أتناول وجبة الغذاء على عجل ثم أعود أدراجي إلى الغرفة، أحس بكآبة غريبة، لا فكرة تؤنس وحدتي، ألقي نظرة على طه حسين وهو يتتبع الشعر الجاهلي مشككا في نسبته إلى عصره، مدعيا أن انتحال الشعر مسألة مترسخة في التاريخ البشري وممتدة في الحاضر ومستمرة في المستقبل، أتوقف عند أمرؤ القيس، وأقول في سري إنه شاعر يتطلب تركيزا لا أمتلكه الآن، لذلك ضربت له موعدا في زمن لاحق في انتظار صفاء الذهن، لكن ما عساه يصفيه؟ أي يجعله عذبا لا تصفية تبيده.
تلمع فجأة فكرة زيارة مدينة طنجة في المخيلة، فجولة في هذه المدينة كفيلة بأن تجعل المزاج رائقا، لاسيما وأن الجو ملائم. أتقي شر الحر والبرد معا بثياب متصالحة مع الحالين، أغادر المنزل وأسلك مسارا مرسوما في الذهن سلفا، من حي مولاي إدريس إلى حي العشاب ومنه إلى محطة سيارات الأجرة مرورا ببيت العزيز مصطفى القديم المحاذي “لعرصة العيادي” أحد ملاعب الصبى.
منظم الرحالات ينادي كعادته “طنجة طنجة…” أصعد إلى السيارة، لم يمض وقت طويل قبل أن تأخذ السيارة كفايتها من الركاب، لتنطلق بسرعة، في الطريق منظر البحر، مويجات صغيرة تتقاذفها الرياح، أستغرب الأمر، في العادة يتشكل هذا المشهد عند هبوب الرياح الشرقية، ألاحظ الأعلام وقد اتجهت جنوبا، فأحسم هوية هذه الرياح بأنها شمالية، أو “النورطي” كما يصطلح عليه الصيادون، أتذكر هواية الصيد أو غوايته، وأقول في نفسي حسنا فعلت بأني لم أذهب للاصطياد، لكن لا بأس ربما يكون ما أنا فيه صيد من نوع آخر. خارج السيارة الجو حار، ألوم نفسي على قرار السفر هذا، فربما كانت الاستراحة بالغرفة أكثر فائدة، أجيب، وماذا سيحدث مجرد جولة سريعة وأعود من حيث أتيت.
أصل إلى مدينة “طنجة العالية”، الجو معتدل يغري بالتسكع بين الشوارع والأزقة، لكن قبل ذلك لابد من فنجان قهوة. أحتار في اختيار المقهى المناسب، شرفة مطلة على بناية محكمة الاستئناف، ستزعجني مشاهد الخصومة بين المتقاضين، أعدل عن هذا المقهى، وأتذكر عرضا في كتاب بلاغة العدول في شعر ذي الرمة، فأسأل ما العلاقة بين بلاغة العدول بلفظها الفصيح، وبلاغة العدول، باللفظ الدارج الجمع المستمد من العدل، والعدول كتبة يوثقون عقود الناس بهدف تحقيق العدالة بينهم، فأقول كلاهما يقنع بالحجة وقد يقنع بالتدليس والمكر، غفر الله للجميع، أصعد في شارع “البولفار” باحثا عن مقهى كومديا لسببين أولهما استراحة مما سبق، وثانيهما استعادة لكوميديا الرباط والجلسة مبهجة مع الصديق أبو الخير، وصلت للمقهى لكني وجدته أضيق مما تصورت فعدلت عنه إلى غيره حيث الفضاء أرحب فالواجهة زجاجية تتيح ممارسة العادة “الزيلاشية” في ملاحظة البشر وترقب الخبر وإن غاب البحر عن مجال النظر.
