“ليلة أخرى بطيئة ومخيفة، فهل سنعيش لرؤية شمس الصباح؟ أم أنّ الموت سيتلقفنا قبل ذلك؟”
“في الله نثق”،
انزلق صوت إسحاق ، البالغ من العمر ثلاثون عاما، والملفوف في ردائه الخشن والرثّ من القماش الداكن، فوق تنهيد زوجته سريح الجالسة بجانبه يداعب ضوءُ الفانوسِ الصغيرِ المتراقصُ أرنبةَ أنفها المحمرّ من البرد القارس، وعلى وجنتيها يبدو رذاذ المحيط الصاخب كآثار بكاء.
“سيكون لدينا يومنا بلا وجع ولا ألم”،
يضيف إسحاق وهو يمسح شعر لحيته القصيرة، يشحن قلب امرأته وقلوب المؤمنين من حولها، الراكبين معها على ألواح ودسر تشقّ الأمواج إلى العالم الجديد متأرجحة في غمرة الليل مع عويل الرياح في أعماق المياه العظيمة، تغرق وترتفع صعودا وهبوطا، كأنها تسْبح على خياشيم حيتان العنبر الجبّارة.
“سنسير سعداء في الأرض التي كتبها الله لنا،
هذه العاصفة الرهيبة لن يدعها الله تمنعنا من الوصول بسلام إلى عطيته في الجانب الآخر من الماء،
سنعبر إلى جنّته في أرضه الواسعة بأمان،
علينا فقط أن لا نركن إلى الحزن ونتركه يستلقي على صدورنا الذي ملأناه بإيمان دفعنا ثمنه باهظا؟”
وبدأ يذكّرهم بالآلام التي دفعوها منفيين في بلدان الغربة مقابل حقهم في العبادة وفقًا لمعتقداتهم وأحلامهم القوية الصاخبة والمحافظة على مثلهم العليا، وذكّرهم بالسلاسل العظيمة التي ربطتهم بالبؤس والمعاناة التي كان من الصعب عليهم تحملها إلى الحدّ الذي بلغت فيه قلوبهم الحناجر، حتّى إنّهم كانوا يشتهون موتا مرّا ولا يجدونه، خائفين من الجالسين في الظلام في مملكة الشيطان، يرعون الاثم بسوط قوانين العقوبات الشائنة أو من خلال تشريعات دموية رهيبة.
وأقسى الظلم ما جاء متلحفا بالقانون، وأوجعه ذاك الذي يسنّ باسمك، ومن القيادة التي أوكلت لها مهمّة تحقيق أهداف ثورتك مطرّزة بدمائك.
ثقتهم العمياء بزعمائهم جعلتهم يلقون بروح الثورة عند أقدامهم أمانة لديهم، فخانوا قضيّتهم وذوّبوا شموع آمالهم في الإصلاح الشامل والتغيير الذي يشعل النور في الظلام. كانوا يرغبون في اتّباع خطى الرسل وتنقية عقيدتهم واحتفالاتهم الدينيّة من التصرّفات الفاسدة والسلوكيات المنحرفة، وكان رغبة القادة الخلفية سحب السلطة الدينية إلى أراضي التاج لضمّها إلى سلطتهم الدنيوية، فلمّا تمّ لهم ذلك كانت النتيجة نهاية حزينة لثورة الإصلاح، وصفعة مدوّية للثوّار أيقظتهم من أحلام اليقظة، وألقت بهم في الشّتات مطاردين كحبات القمح على حجر الطحن، خائفين ممن كانوا في السابق إخوة لهم في الدين يرفعون نفس الشعارات ويطالبون بنفس المطالب.
وها أنّ حشدا كبيرا من هؤلاء المستضعفين قد تجمّعوا في هذه السفينة التي تشقّ طريقها في قلب العاصفة العظيمة إلى أرض الله الواسعة، مائة وثلاثون نفرا أو يزيد عن ذلك قليلا جاؤوا من بعيد، ربع عددهم نساء، منقّين في فرن البلاء ومعلّقين لعدّة أسابيع في أراجيح شبكية شديدة الصلابة كأنّها شرانق متدلية من العوارض الخشبية للسفينة، المسمّاة “زهرة ماي”.
حينما يقوم يحيى، ربّان السفينة هذه، الملآى بالركّاب، بجولته التفقّديّة ويراهم محبوسين على تلك الشاكلة، في الفراغات القليلة المتاحة التي من المفترض أن تحمل نصف العدد لا غير، يصفهم باليرقات التي ستطلق أجنحتها الزاهية في العالم الجديد، الفراشات التي ستملأ تلك البرية القاحلة بهجة وفرحا.
ما يزال إسحاق يستحضر تعليقات يحيى الساخرة ونكاته المضيئة وهو يفرقع سوطه “ذيل القطّة” في الهواء كأنّه ينشّ ذبابا يحوّم حول أرنبة أنفه، وما يزال كلامه عن الأسرّة العائمة ترنّ في أذنيه، لقد قال حينها: “نحن ندين بهذا الرخاء للوثنيين بجزر الهند الذين سرق منهم الملّاح الإيطالي العظيم اختراعهم هذا، في أولى رحلاته الاستكشافية، ومرّرها إلينا.”
