صوتٌ شعريٌ رخيمٌ يُعانق شمس بلادها الضَّاربة بجُذُورها في عُمق التَّاريخ.. شاعرة تتمتَّع بذائقةٍ شعريَّةٍ مُتميِّزةٍ ومُتفرِّدةٍ.. لغتها تشدُّنا وتجذبُنا لقراءة نُصُوصها الشِّعريَّة بعُمقٍ ومُتعةٍ.. كما تمتاز بصُورها الشِّعريَّة النَّابضة بالحياة، والتي تمزُج بين البساطة والتَّكثيف.. قصائدها في مُجملها تُحرِك الخيال وتُثير المشاعر والأحاسيس، وتمنَّحُنا قدر لا بأس به من المُوسيقا الصَّافية الهادئة..
«مها سُليمان» من مواليد ريف حمص الشَّرقي قرية وريدة، عملت مُعلَّمة بالمرحلة التَّعليم الابتدائي ثُمَّ انتقلت للعمل الإداري. من أهمِّ مُؤلَّفاتها الشِّعريَّة، ديوان: «ما قالته شهرآن»، وديوان: «أحلام بين الواقع والخيال». شاركت ببعضٍ من نُصُوصها الشِّعريَّة في كتاب: «شعراء من العالم الأزرق»، كما تمَّ مُناقشة بعضٍ من قصائدها في كتاب: «جُغرافيا الصَّوت الآخر – قراءات استنطاقيَّة في الشِّعر النَّسوي المُعاصر»، من تأليف الدُّكتُور «ناظم حمد السُّويداوي»، وأيضًا أُدرجت سيرتها الأدبيَّة وبعض قصائدها في كتابٍ بعنوان: «حين تحكي»، للأديبة «سماح عادل».
وقد كان لمجلَّة بصرياثا هذا الحوار الاستثنائي والشَّائق مع الشَّاعرة:
* بمَنْ تأثَّرت الشَّاعرة «مها سُليمان» مِنْ شُعراء سُورية وشُعراء الوطن العربي ؟ ومَنْ هُو أقربُهُم إلى قلبكِ ؟ ولماذا ؟
– بداية جذبني الشَّاعر السُّوري «سُليمان العيسى» وحفظت أشعاره من خلال المدرسة وحين نضَّج تفكيري السِّياسي تأثَّرت بالشَّاعر «محمُود درويش»، والشَّاعر «توفيق زياد» وغيرهما من الشُّعراء المُلتزمين، ولا يُمكن أنْ ننسى شاعر الغزل الرَّقيق «نزَّار قبَّاني» الذي كان قريبًا إلى قلبي بأشعاره الرَّقيقة التي تتنوَّع ما بين الغزل والسياسة، كذلك تأثرَّت بالشَّاعر الكبير «الأخطل الصَّغير»، والشَّاعر المصري «أحمد شوقي»، والشَّاعر العراقي «بدر شاكر السَّيَّاب».
* من خلال قراءة بعض قصائدكِ نكتشف دُون عناء عشقكِ الأبدي للوطن، وما يُعانيه من آلامٍ وأوجاعٍ انعكست بالطَّبع على الشَّعب السُّوري..ماذا يعني الوطن بالنِّسبة للشَّاعرة ؟ وكيف انعكست هذه الأوضاع المُتردِّية على مسيرة الإبداع السُّوري ؟
– الوطن هُو الملاذ.. هُو الحضن الدَّافئ.. هُو الأمان.. وهي الأشياء التي افتقرنا إليها افتقارًا شديدًا.. وبحُكم هذه الظُّروف المُتردِّية وغير الآمنة اضْطُر أهلنا الذين من بينهم كوكبة من الأُدباء للهجرة ومن ثمَّ تركوا فراغًا كبيرًا بالحياة الأدبيَّة السُّوريَّة.. وقد انعكست هذه الأوضاع على طريقة الكتابة فحتَّى التَّعبير عن الغزل الرَّقيق أصبح مُشبعًا بالألم والقهر.. أحيانًا اكتب النَّص بحُرقةٍ لاذعةٍ والدَّمع يرسُم خُطُوطه بين السُّطُور لفرط حُزننا وألمنا.. ولكنَّنا لم نفقد الحلم والأمل..
