حوار مع الشاعر والكاتب وديع شامخ
وديع شامخ
حاوره: مازن لطيف
* المنفى ليس مناسبة للرثاء… بل تجربة بحث عن آفاق واسعة
* المشروع الادبي هو سلسلة من النصوص والتجارب المُنتجة في مشغل المبدع
*- الكتابة عن نصوص الأخرين تنطلق عندي من الحب أولا ..
*- الابداع لا يولد من فراغ وهو ليس هبّة مجانية
*- تجربتي الشعرية تنضج في كل خطوة ابتعد فيها عن المؤثرات الضاغطة على حياتي النصية.
تقديم
أيّة كتابة هي محاولة للبقاء ضمن فضاء الإبداع الكّلي، وإذا ما استعرنا من بورخيس قوله” كلنا نكتب كتابا واحدا” فهذا يعني أننا ـ من تورّطنا في الدخول إلى مملكة الخيال ـ سوف نحمل مشاعلنا المنارة بزيت أرواحنا للوصول إلى الكتاب .. الكتاب الطرس، الذي نتناوب حفر هوامشنا عليه. لذا فالنصّ سوف يأتي خديجا ومشوّها وناقصا وفاقدا للأهلية، إذا لم يصطبغ برغبة الكاتب في البقاء، وقدرته على التنوّع والثراء.. الإبداع لا يولد من فراغ وهو ليس هبة مجّانية… هكذا يرى الشاعر والأديب وديع شامخ علاقته بالنص والإبداع عموما. والشاعر وديع شامخ من مواليد العراق – البصرة، اصدر في حقل الشعر 1- سائرا بتمائمي صوب العرش، مجموعة شعرية عام 1995، 2- دفتر الماء.. مجموعة شعرية عام 2000 وصدر له في مجال التاريخ (الإمبراطورية العثمانية من التأسيس إلى السقوط) وكتاب (تاريخ الأندلس من الفتح الإسلامي حتى سقوط الخلافة في قرطبة) وله العديد من المخطوطات الشعرية، ورواية مخطوطة بعنوان ” العودة إلى البيت”، كما كتب العشرات من الدراسات في حقل النقد الأدبي والحقل السياسي …وله مجموع شعرية ستصدر قريبا عن دار التكوين في دمشق بعنوان” ما يقوله التاج للهدهد”.. كان لنا هذا الحوار مع الشاعر الذي يقيم حاليا في استراليا – مدينة بيرث .
*- أيّهما أهمّ في الإبداع الأدبي من وجهة نظر الشاعر العراقي وديع شامخ الخلفية النظرية أم النصّ والإبداع؟ وهل تمتلك مشروعا جماليا يكسب نصوصك خصوصية وتفردا؟
— في الحقل الإبداعي لا توجد مفاهيم مطلقة أو حكم قيمة ثابت أو معيار أحادي لولادة التجربة النصية، فالنص المولود هو بالتأكيد حصيلة تراكم نوعي كبير لتجارب وأنوات وذوات وكتب وحياة. .
أية كتابة هي محاولة في البقاء ضمن فضاء الإبداع الكلي، وإذا ما استعرنا من بورخيس قوله” كلنا نكتب كتابا واحدا” فهذا يعني أننا، الذين تورطنا في الدخول إلى مملكة الخيال، سوف نحمل مشاعلنا المنارة بزيت أرواحنا للوصول إلى الكتاب .. الكتاب الطرس، الذي نتناوب حفر هوامشنا عليه. لذا فإن النص سوف يأتي خديجا ومشوها وناقصا وفاقدا للأهلية، إذا لم يصطبغ برغبة الكاتب في البقاء، وقدرته على التنوع والثراء.. الإبداع لا يولد من فراغ وهو ليس هبة مجانية، كما أنّ وادي عبقر وأشباحه وشياطينه قد صارت أطلالا أمام التعقيد الذي نعيشه والكشوفات العلمية والنصية الأدبية في تأكيد حقيقة، إن عقل المبدع ليس مرآة عاكسة لصور الواقع، ولا هو لاقط ومستقبل لموجات آتية من عالم خارجي تماما.. المبدع في النص هو خلاصة، ومصهر، ومنجم.. يقترن النص عند المبدع بالجنون والفوضى كما يرتبط بالتنظيم والصرامة، أو هي فوضى داخل نظام بحسب سوزان برنار. والذين مارسوا هذا التعسف والقسر في الفصل بين الخلفية الفكرية للكاتب ونصوصه إنما ينطلقون من وهم لا يقل سفاهة عن وهم الكائن الذي يرتبط شرطيا بمثيرات معينة كـ” الخمر والمخدرات، والاجترار، والصنعة.. ووو…” لإنتاج نص ما.