كان قد فكّر في كلماته، قبل قرن من الآن لم تكن هذه الأسرّة العائمة موجودة في السفن، كان أفراد الطواقم والركّاب ينامون على ألواح بسيطة عارية، أو أكياس مليئة بأوراق الشجر الطازجة، أو القش، وفي حالات نادرة، كانوا يضطجعون على مراتب محشوة بشعر الخيل، سرعان ما تتسرّب إليها المياه أثناء العواصف والأمطار، فتتحوّل في وقت قصير إلى مناطق للأمراض المعدية والرائحة الكريهة.
الآن هو يعلم أنّ الربّان كان يتحدّث عن نفسه وعن الطاقم، فهو بإمكانه أن يستحمّ في مقصورته متى رغب في ذلك، ويتصرّف فيها بحرية تامّة كما لو أنّه في بيته، ولديه بحّارة سطح يسهرون على تنظيف رأس منقار السفينة حيث يوجد الكنيف، أمّا هؤلاء، الذين يطلق عليهم أصدقاؤهم اسم “الأنقياء الأطهار”، ويسمّيهم مخالفيهم “الانفصاليين المتشدّدين”، فمعظمهم لم يسبق لهم أن ركبوا ظهر البحر، ولا اشتمّوا من قبل رائحة أفظع من هذه الرائحة الكريهة في الحظيرة العائمة التي ينامون فيها. فهنا على متن السفينة توجد القطط والكلاب والماعز والخنازير والدجاج والطيور، جنبا إلى جنب مع البشر المصابين بدوار البحر الشديد يتقيّؤون في أواني لم يصعدوا بها منذ أسابيع إلى السطح الرئيسي لتفريغها بسبب أحوال الطقس السيّئة. والأسوأ من ذلك أنّهم يأكلون ويتبرزون في نفس المساحات الصغيرة المحدّدة لهم والتي سيّجوها بحواجز خشبيّة تحت الاراجيح الشبكية وعلّقوا عليها الملاءات والبطانيات المتعفّنة، فإن كانت الستائر الغريبة قد أكسبتهم بعض الخصوصية والستر وأخفت عوراتهم عن أعين إخوانهم المحيطين بهم، فإنّ الرائحة الكريهة المنبعثة منهم لا يمكن أن يحدّها ستار.
بدون شكّ كان الربّان وقتها يتحدّث عن نعيم البحّارة لا عن جنّة الركّاب، فأفراد طاقم هذه السفينة، التي كانت معدّة في الأصل لنقل البضائع، أيديهم مدرّبة جيّدا على تعليق الأراجيح بسرعة وربط وفكّ طرفي حبالها المصنوعة من الألياف الطبيعية في حلقاتها الفولاذية المثبّتة بالعوارض، يتبادلون نوبات العمل الليلية، وكذلك أسرّة النوم، على دقّات الجرس بعد أن يكون الرمل الناعم في الكرة الزجاجية العليا للساعة الرملية قد تسرّب بالكامل عبر الفتحة الضيّقة إلى نظيرتها في الأسفل للمرّة الثامنة على التوالي.
عندما يستلقي البحّارة في أراجيحهم الشبكيّة بين الطوابق يروحون في سبات عميق من تعب عمل يوم مرهق، فلا اهتزاز السفينة وتأرجحها لتزعجهم، ولا صيحات أوامر الربّان وصرخات مساعديه وخبطات أقدام زملائهم البحّارة العاملين في نوباتهم لتجعل نومهم مستحيلا، فبمجرّد أن تلتفّ بهم جوانب الأراجيح القماشية ينامون بأمان دون خوف من التعرّض للسقوط والتدحرج على السطوح مع المدافع الثقيلة وذخيرتها والبنادق والسيوف وبراميل الماء ومعدات خطيرة أخرى مشدودة بقوّة، بينما السفينة تضربها الأمواج العاتية والبحار الهائجة والعواصف العنيفة، إلى أن يرنّ جرس تبادل نوبات العمل والراحة من جديد، عندها ينزلقون بسرعة من شرانقهم، وينتصبون واقفين، يعالجون بأيديهم أربطة الأراجيح يفصلونها بخفّة وسهولة لتنظيف أقمشتها المشمعة، أو إصلاحها، أو طيّها ووضعها في الصناديق الخشبيّة المخصّصة لحفظها حيث توضع أحيانا الأمتعة والأغراض الخاصّة لإبقائها جافة بعيدة عن الماء.
البحّار الوحيد الذي لم يأخذ كفايته من النوم في هذه الأيّام هو سليمان، الضابط المكلّف بالمؤن والسلامة البحرية، بحّار محنك من المقرّبين جدّا من الربّان.
ورث يحيى المهنة أبا عن جد، وعندما كان في منتصف الثلاثينيات من عمره، يتصرّف بمفرده في السفينة العملاقة التي شيّدها لاستخدامها في رحلاته التجارية إلى أقصى القطب الشمالي لتصدير الأقمشة الصوفيّة المنتج الأشهر في بلاده، شاركه سليمان في بعض سفراته. ثمّ انفصل عنه حين فوّت الربّان في سفينته تلك واستبدلها بربع أسهم هذه السفينة الأصغر حجما، سفينة شراعية تزن حوالي مائة وثمانين طنًا ويبلغ طولها قرابة الثلاثين مترًا ومثلها ارتفاعا، تركه وقتها يشحن سمك الرنجة المملّح والقبّعات والخل إلى شتّى البلدان، ويجلب للملك مشروبه المفضّل عالي الجودة، والتحق بالسفن الباحثة عن الكنوز في جزر الهند والناهبة للسفن التجارية.
