ذاتَ فوضى مِن حياتنا، يُقبلون، مُغافلين إيقاعَ بؤسِنا، كأنهم نبْتٌ في فراغ، بلا إرهاصات، ومن غير أمنيةٍ ننسِجُها حين يستعيرُنا الشرود.
هي نظرةٌ طويلةُ الأمدِ في وعاءِ الصمت، تلوحُ مِنّا بعفويةِ الأنفاس، نستقبل بها تلك الشخوصَ التي التقيناها في زمنٍ ما، في حياةٍ ما، هذا ما يتراءى في دواخِلنا كبقعةٍ من نورٍ أخْطأَها الظلام.
حنينٌ مُبهَمٌ، يُعلِن عن ميلاده، يسحقُ في طريقه كلَّ إشاراتِ الوقوف، يعبرُ في سجيِّةِ طفل، ككرةٍ من الثلج تُغذِّيها المسافات، في جوْفِها مِشعلٌ كامنٌ، يُغريها باللاحدود.
عُقيبَ الدهشةِ الأولى، نلتفتُ إلى نبرةِ أنفاسِنا التي غدَتْ تُحاكي موسيقى السّكون، إلى نبضاتِنا التي تابت من تهَدُّجِها، إلى التئام شمْلِ الحنايا في فلَكِ الفؤاد، وإلى ذلك الشعورِ برتْقِ ثُلَمِ الروح، أمامَ فَوْخِ الرياح.
على أهدابِنا يمشونَ الهُوينا، بما يفسر نظْرتَنا إلى اللاشيء في الأعلى، حين نسبحُ في طيفِ اللقاء. وهنا في الداخل، على الشِّغافِ منابرُ هاتِفة، تُعلنُ عن مهدٍ، عن فسحةٍ مِن شعور، وفسطاطِ أمانٍ للوافدين.
لاحَ على الغلافِ عنوانٌ للرواية، والأوراقُ تستبقُ صريفَ القلم، كلُّ شيءٍ يتأهّب، عدا ذلك الشعورِ الذي تتشَظَّى به الأمنيات: أنهم راحلون.
راحلون، فالحياةُ ليست بهذا الكمال، والجنةُ لم تزل في السماء، والداخلُ يُبْرِقُ إلينا دائما، بأنَّ موضعًا في المأساةِ لم يزل خاويًا، يسدّهُ غبارُ الرحيل.
راحلون، لئلا تتكشّف سوأةُ المجهول، ونرضى بالجزءِ الأبقى مِن الحكاية، فنُلقِمهُ الذكرياتِ فلا تشيخُ القلوب.
راحلون، لنكتبَ عنهم، وعنا، وعن سفْعِ الفراق، وأنين الأرصفة، وكآبة المقهى المهجور.
راحلون، ليخلُدَ المثلُ المُجَنّحُ حائمًا، يهمسُ لنا عن كُلِّ العابرين: أنهم راحلون.