– في بعض قصائدكِ نستطيع أنْ نرصُد نبرات مُتكرِّرة من الحُزن والشَّجن.. وهذا ما يجعلُنا أنْ نسألكِ..- هل أنتِ حزينة بطبعكِ ؟ أم أنَّ الحُزن هُو الصِّفة المُلازمة للشُّعراء على وجه العُمُوم ؟
– الاثنين معًا.. حزينةٌ بطبعي لأنَّني امتاز بإحساسٍ عميقٍ وأيّ كلمة تُزعجُني هي مُحفز للبٌكاء وهذا ما يرهقُني أحيانًا بالحياة العمليَّة.. والحُزن صفة تلازم الشُّعراء لتأثُّرهم بالأحداث المُوجعة والمنفذ الوحيد الكتابة لإعطاء أغنى وأثمن ما عندهم لأنَّ الحُزن مرادف للإبداع ومداه طويل أمَّا الفرح مداه قصير ولا يُحفز على الكتابة بعُمقٍ.
* عندما قرأت بعض دواوينكِ الشِّعريَّة وتعرَّفت على قصائدكِ عن قُرب أيقنت أنَّ شعرك يمتاز بكونه فلسفيًّا عميقًا، ولذا علينا – نحن القُرَّاء – أنْ نفُكَّ رُمُوزُه حتى نستطيع فهم مراميه ومقاصده.. ما تعليق الشَّاعرة ؟
– أحبّ الشِّعر الغني العميق غير السطحي لأصل إلى ما أصبو إليه بأُسلُوبٍ رمزي بسيط وكما يُقال (السهل الممتنع).. لا أُحب تكرار الكلمة بأكثر من موقع كي لا تفقَّد القصيدة عُنصر التَّشويق والجمال بعيدًا عن حشر كلمات حذفُها لا يفقد الشِّعر مغزاه والقارئ الجاد الواعي لابد أن تتكوَّن لديه رُؤية بعيدة المدى لإدراك وفهم حقيقة النَّص.
* ما دور الخيال في حياة الشَّاعر ؟ وهل ثمَّة تصادُم بين الخيال والواقع عندما يهُمُّ الشَّاعر بكتابة القصيدة ؟
– الخيال هُو الغذاء الرَّئيس والمُهم للشَّاعر حيث يعيش بعالمه الخاص لاستخراج الفكرة التي يبني عليها النَّص باعتماده على الواقع بأحداثٍ من صلبه كي تُبنى القصيدة مابين الواقع والخيال بقالب شعري جميل يُؤثر على القارئ بشكلٍ غير مُباشرٍ ويتذوَّق المعنَّى دون أي تصادُم لأنَّ أسلوب الشَّاعر يطغى على النَّصِّ.
* هُناك نظريَّةٌ في الإلهام ترى أنَّ الشَّخص المُبْدع هُو شخص مُلْهمٌ، وأنَّ لديه قُدرةٌ هائلةٌ على التقاط الومضات الإلهاميَّة التي تصدُر إليه من عالمٍ غير مادِّيٍّ وغير منظُورٍ…هل تؤمن الشَّاعرة «مها سُليمان» بالإلهام إيماناً مطلقاً ؟ أم أنَّ إيمانك بالالهام يكتسي بشيءٍ من الحذر والتَّحفُّظ ؟
– نعم.. الإلهام هُو مَنْ يُوحي للشَّاعر بموهبته التي هي بالطبع منحة أو هبة من الخالق سبحانه وتعالى.. والإلهام هُو القدرة على التقاط إشاراتٍ من عالم غير مادي وغير منظور.. وقُوَّة الإلهام دعامة الشَّاعر يبني من خلالها قصيدته مع إيماني بالواقع المادِّي والمنظُور ليكتمل النَّص بأبهى حلَّةٍ.
