الكساء فاحم كالغاسق، والسير حثيث الخطو كصغير الريم كالنسيم كموج البحر في السحر…العينان كشطري بيت من الشعر. تطلان كالقمر من خلف الغيم. والنظرة مجاز..عينان تلغزان وتعجزان..
وأنا يردني السؤال؟ لست ممن يستكين لغواية الجسد السافر ويخنع لسحر الخاصرة الممشوقة، ولست ممن تثيره العيون وإن استوى مستقرها في الوجه الحسن.. فكيف يا نفس تجنحين دون هدي إلى هذا الغيب، إلى هذا الألق المطل من خلف حجاب. إلى هذا الحجاب؟..
تفصلني عنهما طاولتان ورف زجاجي. أحمل في يدي كتابا لإميل سيوران، وتحمل كل منهما كتابا في جناح المؤلفات الدينية..وتهمسان لبعض كلاما تتخلله حمدلات وسبحلات.. بقينا على هذه الحال في ضفتين متباعدتين متقاربتين تحت اللواء نفسه، لسنا متأكدين من شيء أننظر إلى بعض أم لا؟ إن نظرت أنا أحجمتا وإن أحجمت أنا نظرتا..وأنا أعجبتني هذه اللعبة؛ لعبة تواشج فيها الميول بالحياء..غلب الميول من جهتي وغلب الحياء من جهة المنتقبتين..لكن لست موقنا أيهما أصدق أ ميولي أم حياؤهما.. استغرقت اللعبة ردحا من الزمن وجدتني فيه قد قرأت صفحة كاملة من كتاب إميل سيوران دون نباهة، لأن بالي هناك.. هناك حيث المنتقبتان…
تسللت إلى المكتبة قطة سوداء، اتجهت نحوي ملوحة بذيلها يمينا شمالا، ذاعبت فروة رأسها فعرشت بسمو كالزهرة الفتية الخرقاء، ومددت جيدها تحتك بي والجيد باسق كالغادة.
بغثة سمعت صوتا رائقا عذبا رهيفا عطوفا، ينادي، ‘مس مس’ فانتشيت لسماعه وأثارني قبل القطة..كأن القدر بعث بهذه القطة لتكون صلة وصل، أو جسرا لتبديد الحجب، وفرصة لأطبق مقولة تكلم لأراك مع هاتين المنتقبتين.. ركضت القطة نحوهما، وكلي أمل أن تحسن القطة مدحي وأن تبالغ في وصف رقتي وأدبي كما يفعل الشعراء، لكن القطط لا تنطق ولا تتكلم فكيف ستتحدث عن مناقبي أمامهما؟ لا بأس فأغلب الظن أن إحدى المنتقبتين نادت على القطة ربما لاهتمامها بصاحب القطة وليس القطة في حد ذاتها، وأنا هو صاحب القطة هنا، ولا أحد غيري وكما يقول الشاعر: قبلت الديار حبا في أهلها.. ونسجا على منواله نادت المنتقبة على القطة حبا في صاحبها…
واصلت القطة سيرها تجاه المنتقبتين إلا أن صوتا فظا غليظا نافرا صدر من فاه أو عساه حفرة من حفر النار ( صب، صب..) هرولت القطة إلى الخارج فور سماعه….
اعتذر لنا صاحب المكتبة، ثم قال : لن تدخل القطة مجددا ولن أسمح لها بإزعاجكم..
فقلت في نفسي رب عذر أقبح من زلة..وضعت الكتاب في مكانه وانصرفت.. وأنا أقطع الطريق تواردت إلى مسامعي ذبذبات صوت مألوف. حين قطعت الطريق التفت خلفي فابتسمت بعدما رأيت المنتقبتان يخرجان من المكتبة، لا يحملان الكتاب لكنهما يحملان القطة. مشيت وقلت دون نطق: لتكن القطة خير ذكرى..