خلال الأشهر القليلة الماضية، عُرض على يحيى استئجار السفينة بطاقمها لرحلة طويلة عبر المحيط إلى العالم الجديد، حيث الأراضي الشاسعة والكثافة السكّانيّة المنخفضة، ورغم أنّه لا يملك تجربة إبحار سابقة إلى تلك النواحي، فقد وافق على العرض دون تردّد، ولم تكن تلك الموافقة الفورية متأتّية بسبب الوضع الاقتصادي المتدهور فحسب، الذي لاحت بوادره حين غادر المرفأ في رحلته الأخيرة لجلب بضاعة دون أن يحمل معه أيّة سلعة لمبادلتها، وإنّما أيضا بدافع الرغبة في معرفة حقيقة ما تحدث به الناس عن تلك الأراضي الخصبة ومكان تخزين الفراء والمحاصيل الوافرة التي تملكها شركة التجّار المغامرون وراء البحار. منذ أربعة عشر عاما وهم يمدونها بالمستوطنين دون توقّف، زاعمين أنهم اشتروها من الوثنيين مقابل القليل أو لا شيء، وبموجب مواثيق محفورة بعمق في سجلّات التاج، وهم بدورهم يقومون بتقسيمها ويمنحونها أسهما للراغبين في استصلاحها وزراعتها مقابل تعهد كتابي باقتطاع نسبة قارة من أرباح محاصيلهم الفلاحية لسداد نصيبهم من تكاليف النقل والأرض، ووعد بملكية ما أعطوا من تراب غداة انتهاء المدّة المتّفق عليها، في آخر سبع سنين، فيما يتحدّث آخرون عن السرقة والاحتيال على أناس مفهوم الملكية لديهم غير دارج، فالأرض ملك مشاع لا بيع فيه ولا شراء، فهل أنّ التجّار المغامرون حين يضعون علامة على الأرض، بقوّة السلاح والإبادة، تكون لهم؟
لم يفوّت يحيى الفرصة، وانتدب لها سليمان، كانت لديه خبرة سابقة في الابحار على طول الطريق التجاري للمحيط إلى العالم الجديد، فهو قد قاد إلى هناك إحدى ناقلات المستوطنين الجدد، ومنذ فترة قريبة كان في مزرعة التجّار المغامرين للمرّة الثانية، المزرعة الوحيدة في ذاك الخلاء البعيد على بعد آلاف الأميال في الجانب الآخر من المحيط، وجهتهم الأصلية لهذه الرحلة، والتي تبدو، من خلال كثرة الرحلات الموجّهة إليها، في حالة توسّع دائم.
ولكن الظروف التي مرّ بها سليمان في ظل هذا العبء الإضافي غير سابقاتها، فعواصف الخريف شرسة تكاد حين تبدأ فجأة لا تنتهي بسرعة، والأدهى من ذلك والأخطر أن المدّة المقضّاة إلى حدّ اليوم في الماء قد فاقت التقديرات التي تَحَدَّدت على ضوئها كمية الزاد المعدّ للرحلة، وإذا لم يظهر الساحل في وقت قريب فقد ينفد منهم الزاد، ويحدث العصيان والفوضى. وعندئذ لن تنفع لائحة عقوبات الربّان للسيطرة على التمرّد إذا ما وقع، فالنفوس كقطط كبيرة في بيت من القش، تدربت على حمل شموع فتيلها متوهّج، فاذا ما مرّ من أمامها فأر رغباتها نسيت انضباطها وانساقت وراء غرائزها. والخطر الأكبر الذي زاد في قلقه وأسهده التفكير فيه أن يؤدي سوء تقدير الحساب إلى انحراف مسار السفينة وانجرافها مع الرّيح الغاضبة مئات الأميال نحو الشعاب المرجانية، حيث مقبرة السفن.
