جلست عائشة تنتظر مسلسلها المفضل.. لم تصدق ما سمعته في الأخبار.. بقيت مندهشة تحملق في شاشة التلفاز.. منظمة فلسطينية صغيرة تمتلك أسلحة بدائية، تفعل كل هذا بأقوى جيش في الشرق الأوسط.. الجيش الذي سمعت بأنه يحارب وهو نائم فوق الفراش، أو يشرب القهوة في الصالون، تقع له كل هذه البهدلة..
رغم ذلك لم تُخف فرحها.. لأنها اعتادت أن تنتصر للضعيف والمظلوم.. تكره المعتدي المتغطرس الذي يسلب الناس حقوقهم حتى لو كان شقيقها..
لم تكره اليهود.. عاشت معهم في المغرب، وتعرف بعضهم جيدا.. في الحقيقة تعاملت مع فقرائهم في الملاح.. اشترت منهم الحلوى والقماش.. بدوا لها أناسا طيبين مثلها.. لكن عندما هاجروا، والتقوا باليهود القادمين من شرق أوروبا أو غربها، ربما أصابت بعضهم عدوى الصهيونية..
سمعت مرة والدها وهي طفلة يتبادل الحديث مع الفقيه سي العربي.. وقع ذلك منذ زمن بعيد..
قال والدها:
ـ العرب واليهود أبناء العم.. أليس جدهم واحد هو إبراهيم عليه السلام؟
رد عليه الفقيه سي العربي:
ـ ولكن اختلفنا في الدين. نحن نقول بأن إبراهيم عليه السلام كان سيضحي بابنه إسماعيل، وهم يُكذّبون ذلك، ويقولون بأنه كان سيضحي بإسحاق بل إنهم اتهموا هاجر أم إسماعيل بالزنا..
منذ ذلك الوقت والحرب تدور بين الطرفين تارة في الخفاء وتارة في العلن، إلى أن قدموا من أصقاع أوروبا، ودخلوا فلسطين خلسة في زمن الانتداب، وتواطأ معهم الإنجليز على سرقتها منا..
والدها كان يحب الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات.. رأته يصفق له، وهو يخطب في الأمم المتحدة.. لا زالت تحتفظ ذاكرتها ببعض العبارات من هذه الخطبة.. كانت تلعب مع أخيها الأصغر وتهدده:
ـ غصن الزيتون في يد، والبندقية في يد.. عليك أن تختار..
بعد ثمان سنوات رأت والدها يبكي مع الفلسطينيين عندما خرجوا من لبنان.. لم يتناول الطعام في ذلك اليوم.. سمعته يقول لأمها.. ليس لي نفس.. اجلسي مع الأطفال.. ظل في وسط المنزل يَقلِبُ الموجات في المذياع.. بين الفينة والأخرى يشتم مذيع الأخبار في هذه الإذاعة، فينتقل إلى أخرى.. التلفزيون في ذلك الوقت كان يقطّر مثل هذه الأخبار التي تثير غضب الناس بالمليلتر..
كبرت عائشة وتزوجت، ومات الوالد.. شُغل البيت وتربية الأبناء والعناية بالزوج، أخذ كل وقتها.. تجلس في المساء أمام مسلسل تركي، تُنسي به تعب وشقاء اليوم..
اليوم عندما أشعلت التلفاز وجدت نفسها أمام نشرة الأخبار.. القصف يشتد على غزة.. طيور معدنية غير مرئية تزعق في السماء.. تصدر صوتا مثل الرعد ترتج له الجدران، وتصب غضبها على الحجر والبشر.. هذه الطيور لها عيون من حديد أزرق لا تميز بين الأطفال والشيوخ والنساء الحوامل..
موجة القمع تجتاح أغلب بلدان أوروبا بمنع وتهديد كل من يحمل علم فلسطين، أو يتضامن مع شعبها بالسجن، بدت مثل الحمقاء.. كل الجمعيات الحقوقية في العالم تتعلم من الغرب.. كل المؤسسات الحقوقية الدولية يسيرها غربيون.
قالت لنفسها:
ـ الحمد لله عندنا لم يمنعوا أحدا من رفع العلم الفلسطيني، أو المشاركة في المظاهرات والمسيرات المؤيدة لفلسطين، أو كتابة تدوينة يستنكر فيها الناس الجرائم الصهيونية..
تذكرت مرة أخرى والدها وهو يحكي لهم عن مواطن من الهامش المراكشي متشرد ومدمن، يتسكع بين جامع (خربوش) وسوق القصابين بالقرب من ساحة جامع الفنا. يتظاهر في مثل هذه المناسبات، ويتضامن مع الشعب الفلسطيني بطريقة غريبة، وحسب ما تسمح به هشاشته الاجتماعية والثقافية. كان كلما مر بجانبه وفد من السياح الأجانب، يصيح فيهم بصوت قوي مرددا اسم فلسطين باللغة الإنجليزية عدة مرات، وعلى غفلة منهم، فيقفزون ذعرا من مكانهم. ثم يخفض صوته، ويتلعثم في الكلام، ويتحدث إلى نفسه:
ـ هذا كل ما تسمح به ظروفي يا فلسطين.
قالت لصديقتها فاطمة في الهاتف:
ـ والله يا أختي فاطمة دُخت.. لم أعد أعرف من أصدق؟! اختلطت علي الأمور.
أجابتها فاطمة :
ـ إذا أردت أن تكتشفي وحشية الحركة الصهيونية، ونفاق الغرب، افتحي صفحة الشيخ غوغل، وابحثي عن مذابح الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين، وستفهمين كل شيء..
في المساء عندما انتهت من عملها المنزلي، فتحت هاتفها، ودخلت إلى صفحة الشيخ جوجل.. كتبت مذابح الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين..
قلبت عشرات الصفحات.. مئات المذابح.. عشرات العصابات الصهيونية المدججة بالسلاح.. صعقها ما قرأت.. تاريخ طويل من الدم الفلسطيني المهدور.. تهجير جماعي لعشرات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني.. توالي الهزائم والخيانات..
سألت نفسها بمرارة:
ـ أين كنت يا عائشة كل هذه السنوات؟!..كيف نام الناس كل هذه الأعوام قريري العنين؟!
في الليل لم تنم جيدا.. في كل مرة يخرج عليها كابوس.. ترى عصابات مدججة بالسلاح تهجم على هذه القرية أو تلك.. تغتصب النساء والفتيات.. تحرق الأخضر واليابس.. تذبح البشر والغنم والكلاب.. تستيقظ مذعورة.. تغسل وجهها.. تخاف العودة الى الفراش..
هيأت الفطور لزوجها.. لم تكن لها نفس لتناول الطعام.. لم تشعر بالجوع طيلة اليوم.. في الليلة الموالية خافت أن تعود مرة أخرى إلى الفراش.. نفس الكوابيس.. عصابات برؤوس حيوانات مفترسة، وأجساد آدمية تغتصب وتذبح.. طيور معدنية كبيرة تصبغ السماء بلون الرصاص، وتنفث شهبا حمراء تحرق الأرض والحجر والبشر..
صرخت مذعورة:
لا لا يا شيخ جوجل تمة خلل في جهة ما!.. يجب أن يقف هذا العالم على رجليه!.. لا بد أن يبعث الله نبيا جديدا يوقف هذا العالم على رجليه، ويُعيد للسماء زرقتها..
مراكش 16 أكتوبر 2023