من الصعب التوقع وبشكل دقيق، كيف ستكون الثقافة العربية في القرن الواحد والعشرين، لكن يمكننا قراءة ما يحصل من اتجاهات عامة بناءً على التطورات الحالية والاتجاهات الثقافية العالمية، التي تؤثر أو ستتأثر في المستقبل بشكل تفاعلي، وما يحدث حولنا من تطورات سياسية واقتصادية وصراعات وحروب وتقلبات في أسعار الطاقة وغيرها.
فالتقدم التكنولوجي أوالثورة الاتصالية السريعة والمتجددة يمكن أن تؤدي إلى تفاعل أكبر وتأثير بارز بين الثقافة العربية والثقافات العالمية، ذلك من خلال زيادة تأثير وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الإعلام الرقمي وتعدد القنوات الفضائية على تشكيل الأفكار والتفاعل بين الشعوب، كما إن التغيرات الاجتماعية هي الأخرى ستأخذ حيزاً أوسع على ضوء ما أشرنا اليه، حيث أن تطور المجتمعات العربية في العقود السابقة من القرن الماضي، وما حصل في تغيرات الهوية الثقافية، نتيجة للتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي تواكب حركة التطور السريعة في الحياة، أدى كل ذلك الى زيادة في التنوع الثقافي العربي والعالمي، وقبول الاختلافات بين المجتمعات العربية وغير العربية لأقترابها الاتصالي، وسرعة التفاعل بينهما في حب الإطلاع أو الفضول في معرفة كل ما عند الآخر.
ولا شك إن لتأثير اللغة العربية وتطورها في ظل التكنولوجيا المعاصرة والتغيرات اللغوية عامل آخر وذلك من خلال انتشار الترجمة وتلاحقها مع الثقافات الاخرى، أضافة الى تطور الأدب والفنون وما صاحبه من نزعات ايديولوجية ووجودية وما بعد الحداثة عن التي كانت سائدة في القرون السابقة، إذ شكل منعطفاً مهماً للتلاقح الثقافي العالمي، أي إن تطور الأدب والفنون مع مزيج من الإبداع التقليدي والفلكلوري والتأثيرات المعاصرة عليه، شكل بعداً وعمقاً أساسياً لنضج الثقافة وتعدد مدارسها وتجاربها، فضلاً عن استمرار تطوير صناعات السينما والموسيقى والفنون البصرية، التي أخذت حيزاً واسعاً بعد دخول الذكاء الاصطناعي في صناعتها.
أما في مجال التعليم، فإن تأثير التقدم التكنولوجي على نظام التعليم، ونشر المعرفة بشكل أكبر والتطور في أساليب التعلم والتدريس، كان له الاثر البارز في زيادة نسبة الوعي عند الفرد لو قورن بين مستوى التعليم في القرن العشرين عما هو عليه في المرحلة الراهنة من القرن الواحد والعشرين، وهذا ما يعطي وضوح للرؤية المستقبلية على شكل الثقافة العربية، وحضورها الفاعل بقوة على المستوى العالمي والاهتمام بها كلغة حيّة.
كما قدمت الكثير من الدراسات والبحوث العلمية الى إن الدين يشكل منعطفاً مهماً في الرؤية الثقافية للقرن الواحد والعشرين، من خلال تفاعله مع أوجه الثقافة الدينية المتنوعة والمتعددة في العالم، ودوره من خلال تأثير القيم والمعتقدات الدينية على الحياة الثقافية المتناغمة مع سرعة تطور العصر واستكشافاته، فضلاً عن تطور المفاهيم عند الناس بتنوع أجناسهم وعرقهم وانتماءتهم الدينية، وذلك كل من زاويته في التعامل مع وعيه الديني والثقافة الشخصية والمجتمعية وبما تمليه عليه ثقافته بجذورها أو أصولها، والسعي الحثيث للأفراد والمؤسسات في التقارب بين الأديان الأخرى من خلال دعواتها لعقد المؤتمرات الدولية التي تدعو الى مبدأ التسامح وحقوق الانسان ونبذ الخلافات والحروب والوسطية والاعتدال بين الاديان، والدعوة الى عالم خال من التسلح الذي يقود العالم للخراب والانهيار، إذ أعتبرت الدراسات إن تفاعل الدين يأتي من خلال تأثير القيم والمعتقدات الدينية على الحياة الثقافية، وإن التطور في الوعي الفردي بالتعامل مع التنوع الديني أصبح اليوم كحقيقة واقعة بين أغلب الدول.
ومن الجدير بالذكر فأن للعولمة بعدها العميق في الثقافة العربية ومستقبلها، وما شكلت تغييرات كبيرة في ظل عالم متغير وصراعات سياسية واقتصادية واقليمية على الهوية الثقافية العربية في مواجهة التحديات الحديثة وما ينتج عنها، والتغيرات قد تحدث بسرعة نتيجة للأحداث الغير متوقعة.
ولا غريب في الامر فقد لعبت العولمة دورها الكبير منذ أوآخر القرن العشرين في التغيير بمفاهيم كثيرة عند الفرد في العالم ، ومحاولتها اختراق حضارات أمم الشعوب وفرض العديد من العادات والتقاليد التي كانت غريبة ثم أصبحت فيما بعد جزء من ثقافات هذه الأمم.
نحن إذن أمام مرحلة وعي حضاري جديد من القرن الحالي، يدعون لأن نكون أكثر مرونة وأقل شداً، فالإنسان سيكون أكثر أهتماماً من خلال نزعته نحو الابتكار والتجديد والابتعاد عن فوبيا النقد فهو يسعى دوماً الى النزوع نحو فكرة الخلق والابداع المادي واللامادي، والتحرر من القيود، والبحث عن التواصل والاقتراب والتعاون مع الآخرين، بغية الاستفادة، والتعريف والاكتشاف لعالم أكثر علمية.
ولكن يبقى التساؤل الآخر، هل عالمنا الآن سيظل الإنسان فيه إيجابياً مبدعاً جميلاً في كل شيء؟ أم سيدمر ما حققه ووصل اليه من الوعي والتقدم والحضارة ويعود بنا الى القرون الأولى ؟