كان لدى زهرة ماي الخشبية الصامدة طاقم جيّد: مدفعي بارع، طبيب جرّاح، طبّاخ ماهر، نجّار متمكّن، متسلّقو حبال، ماسحو أسطح، ومساعدان اثنان للربّان، سليمان أحدهما، مساعده الأوّل، منذ مدّة جفاه النوم، طار من عشّه، يشعر بأنّ القادم أسوأ، قريبا ستنفلت زمام الأمور وتعمّ الفوضى. تنهّد، نفث هواء حارا مرّ من حلقه الجاف، أعاد تقييم الموارد والتوجيهات التي أصدرها. كاد عقله يضجّ من التفكير والتخمين، تساءل عمّا إذا كانت الأوامر التي قام بتوجيهها خاطئة، حاول أن يأخذ خطوة استباقيّة، من الآن فصاعدا الأكل والشرب سيكون بمقادير ضئيلة، طلب من الضابط مسؤول التموين أن يقتصد في الطعام دون أن يشعر الطاقم أو الركّاب بخطورة الموقف، ثمّ صعد إلى السطح الرئيسي لتهدئة أفكاره المضطربة، وقف أمام مقصورة القيادة يحدّق طويلا في ماء المحيط يغسل الحاجز اليدوي على طول جانب السفينة، ثمّ نظر إلى الأشرعة المطويات. الشراع الرئيسي ملقى مع صاريه المكسور قريبا من هناك. قبل أسبوع تحطّم الصاري الرئيسي، ولم يجد الطاقم سوى رافعة بناء أحد الركّاب لتعويضه. سمع لطخة قويّة على الماء أتته مع ضجيج العاصفة وصفير الريح في أذنيه، وقف ساكنًا للحظة ناظرا إلى الزبد المتناثر خلف الحاجز، تخيّل أنّه سمع صوتا خافتا يصرخ هناك مستغيثا وقد تلاشى على الفور، كان الظلام يكاد يكون دامسا، لا يمكنه رؤية أي شيء، ولا حتّى البحّارة المتابعين لخطّ سير السفينة، يعلم سليمان أنّهم متمترسين جيّدا بمصدّات الرياح غير بعيدين عنه، لكنه سمع الاستغاثة الآن مرّة أخرى. بدا الصوت الخافت قريبا من المكان الذي يقف فيه وواضحا. تقدّم خطوات إلى الأمام ووضع ساقه اليمنى أمامه في زاوية قائمة مع فخذه، وانحنى فوقها وهو يمدّ بصره بعيدا إلى رؤوس الأمواج المرتفعة التي أضيئت على لمعان البرق، حدّق فيها قليلا توقّفت أنفاسه فجأة، وقفز قلبه تحت لسانه، وتحرّك عصب في خدّه وهو يطلق صرخة مذعورة: “اللعنة!”، كان هناك جسم كالدلفين، ذهبيّ اللون، يطفو مع الموج ويغطس، يتبع المركب في اهتزازاته، ركض إلى مقصورة القيادة، دق الجرس دقات سريعة ثم عاد جريا يقفز في مواجهة الريح. توقّف عند الجزء الخلفي للسفينة وراح ينظر حوله بحثا عن حبل متين، وجد هناك كومة قام بمسحها بدقّة، انحنى عليها أمسك بطرف الحبل المناسب، وقذف بالطرف الآخر إلى الأعلى نحو الأمواج المتلاطمة وهو يصيح: “تمسّك بالحبل! تشبّث به بإحكام!”، وقبل أن يشرع في سحب الجسم السابح في التيّار كانت سواعد البحّارة المفتولة قد انتزعت منه الحبل ودفعته جانبا.
“اسحبوا يا رجال! بقوّة أكبر!” دوّى صوت الربّان في أذن سليمان فانزلق الأخير درجة واستدار، استطاع أن يرى الحبل مستقيما وصفّا من القامات المديدة تشدّه، وعند أقدام الرّجال، داخل أكثر العنابر ازدحاما، مايزال إسحاق جالسا مستندا على الجدار السميك العازل، مستمرّا في خطبته وسط الجموع المتكدّسة الضجرة التي ملّت الجلوس متقرفصين بجانب أدباشهم وحيواناتهم في حيز ضيّق كهذا مثل حارقين يفرّون من أوطانهم إلى بلد اللجوء في شقف مركب ليس لديهم ما يفعلونه سوى الحديث واللعب.
“مشيئته أن نمر من خلال المعاناة والموت من أجله، ومَنْ أمكنه تحمل تلك المعاناة ساعيا للعيش على أرض الله كما أرشدنا، يستطيع أن يتحمل هذا الوضع بسهولة.
هل هذا هو الأسوأ؟
بالطبع لا.
يمكن أن أصف لكم الظروف القاسية التي عشناها لمّا طالبنا بإصلاح دور العبادة، وتأكّد لنا أن الإصلاح من الداخل ميؤوس منه.
لقد أثقلونا بتعاليم من وضعهم نسبوها لله وقيّدونا بأفكارهم، ولمّا حاولنا أن نؤمن بما كنّا نعتقد الإيمان الحق ألهبونا بسياطهم لإجبارنا على اتّباع هواهم، وهذا سيء للغاية.
حين قطعنا جميع الروابط مع معابدهم، وسرنا في طريقنا إلى معبدنا الخاص، أنكروا علينا ذلك، وعاملونا بقسوة شديدة كي نتّبع الطريق الذي يسلكونه .. لماذا؟ ماذا لو كانت الظلمة في آخر طريقهم؟ لم يوقفوا رغبتهم في أن نكون معهم، ولا نرضى أن نمشي في ركابهم، لا لأنّ الملك إلى جانبهم، وإنّما لأن السبيل الذي نمشي فيه هو الحقّ.
اعتقلوا العديد من أعضاء جماعتنا وتركوهم يموتون جوعا في السجون.
وحتّى بعد أن حاول البعض منّا مغادرة الوطن متخفّين، خانهم قبطان السفينة الذي وافق على نقلهم إلى بلدان اللجوء على حدود بلادهم، وسلّمهم إلى سلطات الوطن. وحين تمكّنّوا من الهرب في مجموعات صغيرة، وسمح لهم بحرية العبادة، فرض عليهم العمل في أدنى الوظائف، وحرموا من العمل في ما يتقنونه لكونهم أجانب.
تذكروا ما حدث لإلياس الذي دفن ابنته سرّا دون أن يؤدّي عليها طقوس الدفن الالزاميّة، كيف حاكموه ووجدوه مذنبا بارتكاب الزندقة وغرّموه ووضعوه تحت أعينهم ليلا نهارا وحرّضوا عليه صبيانهم يصيبون رأسه بالحجارة، وحرموه من حقه في الوطن.
فما الذي يمكن أن نعاني منه أكثر؟ هذه العواصف!
