لم اشأ يوما ان أُربي قطاً في بيتنا، او اجلب كلبا، وارفض ان احبس طيراً في قفص.. ما كان في البيت من فسحة تتسع لهذه المخلوقات الأليفة، حتى الفناء الخلفي كان أصغر من ان يستوعب حياة اخرى.
لكن ثمة قطة بصغارها الشبارق الثلاث استوطنت الفناء الخلفي الجزء المسقف منه الذي يضم بعض الأغراض المستعملة والسخان الكهربائي ليكون ملجأ لها وصغارها المولودين للتو.. كانت فرصة ابني الذهبية حيث أغدق عليهم بفضلات الطعام بعد كل وجبة، حتى وهو يلاقي هجوما شرسا من الأم التي تذود عن أطفالها بالنفخ مرة وتارة بالمواء، وتنقلهم بأسنانها من مكان لآخر في نفس الفناء، حرصا من أن تطولهم يد الإنسان الغادرة.. كانت زوجتي التي دائما ما تنثر حبات الارز للطيور والعصافير المستطرقة، وهي تغيّر آنية الماء وتضيف ماء جديدا خصص لهذا الغرض. لفت انتباهها صغار القطط والام النافس التي لا تقوى على الحراك فأخذت بدورها تطعم القطط ببقايا السمك واللحم والدجاج وأحياناً تضطر لإعطائها السمك الطازج كونها تعلم ما يوفره السمك للأم المرضعة ليساهم في نشأتهم. فاستفاد ابني من هذه المعلومة العابرة فسارع بشراء علب السردين والتونة لتغذية الام والاطفال معا.
لم تمر سوى ايام قلائل حتى وجد ثمة قطيط صغير رابع يبدو أكبر حجما وأثقل وزنا، أقحم نفسه بينهم متطفلا ينازعهم المسكن والمأكل خاصة بعد تغيب الام، وكان له حصة الاسد وهو يستأثر بكل شيء لنفسه ويستحوذ على الطعام ويزوغ بالمكان ويقاتل لأجل ذلك. كان شريرا لدرجة الاحتكار دون ان يبالي بالآخرين سماه (سميغل) تيمناً بشخصية أسطورية مشاكسة تحاكي مخلوقات سيد الخواتم.
ماتت الصغار تباعا بسبب اهمال الام والجو الموبوء ما عدا سميغل الذي بدا يحظى بقبول العائلة، لكنه بالتأكيد لم يحظ بقبول أقرانه من قطط الشوارع الحسودة والناقمة. ونشبت الاحقاد بعدما حظي بالمأوى والمأكل، ولم يكن ابني وحده من يعتني به فكانت ابنتي الصغيرة مهتمة به ايما اهتمام. حتى انا الذي كنت الى اخر وقت بعيدا عن الصورة هزني الشوق الرحيم اليه، وتعلق بي أكثر من سائر العائلة. وما ان اشعر بمرضه، وهو يمر بحالة لم اشهدها بسائر القطط تبدو كحالة صدرية من ضيق في التنفس تجعله يلهث ويزفر لدقائق مختنقاً. فصرت له كحامي عرين القط اسهر على حمايته وراحته مخافة ان يهاجمه الناقمون الذين يتحينون له الفرص لأكون لهم بالمرصاد. وما ان يغيب عن البيت أبقى في انتظاره، وكلما امتنع عن الأكل بسبب مرض طارئ او اعياء أسرع في متابعة حالته، ابتعت له اكياس الحليب المجفف وجبنة (الفولك) الهولندي الذي يحبذه من بين مختلف الاجبان وعلب السردين؛ حتى انه ذات يوم مرض مرضا شديدا فتصدقت عنه بنية الشفاء والسلامة.. دائما ما اقول لنفسي ما نكون لولا الرحمة. تعلمت منه اكثر من درس، فما ان يثق الحيوان بإنسان حتى يستأمنه على حياته؛ يا ليت الانسان يعي ذلك ويكون مصدر ثقة وأمان لأخيه الانسان.
احتدم الخلاف بينه وبين خصومه قطط الشوارع فبدا كالهارب من الجندية الذي يطارده المختار ومجاميع الجيش الشعبي ورفيق المنطقة ابو حرب.
وعندما صار يافعا بدا يتنقل من بيت الى بيت يبحث عن وليف ينادمه حلو الشباب وبدا يتغيب اليوم واليومين ولم يحضر إلا إذا اشتد به الجوع.. لم نبخل عليه بالحنو والرفق كان يجدنا ملاذه الاخير، حتى وان كان يستغفل طيبتنا، بعد أن فرض محبته في نفوسنا، بقينا نحرص على سلامته كالسرابيل التي تقيه الحر والبرد والمأوى الآمن الوديع بما أنعم الله به علينا.
وما لبث غير بعيد إذ جاءنا مريضا لا يقوى على الحركة ولم يقرب الاكل لما يعتصره من الم وعندما كشفت عليه رأيته مصابا بالقراد الذي علا رقبته كالوحش المفترس في وقت كان الكل يتخوف من الحمى النزفية وناقلها الأساس القراد اللعين.
فكرت بنقله لعيادة الطب البيطري لكن تعذر الإمساك به. ذهب ابني لاستشارة الطبيب، فنصحه بضرورة نزع القراد من جسده بصورة وأخرى بملقط بمشط أو اية آلة ممكن استخدامها، ومن ثم رشه بالمعقمات الخاصة بالقطط. كما باعنا كيس طعم خاص ذا رائحة تجذب القطط، وبالفعل ما ان اقترب مني حتى استطعت رفع القراد العالق في رقبته والذي بقيت آثاره واضحة للعيان في جسده حتى بعد تخليصه منه بفترة طويلة، ومن ثم تطهيره بمحاليل التعقيم كل أسبوعين كما أوصى الطبيب بذلك حتى تماثل للشفاء.. تعافى سميغل بينما مات أكثر انداده الذين أصيبوا بالقراد دون أن تنتشلهم يد الإنسان الرحيمة من عارض قاهر.