قد تكون هذه المثيرات مهمة في إطار التجربة الكلية لمراحل إنتاج النص الأدبي ولكنها ليست الشرط الذي تنبني عليه النصوص الكبيرة، النصوص التي تشكل علامات فارقة في مسيرة الكاتب، النصوص التي ستبقى صامدة إزاء عوامل التعرية الجغرافية والتاريخية والجمالية والإنسانية. النص الإبداعي هو نتيجة تفاعلات كيمائية وفيزيائية معجونة بصبغة روح المنتج. أما عن كوني أمتلك مشروعا جماليا، فهذا ما أسعى إليه دائما، وعندما أتوقف عن الحلم به سيكون كارثة تحيق بي، لأنّ المشروع الأدبي ليس مشروعا تجاريا وإن تشابها في صفات شكلية مخصوصة، المشروع الأدبي هو سلسلة من النصوص المنتجة في مشغل المنتج المبدع، نصوص تشبهه تماما، وهذا هو سر وجود المشروع، نصوص غير متشابهة، تدوين جديد في الكتاب الواحد، هوامش وخربشات وظنون وشكوك، براءة وطفولة ودهشة.. هذا ما أريده لي وحدي، فلا أحد يشاطرني دهشتي وبراءتي، وعمقي.. وشكي ويقيني.. هذا هو التفرد الذي سيكون نتيجة منطقية لوجود خلفية نظرية تتعاضد مع موهبة المبدع لإنتاج نصوص وتجارب متنوعة تمثل في خلاصاتها القصوى مشروعا جماليا خاصا.
*- الثقافة والسلطة، الإبداع والرقابة، والأفق اللامحدود والخطوط الحمراء… ما هو موقفك من هذه الثنائيات؟
— من طبيعة الخطاب الإبداعي أن يكون حرّا وغير مقيّد ولا مشروط، إلا بدواعي شروط الحقل، وأصول اللعب فيه، فلكل حقل أصول وشروط ومهارات، وبما أن الحقل الثقافي غير مرغوب فيه وبنتاجه في العقلية السلطوية العربية لكون المبدع خالقا، رائيا، ناقدا، مقوّما .. فكان لهذا الامتياز للنص ولكاتبه أن يسبب ردة فعل من الحقول المجاورة في الحياة، كالحقل الاجتماعي، والاقتصادي والسؤال عن أهلية المبدع فيه لتبوّئ هذه المنزلة، هذه الأسئلة التي تطرح عن جدوى وجود المثقفين والمبدعين، سوف يحوّلها السياسي المحترف إلى ظرف مناسب وفرصة ممكنة جدا لخلق ثنائية ” الثقافة والسلطة” الثقافة والمجتمع… الخ، والبحث عن نار لإذكاء التعارضات القائمة بينهما!، لأنّ السياسي مغرم بالسلطة دائما وهي زائلة والمثقف الحقيقي هو الذي يراهن على ما يتبقى، لذا تظهر ثنائيات غريبة يبتكرها السياسي وحقله الإيديولوجي، مبتدئا بتسفيه الأديب المبدع اجتماعيا واقتصاديا ودينيا أيضا، ولو عدنا إلى بدايات التدهور والانحسار لسلطة العقل والمنطق إزاء السلطة ومنطقها الديماغوجي سوف نذكر هنا على سبيل المثال المهم مشروع الفيلسوف المتنور ابن رشد الذي لاقى مقاومة شديدة من التيار السلفي الذي كان يقوده فكر منظر السلطة ” أبو حامد الغزالي “، فالفكر الفلسفي ضَمر كما نعلم في العالم الإسلامي بعد موت ابن رشد، وبدأ زمن ما يسمى بعصور الانحطاط التي استمرت منذ القرن الثالث عشر وحتى عصرنا الحالي، ومن مأساة وجود الثنائيات القسرية بين السلطة والمتنورين، هو أن النهضة الأوربية قامت على الاستفادة من فكر ابن رشد وأما نحن فقد لعناه واحرقنا كتبه!!