الأجداد قالوا: “في أرض الدفن لا تشعر الروح بخشونة الكفن ولا ببرودة الطين. فلنذهب، إذن، إلى مصائرنا ثابتين جريئين مثل رجل ميت سار دون خوف إلى حيث سيذهب الجميع.”
قال أحدهم: “ليت لي شيئا من إيمانك لأحصل على مثل طمأنينتك، أنا ثقتي كبيرة بالقبطان بما لديه من خبرة وتجارب لكن الشحنة الزائدة غير المتوقعة تخيفني، فما الذي سيفعله القبطان أمام هذه المصيبة؟”
جاءه الصوت من خلف الستارة حزينا. كان يشير إلى تعطّل “زهرة الحواشي”، السفينة الصغيرة القادمة من البلدان المنخفضة، بلدان لجوء عناصر الجماعة المضطهدة، والتي كان من المفترض أن ترافق “زهرة ماي” للوصول إلى العالم الجديد قبل منتصف الخريف.
كان صباح مغادرة السفينة للميناء مثل كل صباح صيفي جميل، أبحرت في سلام مع البحر، على متنها ثلاثون راكبا، إلاّ أنّها تعرّضت لأعطال فنّية تسبّبت في عودتها إلى الميناء مرّتين للتصليح، ممّا انجرّ عن ذلك حدوث تأخير في زمن الرحلة، ونقص في كمّية المؤونة، حتّى إنّ “زهرة ماي” وهي تنتظر شقيقتها في الميناء طرحت بعض حاجيات الرحلة للبيع لكي تدفع رسوم الإرساء. وبعد شهر من المحاولات الفاشلة تبيّن لمالك “زهرة الحواشي” أنّ سفينته غير صالحة للإبحار، فألغى الرحلة وقرّر بيعها حطبا للتدفئة، حينئذ استخدم وكيل شركة التجّار المغامرين، مموّلي الهجرة والاستقرار في العالم الجديد، سفينة واحدة للرحلة، أبحرت في نفق طويل مظلم بحمولة إضافيّة من الركّاب وهي تتأرجح في المحيط ترقص كلّما هبّت الرياح.
استدار إسحاق ، وحرّك عينيه فاصطدمت نظراته بالأغطية العازلة، ثمّ رفعها إلى أعلى حيث الأراجيح الشبكيّة، وقال: “أتعلم، القبطان الذي تستمدّ منه ثقتك، هو مَنْ أرسله الله لتوجيهنا وإرشادنا، وحتّى هذه الرياح العاتية التي تصفّر في غيوم العاصفة ستقودنا بأمره إلى ملاذنا الآمن لكي يكون ما أراد الله أن يكون، فنزداد به ثقة ويقينا”.
وشعر برؤوس أصابع يد زوجته تضغط بشدة على كفّه المرتجفة وكأنّها ترجوه أن لا يتوسّع في مجادلة “الغرباء”، فليس كل الراكبين من أبناء الطائفة حتّى يجبرهم على الاستماع إليه. فاختصر كلامة بقوله: “لو أنّ القبطان يعلم أن زيادة الشحنة ستمثل خطرا على سلامة السفينة لرفض الابحار.”
ولم يزد على ذلك.
في تلك اللحظة، سمع إسحاق قعقعة غطاء باب حجرة الركّاب وهو يُفتح بعنف، تسللت منه ريح باردة صفعته في خدّه ونفخت في حواجز الكتّان فرفرفت كشرائط حول رأسه وتأرجحت أمامه، واندفعت إلى أذنيه طقطقة صواري السفينة وأنين الحبال وتأوّه الأخشاب المتوتّرة وضجيج أصوات صدى أقدام تتحرّك بصعوبة، ألقى نظرة خاطفة على المدخل فرأى القبطان يهبط مع رذاذ البحر من السلّم، بعرض أكبر قليلا من عرض كتفيه، وظله الطويل يسعى بين يديه، وفي أعقابه يترنّح أحد البحّارة وهو يمسك بمعصم شاب شاحب الوجه مبلّل الثوب والجسد هجره اتزانه. عند آخر درجات السلّم، توقّف مقوّس الظهر واستدار في مواجهة البحّار، بدا غاضبا ومصدوما، عيناه تشعّان مثل حديدة متوهّجة، تلتهمان وجه الجسد المنقوع في الماء المالح، يتوق إلى دفن أسنانه في لحمه المرتجف، لقد تجرّأ وخرج في العاصفة إلى سطح السفينة لغسل صحونه وأوانيه الخشبيّة متجاهلا الأوامر بعدم الخروج، فحملته الريح وطارت به بعيدا، ركلته كالكرة في المحيط فغمره الماء لفترة طويلة. وبينما هو يرتعش خلف السفينة يقاوم ببطء ويتلوى كالثعبان ممسكا بطرف حبل الرايات الطليق، كانت الأسماك تراقبه وتنتظر فتور عزمه، إلى أن تمّ إنقاذه في الوقت المناسب.
