زحمة الكاميرات وتدافع الصحفيين يبلغان أشدهما، الكل يُدني مكبر الصوت الخاص بمحطته من أنفي وفمي وخديَّ، بالكاد تظهر عيناي المستاءتان من بين هذا الزحام والفوضى، يوجهون السؤال للمرة العاشرة، وأغمض أنا عينيّ لأستحضر الجواب، ليس حباً بهم، بل اشتياقاً وحنيناً لما لاقيتُ هناك.
هل أنت عالِمٌ يا سيد فاخر؟
لست بعالم، أكررها، أنا إنسان عادي.
كيف وصلتَ إلى هناك إذن؟
هذا خاص بي.
قلتها وقد أذهبَ تعاليّ بصبرهم وقضى على هدوئهم، تولول تلك الصحفية ضخمة البنية وتضرب البلاط بقدميها فتهتز الكرة الأرضية برمّتها لصيحة الامرأة: من تكون إذن؟؟
أجبتها ببرود: أهم شرط لتحقق ما حدث معي أنني لست مثلك!
لا أدري ما فعلتْه عندما أزاحت بصرها عني، ربما عضّت بأسنانها الوحشية سلكاً من أسلاك الكاميرات، تنهدت، هل يجب أن أهرب من هذا المؤتمر الصحفي؟ أم أرحمهم وأخبرهم بسري؟
—
لم أتوقع أن يختبئ في كنفه كل هذا الجمال، ولم أتوقع أن أكافَأ بزيارته، كوكب الحلم المنشود، كوكب الراحة المأمولة، الكوكب الذي أُعدّ ليخرجنا من كآبتنا ويطبب آلامنا، كل هذا كان من نصيبي.
على رأس كل مئة سنة يحظى واحد من سكان مدينتنا بزيارة الكوكب، السرّ مجهول بخصوص ذلك، فسابقاً لم تكن التكنولوجيا بهذه القوة ولا كانت المؤتمرات الصحفية تُعقد بسهولة كما فعلوا معي، أما في يومنا هذا فقد كنت واثقاً أن متطلفي مواقع التواصل وشَرِهي إعلان الأخبار لن يتركوا من يزور الكوكب بحاله، لكنني لم أتوقع أن أصبح ذلك الشخص.
كنت عائداً من عملي، أصعد الدرجات نحو بيتي وروحي تزهق تعباً من طولها وعلوها، كعادتي أرتاح في الطابق الخامس، بلور شباك الطابق مثقوب، أراقب من الثقب البستان المقابل، أرى أنصاف مشاهد، لم أعلم أتلك الحسناء بمفردها تتمايل أم أن برفقتها حبيباً تحاول القبض على قلبه، تختفي عن ناظري فتظهر الأشجار التي كان جسدها يخبئها، إنه ليس بستاناً، بل جنة، أغمضت عينيّ، ما الذي يحدث؟ الثقب يسحبني، صرخت بأعلى صوتي، ولكن بدا أنني في بعد مختلف لا يوصل الصوت إلى أحد، عندما فتحت عيني وجدتُني هناك، شلال من القهوة المُرة التي أُكثر شربها ويمنعني منها الطبيب ينظر إلي بفتنة ويستدعيني، انحنيت أشرب منه، كانت ألذ قهوة شربتها، ظننت الروعة ستتوقف عند هذا الحد، إلا أنني لم أر شيئاً بعد من أسرار الكوكب، أحاطت بي آلاف من قطع البسكويت المقرمش المالح الذي أحب، في الوسط طاولة رمادية مثالية وحاسوب محمول حديث وكرسي وثير يعمل أيضاً على تدليك أطرافيَ المتعبة، لا شك أنه عالم أعد على مقاسي، حذائي يركض بي ويوصلني أنّى شئتُ منافساً أمهر الحافلات، والبذلات الأنيقة المعلقة في الهواء الطلق أرتديها فتتلاءم مع جسدي من تلقاء نفسها، يوم العمل هناك قصير، بيتي ليس في الطابق الأخير مع مصعد معطل، وحسناء البستان تطوقني، تغدو لي، ليست لأحد، عندما أغني هناك تعزف الطبيعة لي موسيقا الأغنية، وعندما أود لعب كرة القدم تشاركني الأشجار وأعواد الزهور الصغيرة، شلال القهوة يتدفق، الشمس كقرص حلوى ناريّ ملتهب تتسع في فمي لو أدرت..
عندما تساءلت: لماذا أنا هنا؟ أجابني المكان بأسره: لا شأن لك، استمتع فقط!
ما كان مني إلا أنني استجبت، الفضول يأكلني فأنهره، انتقيتُ بعد مئة عام لتُغدَق علي هذه النعم، إنني محظوظ ولا سبب غير هذا!
—
فُضّ المؤتمر بعد أن وصفت لهم ما رأيت، متغاضياً عن إلحاحهم في معرفة سبب اختياري، فأنا لست أدري، انصرفوا والحسد يلتمع في أعينهم لأنهم لن ينالوا ما نلتُ، قفلت راجعاً، انتهت مهلة الأسبوع اللطيف، العمل ينتظرني، طبيبي يمنعني من القهوة، الطاولة في مكتبي صفراء كما أرادت المديرة المتحيزة، ليست رمادية، حذائي غبي يحز قدمي، لا يأخذني إلى أي مكان، لا شيء يشبه الكوكب الآخر، كرة القدم لا أجد لها قصاصةَ وقت لتسليني، وعندما أعود إلى بيتي أضطر لصعود تلك الدرجات غير الرحيمة، أتطلع من الثقب فلا أتبين مع من تمضي حسناء البستان وقتها.
عندها خلعت التظاهر بالسعادة والبرود، تخليت عن التباهي الذي قابلت به الناس، تمتمت في سري: أكان من ذاق نعيم الكوكب الآخر ثم سُلب منه محظوظاً حقاً؟ أم أن في جعبة الحقيقة جواباً آخر؟