ركنتُ الدراجة، ثم تقدمتُ نحو أول طاولة رميت نفسي على المقعد، الجو هذا المساء أرجواني ونسيم دافئ يداعب هذه الوجوه الكالحة التي أنهكها حر شهر اغسطس والعمل الكادح مذ بزوغ الفجر.
أتاني النادل رحبَ بي ثم مسح الطاولة بطريقة آلية، ثم أقفل عائدًا بعدئذ بفنجان قهوة سوداء. رائحتها تسبقها بخطوات تداعب خياشيمي بحبّ لذيذ.
-تسلم الأيدي عمو عليّ. قلت له
ابتسم لي بمودة وأردف: والله يا محمد أحبك كفرد من أبنائي، غبت مؤخرا، خير؟
أجبته وأنا أحرك القهوة: والله يا عم عليّ ووجهك العزيز، أشغال الدنيَا، دعواتك الله يعطيك الخير.
ابتسم كرة أخرى ثم انصرف وشفتاه ترتجفان بدعاء خفي.
المقهى شبه مكتظ، رجال مختلفو الأعمار يتطارحون الحديث بشغف.
هذا السيد فؤاد نيف على الستين، اعتدت رؤيته مع صديق له، شغلهم الشاغل مباريات كرة القدم وأقداح الشاي، ولوم خدمات المقهى..
قال فؤاد: انطلقت مباراة النصر السعودي، مالهم وهذا التلفاز اللعين، والله نحن الأغبياء مائة ألف مقهى. ونحن لصقنا هنا، سحر أحلف لك يا صاحبي.
يلتفت صاحبه للنادل عمو علي ويلوح له بغضب؛ القناة لنشاهد المباراة يا سخيف، أوف منك ومن شغلك.. تعبنا وعيل صبرنا يا رجل!
تركت هذا الجوّ، مددت يدي للحقيبة أخرجت رواية طيور الحذر لابراهيم نصرالله، غريب أدب هذا الرجل يجعلك تقول من أين اكتسب هذه القريحة كأنه فانوس يفركه فيخرج إليه عفريت في يده يراع، أو معجزة أصابته من السماء.
فتحتها فانكببت أقرأ. نسيت المقهى وناسه وخيوط الشمس والقط الرمادي أمامي وفنجان قهوتي..
قرأت ما يقارب الساعة، ارتشفت القهوة، بردت! اااخ لا بأس أحبها رغم أنفي.
طويت الرواية ومنحتها جهة صدري كنوع من التأمل، رميت طرفي للشارع أمامي، سابلة.. ومحلات تجارية وهناك مسجد أحبه.. نظرت للساعة مازال الوقت عن آذان المغرب، ارتشفت من الفنجان، ثم أخرجت ورقة بيضاء كتبت عليها: كثير ما يزاحم صدري هذا الشعور، كأنه الحزن أو ضرب من ضروب الضيق، لا أعرف من أي سبيل أواجهه، أو مما أتاني أصلاً. وما حاجته مني وأنا الوحيد الذي أغلق على نفسه، لا صحبة ولا رفقة لولا كتبي، ألتمس حاجتي من نفسي، فما لي وهذا كله! النفس البشرية غريبة متقلبة، فلسفة! اااه كيف السبيل لبرء إنسان تعبه من نفسه؟
تنهدت ثم فتحت الرواية من جديد، حتى ارتفع آذان العشاء. قمت فمنحت عمو علي دراهمه، ومشيت غارقًا في خيالي نحو المسجد.