هذه بداية السطو السياسي المنظم على المثقف لمحاولة احتوائه وتهميشه والقضاء عليه كما حدث لابن رشد، أو تسويقه كراهب متصومع في محاولة إفراغه من رسالته الكلية وموقوفه الشمولي والإنساني، لأنّ السياسة فنّ الممكن وقصير الأجل، لذا تتولّد هذه الثنائيات التي ذكرتها وغيرها، طالما لم يمتثل المبدع المثقف لها، ثنائيات مصطنعة في ظاهرها ولكنها فاعلة وملموسة في الحياة، ويساهم المثقف دائما من حيث يدري أو لا يدري في ترسيخها، من حيث يدري بانعزاله عن المشاركة في الحياة وتأكيده لنظرية السياسي في صومعته وفوقيته عن المجتمع، ومن حيث يدري في انسحاقه أمام مغريات السياسي وابتلاع الطعم كاملا، فلا يصح هنا أن نقول عن هؤلاء المثقفين بأنهم أطراف معادلة ثنائية، هؤلاء انسحقوا، ولكن الخطير فعلا على عمل المثقف هو ان يكون دائما بمستوى الند والناقد والراعي والمقوّم بأفقه الكلي وأهليته للرؤيا الشاملة، هنا يصطدم المثقف الحقيقي بثنائيات واقعية، السلطة ونتاج الثقافة، الإبداع والحرية، فترى أن المفكر الايطالي غرامشي طرح مفهوم المثقف العضوي والذي أشار فيه إلى أن ” لم يعد بالإمكان أن يتمحور نسق حياة المثقف الجديد حول الفصاحة والإثارة السطحية والآنية للمشاعر والأهواء. بل صار لزاما عليه أن يشارك مباشرة في الحياة العملية كبانٍ ومنظّمٍ مقنع دائما، لأنه ليس مجرد فارس منابر. بات لزاما عليه أن يتغلب على التفكير الحسابي المجرد، فينتقل من (التقنية – العمل) إلى (التقنية – العلم)، والى النظرة التاريخية الإنسانية، وألا يبقى اختصاصيا دون ان يصبح – قائدا- أي رجل سياسة بالإضافة الى كونه اختصاصيا” لقد أراد غرامشي يثبّت للمثقف حقوقه وواجباته ومسؤولياته إزاء مجتمعه والسياسي الذي انفرد في السلطة وبدأ في تسويق الثنائيات لإدامة خضوع المثقف والحقل الثقافي برمته للسلطة السياسية، وهذا إشكال نعاني منه في دولنا التي ما زلت تستمد سلطاتها من مراجع غيبية ومؤثرات خارجية، الثنائيات لا يمكن أن تتلاشى أو تنتهي، فهي من سنن تطور الحياة وديمومة صراعها، ولكنها تبدو حالة مرضية كطفح جلدي فاقع على وجه الحياة في بلادنا المثقلة بهيمنة الفكر الديماغوجي الإيديولوجي وخاصة الديني منه، بينما هذه الثنائيات، إن وجدت في الدولة الديمقراطية، فهي لديمومة الحياة بشرطها الحواري المتكافئ، والمثقف في كل الحالات هو من يضع نفسه إمّا رهن شارة ” السلاطين والشياطين” أو يتنبّه إلى دوره الحقيقي ويكون فاعلا ومنتجا، مراقبا ومقوّما أزليا..
*- ماذا أعطت تجربة المنافي للشاعر وديع شامخ، وماذا سلبت منه على المستوى الإنساني؟
— كلّ خطوة في الحياة هي إضافة نوعية لتجربة الكائن الباحث عن ينابيع الجمال ، وان رافقتها خسارات كمية هنا او هناك، فالحياة إذ تبدو قفصا كبيرا فهذا ما لا يليق بالمبدع الحرّ، لذا فإنّ التحوّل والصيرورة هما صنو القلق الإنساني بغضّ النظر عن مجال وأفق هذه التحولات، مكانيا وزمنيا.. وفي مسعى الكائن المنتج للبحث عن يوتوبياه، يصطدم دائما بمتطلبات السكون والدعة، وإيثار السلامة والوقوف على التل ..