تضاءل العالم كله في نظري حتى تلاشت رهبته ، موجة من الحزن تغلّفني ، وكل تاريخي تجمّع في لحظة واحدة .
أيها الكاتب اعرض حالي .. دوّن طلبي .
أنّى لمثلي أن يبقى كل هذه السنوات لو لم يكن لديه حق في البقاء مع ذلك الإنكليزي الذي كان يجلس تحت القبة .
أحضرَ نموذج البناء مجسّماً ، مصغّراً وملوناً ، واضعاً القبة على أربع دعائم كأنها أقلام رصاص . (لو تطاله يداي لأخذت بثأري منه ) .
كان يوماً متعباً خالياً من الأحلام ، يحيطه الهمّ من كل جانب .
هو جنرال أشقر ، متغطرس يرى في نفسه عالم بناء ، الآخرون يخافونه ، قل يتجنبونه ، حتى قومه الإنكليز . أصرّ على جعل القبة محارة مقلوبة أو مظلة من خلال حدس البنّاء . البناء الضخم بالحجر المنجور ، عالي الجدران . القبة لها وظيفة في هذا المبنى ، وتضم في داخلها فراغاً بلا بداية ولا زمان ، فراغاً وحيداً يعطيها قدسية مفتقدة في دائرة الدهر .
أقسم لك اني أوقفته ، خوذته المغلفة بالقماش العسكري ، كسرت إطارها الذي يشبه الحلقة ، انتزعت جزءها العلوي ووضعتها على الأرض ، رفض ذلك و عدَّه خروجاً وتجاوزاً .زارني في الفجر وتريث حتى انتهيت من صلاتي . ( أنا إبراهيم بلغت مشارف المدينة قادماً من بغداد بالقطار وكان الليل يغشاها مخلفاً فوق النهر غلالة من الأسى ).
عليك أن تركز اهتمامك على مركز القبة حيث يلتقي كل شيء ويتفرع .
أمامك معضلة .اجعل الأسس على شكل مربع وعليك تحويله إلى شكل دائري. طلب مني دراسة القباب .. زرت كل قبة في جامع ، زرت قباباً منسية ، زرت قباب الأولياء من مختلف العصور _ السلجوقية ، المغولية ، العثمانية _ وأنا أركز على لمسة الحجر ، أحجار يعشق بعضها بعضاً ، تتداخل مما يجعلها تزداد تماسكاً كلما وقع ضغط عليها من الأعلى . طرق سمعي من بعيد خشوع الأصوات تحت القباب الذهبية ، تمتد مع أشعة الشمس وهي تبتهل و تدعو لتملأ الطمأنينة النفوس الحائرة .
نفسي حائرة . وجدت نفسي مع هذا الخشوع والصمت احتضنه بذراعي و أدور دورات صامتة . ندم يملأ القلب رويداً رويداً ، ويغسله فيجعله نقياً عبر أنين الحزن الهابط . خلعت بدلة عملي السوداء ودرت بها أمسح منسرحا مع هذا المفتاح الأثيري الذي له القدرة على المشاركة و دحر الأخطاء .
إصبر عليَّ قليلاً ..
أسمع المدائح بمتعة .. إنها انعكاس لمتعة المشاركة تحت القباب تحرسها الشمس .. تتملكني رغبة ملحّة في أن أركع بهدوء .
أنا في محنة دائمة و امتحان مستمر و عليَّ أن أثبت يومياً اني أستحق هذه الـمنـزلة . ألا يحق لي ذلك ؟
أنا أملك كل الحق .
هو بسخريته وأنا بقلقي .
كان البناء يشبُّ من مكان إلى مكان بسرعة و أنا غير مطمئن لعمل النجار الأعرج ، تأملت القالب الدائري من الأسفل ، أربعة أضلاع مستقيمة و مطوية الى الأعلى مرتبطة بزعانف تسند انحناء الأضلاع .. محنية تؤدي صلاتها لتغطي الدائرة كلها .
الأعرج السكير لم يتخلص من بدائية خياله . جاء يعرج ( لا يوجد خطأ في القالب أنت كثير الوساوس ) . وثب واقفاً على الأخشاب وهي تلتقي عند نقطة واحدة ، ثم أخرج زجاجته الحمراء و سكب عليها خمراً :
” انظر سأعطيها تميمة ، بل أعطيها أضحية ”
يسكر الشيطان و تكف يداه و تهمدان . سال الخمر بلونه الأحمر بطيئاً … اختلت يداه ، فسقطت الزجاجة على الأخشاب ، انكسرت و تحولت إلى قطع متناثرة . كف عن تهكمه .. أضحى ايقاع يديه بطيئاً وخاملاً .. حملناه و النهار يسد آخر فتحة في وجه الشمس التي أخذت تسطع كأنها خرز مسبحة ملونة لا يكاد ينقطع خيطها ، تنفرط كأنها قطرات زجاجية ما إن تلامس السطح حتى تنـزلق مبتعدة عن ظل القبة الخشبية و تختفي ملوّحة لها بشيء من عزلتها في الفضاء .
غريب أنا هجرتني الظلال وهي تصل السماء بالأرض .