ما تحدّث به الشّاب وعيناه مضطربتان يحاول منع نفسه من الارتعاش، أنّه بينما كان يميل فوق حاجز السفينة ليغمس الصحون والأوعية في الماء، انزلقت قدمه، وسقط في المحيط، وهي رواية لم تخمد غضب القبطان، فأيّا كانت الطريقة التي سقط بها: طيّرته العاصفة أو جرفته السيول المتدفقة على السطح، فهي ليست مهمّة، المهم عنده أنّ هذا الأحمق قد كلفهم ما يكفي من المتاعب وعرّض الطاقم إلى الخطر من أجل إنقاذ حياته، فهو إذن يستحقّ العقاب والتأديب. تفحّصه من جديد، ثمّ نظر حوله إلى الركّاب الذين أهملوا ما في أيديهم، وتنبّهوا بكل حواسهم يراقبونه جميعا، فلم يُسمع أي صوت إلا بكاء خافت لرضيع، أو أنين المرأة الحامل المستلقية على ظهرها في الحيز المخصص لها في أقصى الحجرة، كانت مرهقة جدا، قد خبّأت رأسها في أعماق كيس وسادتها تقضمه بأسنانها لتخفّف من ألمها وأوجاعها بشكل مثير للشفقة.
لم يستطع الرجل الماسك بيدها التحمّل، فصرخ متذمرا وهو يدفع للخلف شعرها عن جبينها، ويمسح بمنديل قذر العرق النّاز من جبهتها الرطبة:
“ما الجديد لديك، أيّها القبطان؟ متى تنتهي هذه الرحلة كي تضع زوجتي طفلها على اليابسة؟”
يملأ صوتَه ألمٌ حارقٌ وندمٌ، ومن خلال الصمت اللاهث في الحجرة، أجابه القبطان بصوت خشن:
“لا تقلق، سيّد أيّوب، سنصل قريبا إلى العالم الجديد، فقد قطعنا، إلى الآن، آلاف الأميال. ولا شيء يمنع زوجتك من أن تضع مولودها في السفينة.”
عند سماعها لمقترح القبطان، تحاملت المرأة على نفسها، رفعت نصفها الأعلى على مرفقيها، وحدّقت في وجه زوجها بعينيها المنتفختين. وأطلقت غضبها: “أفترض أنه لا يعرف أي شيء عن رحلته، أسابيع عدّة ونحن في هذا المحيط ننحدر في المجهول دون رجعة، ومع ذلك سأترك جنيني يرفسني، يمزّق أحشائي، سأبقيه مشدودا إليّ ينمو ويبدّل في شكلي السفلي، أخنقه في رحمي حتّى لا ينزلق بين فخذيّ، ولادته في السفينة تفزعني، أيّوب. ماذا لو أسقطته قطعة لحم بلا حياة؟ هل سأجعل بطن الحوت قبرا له؟ لا أريد أن أرمي بمولودك في البحر، أريد أن أحفر له حفرة في الأرض أدفنه فيها وأعلّم على قبره بشاهد أعرفه به كي أزوره.”
وغصّت بكلماتها وكأنّ حلقها سدّ بضفدع ضخم.
شعرت بحركته في بطنها وبمخاض قريب، فأسرعت تسقط أعلى جسدها على الفراش وتبكي. قال أيّوب يائسا وهو يطوي العباءة حول ذراعي زوجته البارزتين: “وإلى متى ستقاومين مجيء مخاضك؟ لو لا الوقت الذي ضاع في الإنتظار، وتلك الزيادة في العدد، لكان وضعنا أفضل.”
ودون أدنى تعبير في الصوت أو الملامح، استدعى القبطان صبيا من الداخل قادرا على أن يجول بخفّة تحت السقف الواطئ دون أن يضطرّ إلى تقويس ظهره، وطلب منه مساعدة الشاب للوصول إلى أرجوحته الشبكيّة.
“اذهب واعصر ثيابك”،
خاطب القبطان الشاب ووقف منتظرا. مرّت دقائق ولم يتحرك الفتى، فتزحزح القبطان في الممرّ الضيّق، تنحى جانبا حتّى التصق جسمه بالهيكل وتركه يتخطّاه إلى حيث يقف الصبي في انتظاره.
وحين دفع البحّار أمامه، وأسرّ في أذنيه أن يستدعي الطبيب الجرّاح بسرعة لمعاينة المرأة الحامل، همّ بالصعود إلى السطح، فسمع الصوت المشاكس يسأله من بعيد: “أيها القبطان، ألا ترى أن السفينة فائضة الحمولة”، فتبسّم الربّان وردّ بصوت عال: “عندما أحتاج لتخفيف وزنها لن أتردد في إلقائك في البحر، سيد يعقوب”، ثمّ غادرهم.
***
أصبح اليأس جحيما في عيني المرأة الحامل، وارتفع الضغط أكثر ممّا يمكن أن يتحمله دماغها. فصرخت: “إنّه يقضم أحشائي، أيّوب، إنّه يفترسني، سيفجّرني أنا والدته”، فيعضّ أيّوب على شفته ويقول متوسّلا: “لا تعاندي، ريبيكا، ادفعيه، تخلّصي منه، مكانه ليس هناك”.
شعرت المرأة بآلام في ظهرها فوق العصعص قليلا، وبتشنجات الحيض القوية كأنّ أحدا يحرقها ويمزّق أنسجة أغشيتها الداخلية. كان الجنين قد اخترق المضيق من المجال المفتوح الذي لا يوجد به ظل، ساعد في نقله أسفل قناة الولادة موجاتُ التقلّص، فأطلّ برأسه من حلقة حوض الأمّ، وانثنى وعلا بكاؤه، وحين تلقّفته سريح عاريا ملوّثا بمشيمته وأمالته إلى الأمام لاستعادة وضعه الطبيعي مع الأكتاف، وانتزعت حبله السرّي، وفصلته عن الأمّ بلحمه وعظمه، استردّت الوالدة شكلها المألوف، وعادت إليها صورتها اللطيفة بصدرها المنتفخ، فأحسّت، بالجوع والعطش دفعة واحدة، وبالبطن خاليا وباردا.
