سأشرع على بركة الله -ولا أظنني تسرّعت في الأمر- في سرد خواطر مختارة أو قل مبعثرة، من سيرتي الذاتية..خصوصا وأنني على عتبة الخمسين -ولا أحفظ حتى الآن دعاء مَن بلغ الأربعين- ولعلّي أختزن أوجاع إجازة جامعية باطلة، منذ صيف 1996 ويوميات أبوية عنيدة تطمح للبطولة..!
لا أذكر صراحة متى أصبت بلعنة الكتابة.. غير أني لا أنكر إصابتي بشغف القراءة بين عشية وضحاها، وبالضبط حين ظهر الأستاذ عبدالإله غاوش في السنة الثانية من حياتي الجامعية كصديق متعاون ومعلم متهاون..! فهذا العبد للّه جعلني أكتشف دهشة القراءة في حضرة الكلمات وسحرها الشامل حتى في حالات الأخطاء المطبعية النادرة والتأملات الانطباعية الفاتنة..لم يكن ظهور الكاتب والسيناريست عبدالإله غاوش في وجودي مجرد مصادفة..بل كان مكافأة مبكرة لي من القدر لأعيش حياة ثانية قد تعوضني عن استسلامي لوقائع وعقوبات مرحلتي الأولى في مسيرة الوعي والوجد والفقد..والواقع أني لم أكن أتمنى أكثر من ذلك ولا أستحقّ أقلّ من ذلك..! ولديّ اللحظة شعور قوي أني سأتورّط في سرد الحقائق الغائبة وتغييب بعض السطور الغالية..كلّ شيء بدأ فجأة بقنينة “موغرابي” في أحد الأيام من شهر مارس عام 1993 كان الجو شبه قارس، وكنّا وراء السور الخلفي لمؤسسة البشير الخاصة للتعليم بالدفع المسبق..واكتشفنا مبكرا، نحن الأربعة، أن رجال الأمن الوطني أو بالأحرى أصحاب الحال كانوا يرفعون، بعد حرب الخليج الأولى، شعار: “دعه يشرب دعه يسكر..!” فكان طبيعيا أن تغيّر الكأس من يد إلى يد بحثا عن بطاقة التعريف الوطنية في أحد الجيوب لتسلمها لرجل الأمن من أجل تحقيق الهوية كإجراء روتيني أو كمصدر رزق تكميلي..! بل وجرت العادة أن تسمع بذهول ومكر، وتحت تأثير الكؤوس الحمراء، مَن يتجرّأ على قول: “الشاف تاع والو..!” قبل أن يستدرك بخضوع ماهر: “والو ألشاف..عَ تانشربوا..!”