أهلاً بالعمل ، ليتك تراهم وهم يبنون و يدبكون وجداً و همّاً ، و ذلك الأشقر الذي يرطن بعصبية ينقلهم من جانب إلى جانب …
حبي المخلص لهذه القبة صامت و دفين و هامس مكسور الملامح . دربي الذي تهت في وسطه لم يوصلني إلى مفتاحي ( أضيع في خيالات عارية ) حتماً سمعت دبكات تأتي مع الظلال التائهة ، تنسكب من خلال صفير الريح القادم كهمهمة أليفة مع المد و الجزر ، كقفل كبير في المدى المتسع له القدرة على ابتلاع الأصوات .
داخلي يرتعش عندما أصغي إلى نفير البواخر العابرة . تشدني خيوط الصوت ( عند اقترابك من الماء أول ما يلفت انتباهك تكاثف الضباب والدخان مثل قبة تعلو رؤوس النخيل ) . خط من الدخان يصعد من آبار النفط ما إن يأخذ استقراره حتى يسيح في خط أفقي في جهة المدينة الغربية ، أما خط الدخان المتصاعد من جهة الشمال من محطة الكهرباء فانه يأخذ استقراره هو الآخر في الأفق حتى يتحركا معاً نحو الجنوب متخذين خط النهر والطريق العام في سـيرهما و سرعان ما يلتقيان مشكّلين حلقة غير مستقرة تحيط بالمدينة .
ألتمس في طلبي أن تعيرني أقواساً تهبط معي لتلتقي مع ظلي الحزين يطوقها أفق منكسر . البناء على شكل بهو دائري تحفّه كوى يمرّ منها الزمن ، محاط بعمودين ناقصين شكّلا تجويفاً من الداخل على شكل صدفة من أصداف البحر ( رمى ذلك الإنكليزي بنصفها ) سرعان ما تسترد انكسارها برفع العمودين إلى الحاجز الوحيد الذي يسند القبة و يحيط بها وهي ترتفع عالياً وحيدة تحرس ما حولها وتراقبه بيقظة ، وفي الوقت نفسه تهيمن على فضاء شاسع مع خيمة السماء التي يمتد أفقها ليضم المدينة بأسرها .
رفض ذلك الإنكليزي أن أرصّع محيطها الخارجي بالكلمات ، أصرّ على بقائها خالية ، بسيطة ، تشبه سعف نخلة منسرحاً ، متوّجة بقبة صغيرة على هيأة عمامة ذات لون أزرق فيروزي يكتسب تألقه عند السحر ، ما إن تستقر فوق القبة حتى تنفتح في هيأة تاج .
النوارس تحجّ إليها عندما تترك النهر في رقصها الفاجر و عندما تنحدر لتلتقط اسماك النهر وهي تشع بريقاً يتواصل مع لونها الأبيض ما إن تدور و تطلق صراخها ، صراخ الفرح و ذلك الصراخ المكتوم للضحية .
لعلك تنتظر لحظة صراخها … أنا بنيتها .. من شوقي و لهفتي أكاد أصرخ ، الصرخة تدور في نفسي داخل القبة فتجعلها تأخذ شكلها المدور بهدوء و أنا أدور معها إلى أن يتوقف أحدنا عن الدوران .
مرة أخرى أكتب لك طلباً .. فقد حرّرت عشرات الطلبات . لعل أحداً ممن جلسوا تحت قبتي يعيرني حلاً ويعتقني من أسري و دوراني .
” أنا إبراهيم محمد الكاطع المولود عام 1901 في بغداد ، قدمت الى البصرة عام 1930 لبناء قبة لدائرة الموانئ ” .
دعني أزر و أطف حول جدار هذه القبـــة ، أشمّ رائحـة الحجارة و أستفيء بظلالها مثل طائر لا عش له ، أبحث عن صوت يكتم أنفاسي ، أضناني البحث فلم يعد لحياتي معنى . أحصي خيباتي و أنتكس . استرجع أكداس ذنوبي و أنحني أقـبّل عتباتـها الخشـبية العتيقة ذات الحواف المهشمة و الملمس الخشن . أجد نفسي على الرغم من طول المدة أعرف انفصـام العتبة و عتبات الأبواب .. أعرف الممرات و انحناءاتها ، أعرف الفراغات المجهولة التي تنفتح على وحدتي .. أمسح عليها بيدي لعلي أزيل عنها غبار الهوان و أرفع وجهها المهان ببدلتي السوداء .
( برغم إلحاحي المتواصل ترددت في الصعود حيث أعلو فـوق النخيـل و البواخر والرافعات المتراصة على رصيف الميناء ) .
سريعاً ما نسيت نفسي ، نداء مرخم تطلقه الأشباح الحارسة للعتبة ، لا تبرح مكانها . لاحت لي بعد تأملي متعة كمن يبحث عن كنـز ليس له وجود و لاتصفو له النفوس بعد إعادة نسخه . يجعل من يوم واحد وجوداً لاحدود له .
( كل القباب تحتها مفاتيح فلماذا لا يكون لقبتي مفتاح ؟ ) .
أنا الذي بنى هذه القبة التي تتفيأ تحت ظلالها ، ألا يحق لي …؟
أنا أملك كل الحق ..
أقبل أن تشطرها نصفين من الأسفل أو من الأعلى ، سيّان .
يحق لي الآن ، ونحن في خريف 1964 ، و أنا أملك هذه الوثيقة بتوقيع ذلك الإنكليزي .
لي الحق .
أن أدفن تحتها .