَّة بالمكتبات والصور، التي كانت تسجل مناسبات مهمة ظهر فيها طه حسين. وأرضه المغطاة بالسجاجيد الفاخرة والأرائك الوثيرة، بينما كانت النافذة المفتوحة على الحديقة تتيح لخضرتها أن تكون جزءًا من المشهد قبل أن يوشحها الظلام. وعرض عليَّ فريد شحاتة القهوة أو السجائر، فرفضتهما بأدب شاكرًا، ولكنه أصر وجاءني بفنجان من القهوة. وما هي إلا دقائق قليلة – وقبيل عشر دقائق من موعد الاجتماع – حتى جاءت السيدة سوزان، زوجة الدكتور طه حسين به، وكان يتكئ عليها في طريقه إلينا بشكل واضح، فوقف فريد شحاتة، ووقفت معه وقد هلَّ علينا الرجل الذي طالما تمنيت رؤيته. كان برغم انحناء ظهره قليلًا طويلًا مهيبًا وبلا «كرش» رغم تقدمه في العمر. وكان في كامل أناقته، بحلة كاملة وربطة عنق أنيقة. وإن كان يتكئ عليها وهي تقوده إلى كرسي بعينه أجلسته عليه، وغطت ساقيه ببطانية صغيرة جميلة،(3) مع أن الجو لم يكن باردًا، ولكن كان به شيء من البرودة الخفيفة. ووضعت يديه فوقها، فلاحظت بدايات تقلص أصابع يديه وقتها بشكل خفيف.
وما إن جلس حتى هُرعت إليه كي أسلم عليه، وقدمت له نفسي كالموظف الذي جاء لكتابة محضر الجلسة، مناديًا إياه بيا سعادة البك، فتركته زوجته وانصرفت. وبادر الدكتور طه حسين يسأل فريدًا بالعربية الفصحى: هل قدمت قهوة للأستاذ يا فريد؟ فأجاب بنعم، فعاجله: وهل قدمت سجائر للأستاذ يا فريد؟ فرد عليه بأنني لا أدخن. بعدها طلب مني طه حسين أن أقرأ عليه جدول أعمال الجلسة التي جئت من أجلها ففعلت. وما إن انتهيت منه حتى طلب مني ألا أدون شيئًا أثناء الجلسة، وسوف يملي عليَّ محضر الجلسة بعد نهايتها وانصراف أعضاء اللجنة. فتنهدت الصعداء، وأدركت في سريرتي السر في بلاغة محاضر الجلسات السابقة التي قرأتها قبل حضوري. وإن حرصت على أن أدون بعض الملاحظات في ركني البعيد لعلني أحتاجها، مطمئنًا نفسي بأن الدكتور طه حسين لن يراني. وبأنه مشغول عني بما هو أهم في حديثه مع أعضاء اللجنة، وإدارة الجلسة كي ينجز ما بها من جدول أعمال متعدد البنود.”
—
«منشورات سيشات» الصادر عنها الكتاب، دار نشر مصرية جديدة يشرف على اصداراتها الروائي المصري: أحمد زغلول الشيطي، وقد انطلقت بوسط القاهرة 2022.