الخ، فترى الناس مختلفين في تفسير أمر الرحيل مكانيا وزمانيا، أو حتى في البقاء والاستقرار. مبدعون كبار استمروا في البقاء في أوطانهم ولم يتلوثوا في مسيرتهم الإبداعية وسوف أبدو متعسّفا لو ذكرت أسماء وأهملت أخرى في العراق، حيث هناك الذين كافحوا ببسالة من أجل بقائهم على قيد الحياة الإبداعية فاعلين منتجين، أما عن المنفى وهو مفهوم نسبيّ إذ يبدأ من صراع الإنسان مع نفسه ولا ينتهي بخروج الكائن إلى فضاءات ومدارات كونية مكانية وزمانية نائية. وما اصطلح عليه بالمنفى هو ليس امتيازا، بل خيار قد استثمره البعض للخروج من سمّ الإبرة، وهو خيار إنساني محض وعذاب وليس وسام امتياز عن الآخرين.. فإذا ما كان المنفى بهذه الصفة فهو فرصة مضافة وتجربة قد لا تمنحها لك الظروف التي ارتحلت منها مكانيا وزمانيا.. انا أتكلم بتجرد إنساني كبير دون مزايدات سياسية أو نضالية فارغة، رغم أهميتها وحقيقيتها عند البعض، فوجودي خارج العراق هو منفى أم منأى؟
تلك أسئلة انطلقت من نص كتبته في البصرة أواسط التسعينات قلت:
“تفتق قلبي وابتدأ موسم الهجرات،،
وقلت:” قلقلي حرث والفرات سائغ للرواة”
إذن المنفي بالنسبة لي معادلة وجودية وليست مناسبة للرثاء، إنها تجربة البحث عن آفاق واسعة لإثراء التجربة الكامنة والمشروع القادم. المنافي مقرونة بخيارات فردية لأنها خلاص فردي كما الإبداع نفسه رغم ما يحيطها من مسلات من دموع وذكريات لا تنشف على مجامر الذاكرة، فهل كان جلجامش تعيسا لهروبه من الملك والسلطان والجبروت، لا.. كان لديه هدف للبحث عن الخلود، كان يمكن لجلجامش أن يخلد وهو داخل أسوار اوروك ولكنه فضل الترحال، فهل كان منفيا؟
المنفى هو نتيجة منطقية لكلامنا عن ثنائية السياسي والمثقف، لا بد أن يكون منفيا داخل نفسه وخارج وطنه. أما عنيّ شخصيا فقد نضجت تجربتي في كل خطوة ابتعد فيها عن المؤثرات الضاغطة على حياتي النصية، سواء اجتماعيا أو اقتصاديا أو سياسيا.. فانا أحبّ الوفرة والرخاء والحرية، وابتعد جاهدا عن كل سبيل يوقفني عن الوصول إلى هذا المجد.
المنفى ليس برّاقا دائما، كما يعتقد البعض ولم يكن بمتناول اليد بل أضعنا الكثير من أجل الوصول إليه، وأنا متشبّث بأظافري للاستفادة القصوى من هذا المناخ لغة وتقاليد وانفتاحا على عالم آخر.. المنفى إثراء للوطن إذا فهمنا معادلة مهمّة ” الوطن هو أبناؤه”، أما على المستوى الشخصي ، فقد نال مني كثيرا البعد عن أهلي وأصدقائي وزماني الأوّل وأمكنتي، وحصد جسدي نتائجه بأمراض، تبدأ بارتفاع ضغط الدم المزمن ولا تنتهي بالسكري.
*- لكل ناقد رؤيته الخاصة للممارسة النقدية.. ما النقد عندك؟ وما أدواتك المعرفية؟ وما المنهجية التي تستخدمها في التشريح النقدي؟
— أود أن اعترف إنني لست ناقدا بالمعنى الأكاديمي والمنهجي.. فالكتابة عن نصوص الآخرين تنطلق عندي من الحبّ أوّلا لهذه النصوص كما يقول ” جبرا ابراهيم جبرا” في موضوعة ترجمته للنصوص، أي إنني لا اشعر بمسؤولية عامة أو خاصة، سواء كانت أدبية أو أخلاقية في عملي لإعادة إنتاج النصوص، كوني قارئا منتجا هنا حسب المقولات اللسانية الحديثة المتمثلة في انجازات باختن ورولان بارت وتودورف وجولياكر يتيفا وبيرزيما وريفاتير وجوناثان كولر، وغيرهما كما هي في نظرية التلقي على يد منظرين مثل هانز روبرت جوس ولفنجانج أيزر.