حملت سريح الرضيع الباكي بين ضراعيها بعد أن لفّته بسرعة بوشاح ممزّق استخدمته كشريط تقميط، وبذيله مسحت وجهه الناعم، وقبّلته قبلة ترحيب كعنصر جديد ينضاف إلى جماعة السّابحين في المحيط الغاضب، ملأت أنفها برائحته ممتنّة إلى الخالق في دعاء صامت، والمولود لا يزال في يدها يصرخ، فقامت برفعه عاليا ودوّحت به يمنة ويسرة، هدهدته لتسكب الصمت في حنجرته، وهي تقول: “ياه! صبيّ ضعيف وجائع .. انهضي يا أمّه فاطعميه!”، ولمّا رأتها قد استوت في جلستها وتهيّأت لاستقباله، وضعته في حجرها، ثمّ التفتت إلى السيد أيّوب، وغمرته بابتسامتها المهنّئة: “مبارك لك هبة الله هذا، سيد أيّوب، بماذا ستدعوه؟”، وتعالت أصوات الحشد من حوله: “وليد مبارك، سيّد أيّوب.”، فغمغم وهو ينظر إلى الصغير يرقص على صدر أمّه: “لا أدري هل أفتخر بولادته في عرض البحر أم أحزن، ولكنّي سأترك للمبجّل عرّابه، وقائدنا إلى الحرّية، اختيار الاسم”، وصمت.
لم تخفِ فرحتُه بولادة طفلِه حِدّةَ إحساسِه بالألم، لو لم يكن يعيش وضعا استثنائيا لما حضر السيد أيّوب مخاض زوجته في ركن عنبر ركّاب “زهرة ماي” القذر. في الوضع الطبيعي لا يسمح للزوج بتوفير الدعم النفسي لزوجته خلال الولادة، ويجب عليه أن ينتظر قَلِقًا في غرفة أخرى أو في أحد المجالس، إلى أن تأتيه الإشارة بالبشارة، ولكنّ هذا الحمل الذي جيء به من أرض اللجوء البعيدة قد وُضع أثقالُه للتوّ في قلب سفينة تائهة، حيث سيمثّل موضع الولادة إشكالا حقيقيا في تحديد موطن الصغير وجنسيته، بالإضافة إلى موطن آبائه، إذ أنّه والجماعة قد جمعتهم مشيئة الله من الشتات التي تجلّت في قوّة الكلمة التي نطق بها إلياس، الشيخ الصالح، عندما اشتكى له إسحاق الفتنة التي لا تنتهي منذ أن غادروا قراهم ساخطين على السلطة الوثنية الفاسدة، رافضين إعلان الولاء لها وانتقلوا إلى تلك البلدة الفقيرة في بلد اللجوء، وهم يأملون أن يكونوا أحرارا في عبادتهم بالطريقة التي يعتقدون في صحتها وفي المعبد الذي يشيّدونه بأيديهم، على نقيض البعض من إخوانهم الذين يشاركونهم نفس المآخذ وخيّروا أن يعملوا على إصلاحها من الداخل.
يذكر إسحاق أنّه قال له: “نحن نسقط يوما بعد يوم. ونداس مثل طين الشوارع بسبب صوتنا المخالف الذي رفعناه، ولن يرتاح خصومنا حتى يذبحوننا أو يتاجروا بآلامنا من أجل الثراء وحياة حلوة يعيشونها، هل علينا أن نستقيل من الحياة أو أن نخفت في الوجود حتّى يستمتعوا بملذّاتهم؟ ستجد هناك من هو على استعداد لكي يفعل ذلك، فيطأطئ الرأس ولا يحرّك الجناح أو يفتح الفم أو يختلس النظر، أمّا أنا فلا، لقد عشت ما يكفي من الآلام ورأيت ما يكفي من الإهانة، ولن أصبر”، وحين تكلّم إسحاق بتلك الكلمات، رماه السيّد إلياس بنظرة طويلة ثاقبة وسأله إن كان يعلم معنى الهجرة، فبُهت عن الردّ، لم يفهم العلاقة بين الطلب وتفصيل الجواب، فظلّ صامتا، سأله إلياس من جديد: “ألم تقرأ كتاب المحمديين؟”، فأومأ برأسه نافيا. تابع إلياس أسئلته: “ولا في تاريخهم؟”، فتمتم إسحاق خجلا من ضحالة معرفته: “لا، لم أطّلع على آثارهم”. فقال إلياس مستنكرا: “مع أنّ أتباعه الترك يحاصروننا من الجنوب! وأنت رجل مثقّف”، سكت قليلا يحدّق فيه لبرهة، تنفّس وابتلع ريقه، ثمّ أضاف: “الهجرة تُشفي الأذى، إسحاق. الهجرة شفاء للنفوس المجروحة”، وحدّثه عمّا وجده في كتاب المسلمين قبل عشرة قرون، كلمات كأنها نور من سنن الكون، كانت تقول: “وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ يَجِدْ فِى ٱلْأَرْضِ مُرَٰغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً”، وربطها بهجرة الاسماعيلي من موطنه بمكة إلى مدينة الأنصار، وما تحقّق له من قوّة بعد ضعف، وعزّة بعد ذلّة.