* تكثُر كتابتكِ الشِّعريَّة على وسائل التَّواصل الاجتماعي، وتحظين بعددٍ كبيرٍ من المُتابعين، الذين يتفاعلُون مع ما تكتُبينه على الفور.. فهل يُمكنُنا القول بأنَّ المستقبل للنَّشر الإلكتروني في مُقابل النَّشر الورقي ؟ أم أنَّ هذا الطَّرح سابق لأوانه ؟
– النَّشر الورقي أغنى وفيه تأخذ القصيدة حقُّها من الكتابة، كما أنَّ النَّشر الورقي يجلب الكثير من المتعة للقارئ ولكن الوضع الحالي كان من نصيب النَّشر الالكتروني.. وسبب تفاعُل الأصدقاء ربما لصدق المشاعر والطَّريقة التي أتعامُل بها مع المُتابعين باحترام آرائهم وحُضُورهم الجميل.. أمَّا بالنِّسبة لسيادة النَّشر الإلكتروني على النَّشر الورقي فإنَّ هذا الطَّرح سابق لأوانه بسبب الظُّروف ومُتغيرات الحياة التي نعيشها الآن والتي سنعيشها لاحقًا.
* ما هُو واقع شعرنا العربي ؟ وهل برأيكِ أنَّ الشِّعر قد فقد مكانته وتركها للرِّواية التي أصبحت الآن ديوان العرب ؟
– الشِّعر لا يمُكُن أنْ يفقد مكانته.. والشِّعر العربي الحالي جميلٌ ومُمتعٌ دون أن نُقارنُه بشعر الماضي، فلكُلِّ زمن مُبدعيه وكُتَّابه المُميَّزين بحُضُور نقَّاد لهم طبيعة خاصَّة ورؤى بعينها.. والأدب العربي بكُلّ أشكاله وأنواعه مُمتع وله مُعجبين.. حتَّى وإنْ طغت الرِّواية على السَّاحة الأدبيَّة.. لكن يظلّ الشِّعر هُو ديوان العرب.
* ماذا تقُولين للشَّباب من الشُّعراء الذين يخطُون خُطُواتُهُم الأولى في طريقهم نحو الإبداع ؟
– أقُول لهُم اهتمُوا بالقراءة كثيرًا فهي الباب الملكي للدُّخول الحقيقي إلى عالم الإبداع.. اهتمُوا بقراءة الشِّعر على وجه الخُصُوص ولا تتوقَّفُوا.. انصتُوا إلى صوت الإلهام داخلكُم.. واكتبوا شعرًا لا ينفصل عن الواقع المُعاش.. شعرًا هادفًا يسمُو بالأحاسيس والمشاعر.. كونُوا أنفسُكُم فلا تُقلِّدُوا أحدًا من الشُّعراء حتَّى الذين نعتبرهم قُدوتنا ومثلُنا الأعلى..
*ما أُمنياتُكِ التي تودِّين تحقيقُها على كافَّة الأصعدة ؟
– أمنيتي على صعيد الأدب أن أكون جديرة بلقب (شاعرة).. وأن أقوم بطبع ديوان جديد لمجمُوعة من قصائدي تحت اسم: «مرافئ التَّوجد»، وديوان «ابتهالات على ضوء اللَّهفة».. في إحدى البلاد العربيَّة طمعًا في الوُصُول إلى أكبر قاعدة من القُرَّاء العرب.. وعلى الصَّعيد الاجتماعي فأنا أتمني أن يجتمع شمل أُسرتنا من جديد تحت مظلَّة الأمن والأمان.. أمَّا على الصَّعيد الوطني فأنا أتمني لبلدي الحبيبة سُوريَّة السَّلام والاستقرار والرَّخاء والازدهار وهي أمنية تنسحب أيضًا لكُلِّ الدُّول العربيَّة من المُحيط إلى الخليج.