انطلق في كتابة النقد ” أو قراءة النص” من حاجتي للحوار مع الآخر وليس لكوني منظّرا أو مُقوّما أو حكما يتعامل بفوقية مع نتاج الآخرين. أعتقد أنّ المُنتِج يحتاج إلى عيون متعددة لإثراء نصه أوّلا، وكلّ ما كتبته من دراسات أو مقالات في حقل النقد الأدبي لنصوص شعرية ومتون روائية وتشكيلية، وكل ما أنتجته من حوارات مع مبدعين، يمثل لديّ خبرة مضافة للإحاطة بغابات وحقول الآخرين، قراءة أفكارهم، التمتّع والتنزّه في كشف مغاليق نصوصهم، وهذا يشكّل لي ظهيرا مهمّا لإثراء تجربتي وإضافة نوعية لسرّ إنتاج النص. لقد
شهد الدرس النقدي العربي تأثرا كبيرا بالمناهج النقدية الغربية منذ جهود طه حسين والعقاد وصولا إلى أدونيس ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي ..الخ، واستمرّ المشهد النقدي الراهن بالانفتاح على مجموعة من المناهج النقدية، كمنهج التحليل النفسي، الذي يحلّل النص الأدبي من الوجهة الشعورية واللاشعورية، والمنهج لاجتماعي الذي ينظر إلى الأدب على أنه مرآة تعكس الواقع بطريقة مباشرة، والمنهج البنيوي التكويني الذي يعتبر الأدب بنية جمالية مستقلة تعكس الواقع بمختلف مستوياته السوسيوتاريخية والثقافية والسياسية والاقتصادية بطريقة غير مباشرة أو عبر التماثل.
أما المنهج البنيوي اللساني فينظر إلى النص الأدبي على أنه بنية مغلقة أو نسق من العناصر اللغوية القائمة على علاقات اختلافية أو ائتلافية، بينما المنهج السيميائي فيقوم على التفكيك والبناء من خلال دراسة النص باعتباره نظاما من العلامات اللغوية وغير اللغوية. ولكن منهج التلقي يركز على القارئ أثناء تفاعله مع النص الأدبي قصد تأويله وخلق صورة معناه المتخيلة. وهناك لا بدّ من الإشارة إلى أطروحات الناقد السعودي د. عبد الله الغذامي في النقد الثقافي الذي يصفه بالقول” النقد الثقافي فرع من فروع النقد النصوصي العام، ومن ثم فهو أحد علوم اللغة وحقول الألسنية معنيّ بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي وما هو كذلك سواء بسواء. ومن حيث دور كل منها في حساب المستهلك الثقافي الجمعي. وهو لذا معني بكشف لا الجمالي كما شأن النقد الأدبي، وإنما همه كشف المخبوء من تحت أقنعة البلاغي/الجمالي”، أو تلك الأطروحات النقدية التي تناولت ” النقد المفهومي”.
لا أسعى إلى التقيد بمنهج للدخول إلى النصوص وتأويلها .. ليس عجزا ولا قصورا، بل إنني أتوجه إلى النصوص بما يأسرني ويجذبني من مهيمنات نصية أو صورية داخل النص، التجربة. لا أحمل نوايا مسبقة ولا مشارط نقدية ولا رؤى “خارج إبداعية” لأسقطها على قراءتي النقدية، نعم أنا لست بريئا تماما هنا، لدي خبراتي ومجساتي الخاصة ومعارفي المتنوعة، ولكني أحاول كثيرا أن أحلّق بالنص، موضوع القراءة، إلى مستوى من الحوارية المتكافئة، لا غالب ولا مغلوب، والنص وما يترشح من كلينا هو الخلاصة التي أسطّرها على بياض الورقة لتكون في الأخير قراءة حرة. ولكني لا أخفيك خطورة ما أقوم به، وما تلاحقني من جراء قراءتي من تهم من نقاد ” أصنام أو جزارين” يريدون للقراءة أن تكون ذات غايات مبيتة ومفصلة وفقا لمناهجهم ومقاصدهم المنهجية والأكاديمية الصارمة، وأنا أهرب منهم بجنون موازٍ لجنون النص المُنتج، الذي لم يستطع صاحب المسطرة النقدية أن يتلمس شراراته، ادخل إلى النصوص كمنتج وقارئ معا، أكتب نصا على نص، لا أبحث عن هفوات شكلية في متن النص، تبهرني الدلالات والمهيمنات والفراغات والمسكوت عنه، المبثوثة في ثنايا النص، وموجهات القراءة عندي تبدأ من الغلاف إلى العنوان ولا تنتهي حتى السطر الأخير، أنا سائح ومكتشف. تصور يا صديقي أنني أُعنى بالغلاف واعتبره قيمة نصية ومفتاحا مهما لقراءة النص، كما حدث لقراءتي لرواية ” ما بعد الحب، للروائية العراقية هدية حسين” لذا تجد كل ما اكتبه عن نصوص الآخرين يحمل روحي وكشوفاتي التي تتواشج وتنطلق من داخل النصوص. امتلك رؤية معرفية وفلسفية في التعامل مع نصوصي، ولكني لا أعممّها على الآخرين حينما يداهمني الحب لقراءة نصوصهم وإعادة إنتاجها نصوصا نقدية.
** نشر في موقع الأوان