في قاعة الانتظار حيث الوحيدة منتظرة، يخاطبها بصوت متعجرف :”أخبرتني شريفة بحالتك، ستتناولي هذه الأدوية الآن، تساعدنا على تسهيل المهمة، ولكن لا نتوفر على مخدر، ستتحملي القليل من الألم”، تحملق في شريفة بنظرات كلها صراخ، تريد قول:”لا أستطيع”، تعجز عن النطق من الخوف، تخاطبها شريفة مبتسمة :” لم الارتجاف؟؟ التخدير غير مهم، الأدوية كافية، دائما أقوم بهذه العملية، وإذا فكرت في الامتناع تذكري مصيرك، لو أخذت أسرتك علما”، فاقدة التركيز تتناول الأدوية، تجد نفسها ممددة على سرير تغير لونه من فرط الاستعمال، تفوح منه روائح بشتى النكهات، زفير سريع وشهيق بالأقساط، وخوف من مصير مجهول، وطبيب يدلك بطنها، لم تستطيع تحمل الوجع بصمت، وفي لحظة ألم وصراخ يمر شريط ذكريات كله أمل، تتذكر أيامها تتحسر على ماضيها قائلة:”ماذا اقترفت؟ ليكون ماضيي أفضل من حاضري”، كانت جذابة كباقي قريناتها، حسنة الخلق، متفوقة الدراسة، تعيش وسط أسرتها وحيدة، الكل يتعجب من أناقة ملبسها، وقوة شخصيتها، في يوم وقفت زميلات فصلها تتأملن فيها وهي مغادرة مدرستها نحو منزلها، ترفعن تحديا مع زميل لهن باستحالة استمالتها، يوافق على التحدي، فيبدأ مهمته على الفور، يتعقب خطواتها راكبا دراجته، طويل القامة، نحيف الجسم، وسروال تتخلله مطبات لم تسلم منها عورته، شعر لامع ممشوط بشكل مستقيم للخلف على شكل ذيل حصان، ينهق بكلمات “زين منتشوفوش”،” زين مخطوب ولا يتسنا فالمكتوب”.
لم يمل ولم يكل من تكرار المحاولة في سبيل كسب الرهان، لم تعر اهتماما للموضوع في البداية، زميلاتها بالفصل تراقبنها بصمت، تتدخلن لمحاولة إقناعها “اعطه فرصة لمعرفة نيته”، “ليس من الأخلاق قمعه هكذا”، ترضخ في الأخير لخطتهم بسذاجة، بلسانه الحلو حاول استمالتها، بأخلاقه المزيفة دعم كلامها وأشاد بأحلامها، استغل ضعفها، فلعب بمشاعرها، ملأ وقت فراغها، أقنعها بفكرة المستقبل لا تصنعه الدراسة، خربق أفكارها، وبمساعدة زميلات فصلها أقنعها بأفكاره، فخلعت الحجاب، وصبغت الشعر، ارتدت القصير الممزق، واستغلت ضعف وأمية أبويها فأقنعتهما بكون المظهر الجديد مفروض من المؤسسة، أدمنت على التواجد معه، أصبح عنوان الأمان بالنسبة لها، تتغيب عن حصصها، غير مبالية بضياع وقتها.
في يوم تستيقظ باكية، ببيت قصديري في سطح منزل، سرير أحادي مهترئ في زاويته، وبجانبه طاولة قصيرة بها مخلفات المشروبات الغازية والوجبات السريعة، وروائح التدخين والكحول تملأ الأرجاء، عارية الجسد، متسخة الأخلاق، منعدمة الشرف، تحاول تذكر تفاصيل ليلتها البئيسة، تتزاحم العبارات، فيتوقف تفكيرها، تتساءل مع نفسها عن فعلتها، فتنهمر دموعها، تنظر إليه تجده ممددا على السرير، عاري الجسد، فرحا بليلته، لم تتمالك أعصابها تصرخ في وجهه :”لم أتمن الموت يوما، ولكن في هذه اللحظة أستحق الجحيم “، يمسك بها محاولا تهدئتها، تتأفف منه، تتغير ملامحه بتأففها، فيمسك بها بقوة:” تكلمي بصوت منخفض، فهناك أناس أحترمهم هنا، لم أرغمك على شيء، جئتي بكامل إرادتك”، ويتابع:” هيا ارتدي ملابسك بسرعة، انتهى وقتك”.
لم تعد تطيق الذهاب للمدرسة، تراه في كل حين يحاول اصطياد فريسة جديدة، تكتشف ما لم يكن في الحسبان، تحاول الاتصال به لا جواب غير:” هذا الرقم غير موجود”، تستوقفه لتخبره بما وقع، يتصرف كأنه لا يعرفها، يجيبها بضحكات استهزاء:” أنت حامل!! ألف مبروك، بلغي سلامي لأبيه”، غارقة في همومها، تحصي خسائرها، وتتأسف لضياع مستقبلها، يغادر منتصب القامة باحثا عن رهان جديد.
ببطن منتفخ تخبر شريفة بمصيبتها، بدون تفكير تجيبها:” تخلي عنه يا صديقتي”، وتضيف:” لي صديق يقوم بعمليات إجهاض، بثمن مناسب للتلميذات، وبما أنه يعرفني قد لا يطلب المقابل ماديا من يعرف؟”.
في لحظة ينقطع شريط الذكريات، فيخيم السواد على عينيها، وضبابية الرؤية تحجب عنها من حولها، ينعدم الإحساس، فتغيب عن الوعي، تحلم بنفسها مرتدية فستان أبيض، حاملة باقة ورد أصفر وأحمر، على بساط أخضر مليئ بالأزهار، حزينة تجري محاولة الإمساك بسراب وهي تقول:” بعت طفولتي وأحلامي وكل شيء جميل كنت أملكه، كان بودي أن أعيش ولكن قدري ينادي، اعتذر منك يا أماه، ظننت أن ألم الوداع أهون من ألم الغدر، واخبري أبي أن ابنته خانت ثقته، ورجاء اكتبوا قصتي على أبواب المدارس، سأغادر نحو الربيع آثمة.