أمضيت يومي مشغولاً بالتفاصيل الصغيرة التي تشبه الكمثرى. لكني ما أن فتحت الحاسوب، وقرأت التاريخ الملعون * (الثاني والعشرين من أيلول) حتى استيقظت في ذاكرتي كل الذكريات القديمة التي ابتلعها النسيان، فصارت في العدم، لكنها لم تزل مؤلمة تلامس القلب، وتترك فيه غصة أليمة. كنت في السادس عشرة من عمري، عصر ذلك اليوم الخريفي عندما أوصتني أمي (ولم أعرف حتى اليوم لماذا) أن أرافق أخي ورفيقه الجندي اللذين كانا يريدان الالتحاق لوحدتهما العسكرية، إلى أن يركبا الحافلة. أنصت لحديثهما بفرح ممزوج بحزن الأمهات متمنياً أن أكون مع أخي في أيّ مكان يذهب إليه. لكن الذي غمرني بالسعادة في تلك اللحظة، وجعلني كالطير المحلق في سماء زرقاء صافية، عندما أخبر أخي رفيقه بحماس وبعفويته التي تشبه براءة الأطفال عن تلك الأوقات الجميلة التي قضيناها معاً، عندما كان يأخذني إلى السينما كي نشاهد أحد الأفلام التي كان يحبها. ثم طبطب على ظهري قائلاً لرفيقه (هذا أخي الصغير هو الأقرب إلى قلبي من بقية إخوتي الكبار وهو الذي يحفظ سري). احتضنني بلهفة لم أعهدها من قبل، ثم قبلني ولم أكن أتخيل للحظة أنه كان يودعني الوداع الأخير. عندما ركبا الحافلة المكتظة بالركاب لوح لي بيده اليمنى، لوحت له أنا أيضاً قبل أن يتلاشى في الزحام. لقد أخبرني دون أن ينطق حرفاً واحداً. نعم بآخر نظرة وآخر تلويحة من يده بأنه لن يعود. كان يعرف ذلك رغم أنه حاول أن يكتمه عني. تلك النظرة الأخيرة لن أنساها ما حييت. مسحت دموعي ثم عدت لأمي. رأيتها في المطبخ تعد لنا الطعام يلفها الصمت، ويرسمها الحزن لوحة من لوحات رسام عاش ويلات الحرب ومصائبها. قلت لها إنني قد نفذت وصيتها، ولم أخبرها عن توجسي ولا عن بكائي وأنا ألوح له مودعاً ولا عن نظرته الأخيرة التي تركت ألماً عميقاً في قلبي. لكنني رغم ذلك لم أستطع أن أحبس دموعي عندما رأيتها تبكي وتشكو خوفها إلى الله.
* (الثاني والعشرون من أيلول- 1980) اندلاع الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت 8 سنوات، وانتهت بتاريخ (8/8/1988).
22-أيلول -2022