توقفت الحافلة. كتم السائق هدير المحرك. انسل من الزحام ونظر إلى ساحة المحطة كانت ملأى بالضجيج، صوت بائعِ البَيضِ المَسلوق… نداء بائع السَّجائر اليقظ ومَاسِحُ الأحذيةِ الناظر إلى أرجلِ المَاشين بهمّةٍ… صوت إلحاح المتسولين… صِيَاحٌ من هنا وهناك: الرباط، الدار البيضاء… طنجة، تطوان… يُغادر مسرعًا، هاربا من جو المكان المتعِب. شعر بصداع فبدا كل شيء حوله يدور. يكاد زعيق زوجته لا يفارق أذنيه، كصوت صواعق تزعجه تهز مخيلته التائهة في المدينة التي حلّ بها اليوم… تذكر آخر كلامها وهي تضع يديها على خصرها العريض:
– أين أنت ذاهب يا رجل؟
قابلها بصمتٍ عنيد لا يُفسّر. لم ينظر نحوها. انهمك في جمع أغراضه في حقيبة صغيرة.
“سأرحل عنك يا وجه الغراب”. قالها في نفسه وصفع الباب خلفه ثم غادر…
حرُّ الظهيرة يلفح جبينَه ورأسه الأصلع. غادر المحطةَ الطرقية بعدما لفظته الحافلة بساحة يضطرب فيها كل شيء. ما تزال رحلته طويلة، فما كاد يصل إلى موقف سيارات الأجرة حتى تصبَّبَ جبينه عرقا. وامتلأ صدره استياءً، حين لم يجد إلا سيارة للنقل السري تتجه نحو مسقط رأسه في قرية لا تحددها الخرائط. اندسَّ داخلها إلى جانب أحد الراكبين دون أن يكلمه. لم يلق التحية أيضا، كان شارد الذهن. أحسَّ ببعض العيون ذات نظرات استنكار تتجه نحوه، تفحصه، تحاول أن تعريه، أو تستنطقه في صمت وريبة. تجاهلها.
داس السائق على الدواسة. فانبعثت كثلة دخان أسود. انطلقت السيارة المهترئة يتعالى أزيز محركها، ويسمع صرير نوابضها التالفة، وقطعها المعدنية الصدئة.
بدا على الرجل بجواره يتحيَّنُ فرصة أو مناسبة تسمح له بمشاركة حديث ما، أو أي حركة يفتتح من خلالها خطبة من أي نوع (كما يحدث عادة بين الركاب)… تكلم عن أوضاعِ الفلاحِين الصغار ومشاكلهم وصمتهم في ظل أزمات متتالية، كان يحاول أن يظهر بمظهر العارف الفاهم والخبير الذي يجيد تحليل الأوضاع. تحدث عن وضع ينذر بقلَّة المحصول لقلة الأمطار هذه السنة والتي قبلها؛ ثم تذكر الماشية، وغلاء العلف… كان يصرخ ويهتز كلما استحضر أمرا…
ظل ينصتُ إليه ويهز رأسه كإشارة اتفاق إلى أن تعب فأدار وجهه إلى الناحية الأخرى يبحث عن خلاص ما بين الأرض المنبسطة. تجاهل ثرثرته بالاستمتاع من خلال زجاج النافدة بحقول السنابل. بدأت تصْفَرّ أو أن بعضها قد اصفر مستعدا للحصد. أسرَّ في نفسه: “ما أحلى العيش هنا بعيدًا عنها، وعن نشوزها، وعن ضجيج الحياة الذي لا يُطاق. والحياة معها لا تطاق.. قطع من العذاب.. اه. لولا الأولاد لكنت… إنها أثقلتني بهم وربطتني كالخروف…”. تنهد عميقا حين سمع السائق ذو الشارب الكثّ يردد كلمات أغنية شعبية تنبعث من مسجل تعلوه طبقة من الأوساخ والغبار ورماد السجائر المحروقة وبقع القهوة السوداء ومازلت لديه قوة تدوير شريط الكاسيط. ينشط السائق. يكرر اللازمة كلما صرخت كمنجة المغني المجنونة:
»اعطني الفيزا والباصبور.. «
تزداد سرعة المركبة تدريجيا على طريق تآكلت طبقة الإسفلت من حافتيه. طريق كأنه لا يؤدي إلى الحياة، أو كنذير شؤم، وعلامةُ انحدار نحو المجهول.
يد السائق -المشاغبة- تعبث بين الحين والآخر بزر المُسجِّلِ البائس. يعلو صوت الأغنية. يضغط السائق بنشوة على دواسة البنزين. يرتفع هدير المحرك.
طلب منه أن يخفض أو يكتم صوت ذلك الشيء المزعج.. قالها آمرًا. أغاضه صوت الكمنجة. تصوَّر في تلك اللحظة صاحبها يلوح بها في الهواء بحركات بهلوانية ليدمج بها العزف والإيقاع. وتسأل أين رأى المشهد.. لكن سرعان ما تخلى عن استحضار الجواب حين شعر أن السائق مستفز، بلغ من النشوة ما جعله لا يستجيب إلا لهوسه بالكمنجة المجنونة: «من كازا لمارساي…» .
كرر الطلب بغيظ وفظاظة:
– هييي.. معك أتحدث! اخفض الصوت.
ونكزه في جانب ظهره بأصبع حادة، كادت تخترق جسمه المترهِّل. التفت إليه السائق بحركة عنيفة أفقدته السيطرة… ترك مصير السيارة للفراغ يسوقها. استدار المقود. انحرفت السيارة عن مسارها، وانزلقت عجلاتها إلى حافة الطريق المتآكلة أطرافه… وسط الحقول مضت تحصد السنابل. والصوت يتبعها، يجلجل: «اعطني الفيزا والباصبور… من كازا المارساي».