أتخذ لي مقعدا في زاوية من المقهى بعيدة كفاية من عيون المارة وقريبة كفاية لألاحظ أمواج البشر وهم يعبرون الشارع في خفة، أو على مهل، أطلب قهوة بالحليب فيضعها النادل أمامي بسرعة، أنظر أليها وينتابني شعور أن مقدار القهوة في الكوب سيسبب ابتعاد النوم عن جفنيَّ هذا المساء، أكاد أطلب تخفيف شدة قتامة القهوة لكني ألغي الفكرة في آخر لحظة، فماذا لو سهرت هذا المساء، فما أطال النوم عمرا ولا قصر في الأعمار طول السهر على رأي الست أم كلثوم1 ، يعود النادل ويضع أمامي مرمدة، أتأملها وأقول في نفسي من سوء الأدب أن لا أستعملها كيف أرد هذا الرجل المسكين وقد توسم في خيرا بأن ضمني إلى جمهور المدخنين، أكاد انتفض واقفا لشراء بضعة سجائر ثم أطرد هذا الخاطر اللعين، وأبتسم علنا لهذه الحماقة الطارئة بل المتأصلة في الحقيقة.
أترك المقهى وأواصل الصعود في “بولفار” طنجة لأدنو من ساحة سور “المعكازين” أناس كثر يجلسون على سور الساحة، منهم من يمم وجهه شطر الجارة الشمالية ومنهم من توجه إلى ما تزدحم به الساحة من مارة، من بين هؤلاء شيخ أوربي على ما يبدو، وقد تأبط قيثارة يحاول تسوية أوتارها، إلى جانبه فتاة مبتهجة وشاب يتابع خيط الدخان المنبعث من سيجارته، أمامهم مكبر صوت من الحجم الصغير، أترك الساحة بما فيها ومن فيها، فأنعطف نزولا إلى “سوق برا” حيث تعرض بقايا الزمن الضائع، أثاث منزلية، تلفاز، ساعات ودولاب وأواني نحاسية مختلفة، بالجوار مطاعم شعبية تنبعث منها رائحة السمك المقلي، وما يرافقه من عدس وفاصولياء وغير ذلك، في الساحة التي تتوسطها نافورة كبيرة، أسرة تقدم عروضا بهلوانية، أطفال يتدحرجون في خفة وأب يحملهم ليقدف بهم عاليا قبل أن يلتقطهم في آخر لحظة، تظهر الأم فتحمل الجميع فوق أكتافها، يبتهج الجمهور، فيصفقون بحرارة، أتساءل عن علاقة ذلك بالواقع، ألا تحمل الأمهات أسرهم دون أن تنال تصفيقا في أغلب الأحيان.
أترك الساحة لأعود مرة أخرى إلى سور “المعكازين” لكن هذه المرة من طريق أطول نسبيا تمر بالمحاذاة مع مبني مديرية وزارة الثقافة، لا لأني أردت تغيير الطريق أو تمطيطه، لكن لأني تهت حرفيا عن طريق العودة، فما كان مني سوى المحافظة على مبدأ الصعود والنزول لأصل الوجهة المقصودة. أجد الشيخ في نفس المكان، لكن الغثارة في يد الشاب صاحب السيجارة، وقد انبرى يؤدي أغاني بوب مارلي وجرج مايكل وكات ستيفن وغيرهم، وسيلة جديدة لكسب الرزق، الشيخ الأوربي يتابع الغناء ويباركه عبر ترديد كلمات الأغاني، مصور مغربي متقدم في السن وربما في الحكمة أيضا، يداعب المدافع المصطفة على مقربة من السور، ويبتسم للأطفال، أفكر في طلب التقاط صورة، أخمن أن تجميد اللحظة قد يسلبها روعتها، أطرد هذا الهاجس الغبي من مخيلتي وألتفت إلى المصور فلا أجده، يبدو أن التردد يفسد علي دائما الأشياء الجميلة.
ألوح للمغني بحركة إعجاب وأغادر المكان آسفا على الصورة التي لم تلتقط، وأعود أدراجي إلى محطة سيارات الأجرة، حيث يتقاطر بعض الأشخاص الذين ربما شعروا مثلي بالحاجة إلى التوغل في مدينة طنجة، في أصيلة ينتظرني الصديق مصطفى فنخوض في مواضيع الشعر وفي أخبار شعراء يقولون ما لا يقولون، وفي مواضيع رزينة وأخرى تافهة…
أصيلة في : 14 يونيو 2023