روى له إلياس بإيجاز أحداث تلك الأيّام كاملة، وأنهاها بالقول: “إن كانت السّياط تجلدنا فستجفّ جلودنا، ولكن قلوبنا ستنزّ قيحا وعذابا لو اتّبعنا أهواء المفسدين، يذيبون بخطاياهم الشمعة المشتعلة في نفوسنا ويطفئون بسوء أعمالهم إنارتها الدائمة، سنهاجر إلى العالم الجديد لكي نحافظ على أنفسنا طاهرين غير ملوّثين.”، وأخبره بالإجراءات المتّخذة، فقد أعطى أوامره بالتفاوض مع شركة التجّار المغامرين، الداعمين الماليين للعمل في المستوطنات الموجودة خلف المحيط، وأعلمه أنّه قد كلّف بها السيّد إبراهيم، أحد أبناء الجماعة المخلصين وصاحب أسهم في الشركة، فالفكرة فكرته، وقد توجّه منذ أيّام إلى الوطن لترتيب الإتّفاق، وعندما جاء إلياس على ذكر دعوته للنقيب إدريس ليقوم بمرافقتهم كمستشار عسكري للجماعة، انتفض إسحاق لا إراديا كالملدوغ وقال بارتياب: “هل يمكن الوثوق به؟ هذا النوع من البشر بإمكانه أن يفسد أحلامنا”.
كان إدريس ضابطا عسكريا معروفا لدى الجماعة هناك في ذاك الحي الفقير الهادئ من بلد اللجوء، حيث كانوا يتمتعون بالأمن والحرية الدينية إلى حين، قبل أن يهبّ عليهم إعصار الحرب لقمعهم واقتلاعهم من جذورهم حين تكاثروا واكتسبوا أتباعا جددا، فالملك، المحب لجمع السلطتين الدينية والسياسية في يده القويّة، بادرهم بالقتال خوفا من أن يتسبب نموّهم في تمرّدهم واضطرابات في منطقة نفوذه، كان في ظاهره يدافع عن دين الدولة وفي باطنه هوى في نفسه.
تنهّد إلياس وأسقط نظراته اللامعة في عينيّ السائل، وقال: “بالمقارنة مع المخاطر التي نتوقّعها، هذه مشكلة صغيرة مقدور عليها، رغم قتامتها. سأقول لك بصراحة وجرأة، إنّنا في القريب العاجل سنواجه أيّاما شاقّة وأوضاعا سيّئة، ولو بقينا ننتظر حتّى نسيّطر على خوفنا ستتعقّد الأمور. دعني أقول لك بأن الشيء الوحيد الذي يجب أن نخافه هو الخوف نفسه بينما الرب لا يزال يقدّم لنا فضله ونحن بقلوبنا المتوهّجة نحمده، كنّا ندرك، منذ مجيئنا إلى هنا، أنّنا مجرّد ورقة سياسيّة ظرفيّة يستخدمها بلد اللجوء للضغط على الوطن في حرب باردة تدور في الخفاء، ومواجهات سرّية غير معلنة رسميا للنفوذ والمصالح، حتّى إذا استنفدت ورقتنا غرضها واهترأت ألقوا بنا حطبا في معارك أخرى، أو سلّمونا إلى أعدائنا عربون اتفاق بينهما ومصالحة قد لا تدوم، نحن بالنسبة إليهم ورقة تفاوض لا غير ومصدر عيشهم وثرائهم، هذا نعلمه ونتابع أخبارهم لنفهمهم. أُخْبِرنا أن الجوع والنار والطاعون قد أدّى إلى إفناء سكان الأرض التي وعدنا بها، وأنّ هذا هو الوقت المناسب للهجرة، هم يبحثون عن مال سخيّ وربح مغرٍ وجدوه في سواعدنا، ونحن نبحث عن الراحة والقيم النبيلة وجدناها في مطالبهم. سعادتهم تكمن في حيازة المال وسعادتنا في عبادة الله، تبادل مصالح لا غير وثمن للعقيدة، والمصلحة أقوى ضمان يدعوهم إلى عدم التفكير في أذيّتنا. ومع ذلك فالربّ معنا والسيد إدريس القوّة التي ستمنح لنا في صورة تعرّضنا إلى هجوم خارجي، هو شخص جيّد، سيّد إسحاق، خبير في شؤون القتال واتخاذ التدابير الدفاعية والتحصينات. إن كنّا هنا نخوض معركة أخلاقيّة فإنّنا هناك سنحتاج لنقاتل من أجل وجودنا في المستوطنة وحماية أرواحنا وممتلكاتنا، من الضروري أن تكون لنا قوّة للقتال من أجل أن لا نرى مثل ما رأينا مرّة أخرى. إذا أردنا أن نتبادل الحديث فيما نعتقده بلا خوف فلنذهب بعيدا إلى الأمام، إلى برّيّة عظيمة لن نرى فيها أطفالنا ونساءنا مرّة أخرى أبدا، سندفن ذكرياتنا الحزينة هنا، سيّد إسحاق، ونذهب بعيدا ولن نأخذ معنا إلّا ما نحتاجه في العالم الجديد، إذا سارت الأمور بالشكل الصحيح سنحترم واجباتنا التي سنتعهّد بها فلا يمكننا أن نأخذ فقط ولكن يجب أن نعطي أيضًا، ونجازف، سيّد إسحاق، ونجازف.”