قادتني قدماي إلى ذلك الطريق الذي ذهبنا إليه لأول مرة حين اشترينا هذا البيت الصغير منذ سنوات، طريق ضيق تمنحه نسائم البحر أنفاسا وبراحا، تحتضنه الأشجار من الجانبين، تمنحه سكينة، تتناثر الفيلات هنا وهناك بحدائقها التي تمتلئ أشجارا ونخيلا وزهورا تطل على المارة من خلف الأسوار تمنح الطريق رحيقا، كان ذلك الطريق أول ما عهدته هناك، دب عشقه في قلبي من أول خطوة، انتهت اليوم علاقتي بالمكان، لكنني أردت توديعه، بخطوات هادئة أمضي، سوف يخلو هذا الطريق من أنفاسنا اليوم، خطوات ثقال تحملاني إلى هناك، بعدما تبدل كل شئ، تتأذى عيناي مما أراه، تلك البنايات الشاهقة الحديثة تخللت الفيلات، تحجب نسمات البحر، يضيق صدر المكان، يختنق الطريق، أمضي في ذلك الطريق اليوم، أتسائل: هل حقا انتهى كل شئ؟ لم أعد أعبأ بذلك المكان لم يعد يعني لي شيئا، لكن لا، كيف لا أعبأ؟ هناك تبعثرت الرمال على أقدامنا في طريقنا إلى البحر والتصقت بها عند عودتنا، هناك طالما تعثرت والدتي في استكمال الطريق وثقلت خطواتها فنخفف عنها باستراحة قصيرة لالتقاط الأنفاس، عند عودتنا من الشاطئ، بعدما تفضي بما يحمله وجدانها في حديث طويل بينهما تلوح له بعدها مودعة ” أشوفك بخير يا بحر” في وعد بلقاء جديد، الأركان التي كانت تتوقف عندها ذهابا وإيابا، تلك الأركان التي أبحث عنها الآن ولا أجد لها أثرًا بعدما تبدلت ملامح الطرقات، ملامح أختي رحمها الله وآثارها، ذلك “الكافيه” في ذلك المكان الذي عشقته مع زوجها وأطفالها وعشقناه جميعنا، هو مكان اجتماعنا ليلا بعد يوم صاخب على شاطئ البحر، تبدل نشاطه، ثم لم يعد له هناك أثرا، صدى ضحكات أطفالها على ممرات تلك الطرق ذهابا وإيابا، مداعبين كلاب الحراسة هناك، مشاكسين البحر؛ تارة مادحين حينما يحتضنهم بدفء، وتارة غاضبين معاتبين عندما ترفرف الرايات السوداء معلنة غضبه مرات فلا يستطيعون معانقته، سعادة أختي الأخرى، هيامها بالمكان، أنفاسها التي تلتقطها من رحيق نسمات البحر، عشقها للطرقات، الأشجار التي طالما استلقت رؤوسنا على أكتافها، واستندت ظهورنا على راحتيها، والتي اعتادت على أحضاننا، تشتاق إليها فتعانقنا بعد غياب لنلتقط صورنا التذكارية “والسلفي”، تلك الأشجار التي اجتثت، لم يعد لها أصل ولا فرع ، أخي حين يقترح لأول مرة قضاء بضع أيام من شهر رمضان المعظم هناك، فتصبح عادة، تجربة الفطور على الشاطئ، ننتظر في لهفة حين تغفو الشمس في أحضان البحر، حين يقرر أخي طهي “صواني السمك” على طريقته بعدما نذهب في جولة إلى سوق الأسماك والتي حقيقة كنا لا نعرف الكثير من أسماءها ولا طريقة طهيها، لكن يأخذنا الشغف وروح التجربة ساخرين من بعضنا البعض، ونعود إلى بيتنا الجميل هناك محملين لأمي بأطيب الأسماك والحلوى، نأكل ونتسامر وتملأ ضحكاتنا أرجاء المكان، ما زلت أسمع صدى ضحكاتنا، ما زلت أرى آثار خطواتي على الطرقات عند القيام بدوري الأساسي في احضار الفطور للعائلة صباحا، حيث أمضي إلى خارج حدود المكان سيرا على الأقدام، أقطع مسافة طويلة، فهناك بائع الفول الذي يعرف هويتي حين أطلب منه “الطعمية” وليست “الفلافل” كما يسمونها السكندريين، فيتعجل في تلبية طلبي بابتسامة ترحيب ودودة، أعود بعدها إليهم مستمتعة بأناقة المكان، وهدوء روحه، أتمايل على جانبي الطريق كأنني أمتلكه ويمتلكني، اليوم أجد باعة السمك والفول والدواجن و و و يفترشون الأرض فتتجمع القاذورات، ويجد الذباب والبعوض شهية كبيرة للمكان، كنت أعود محملة “بأكياس الخبز الأبيض” ووجبة الفطور لنتناول لقيماتنا سريعا استعدادا لذهابنا للقاء البحر والمكوث بعض سويعات، نمضي في الطريق، تحلق عيوننا في السماء في سباق مع طيورها الهائمة التي تتلاشى هناك، أو ربما تجد غداءها من على سطح البحر، يقطع خيوط ذكرياتي المبعثرة ضجيج “أتوبيسات” وعربات الفان الصغيرة ” تنايات” _تلك الوسيلة التي لم نعرفها سوى هناك وذلك منذ سنوات طويلة_، كانت تتواجد على بعد مسافة كبيرة كي نستقلها للذهاب إلى شاطئنا المفضل هناك، لكن حقيقة الأمر؛ كنا نعشق المضي بين طرقات المكان الهادئة، الحانية، أراها اليوم تجوب المكان ذهابا وإيابا، تملؤه ضجيجا، تمر على ذلك الطريق “الاسفلتي” بعد رصفه، بدلا من حبيبات رماله التي كانت فيما مضى تحمل أثر خطوات أناس كانوا ومضوا، ما زلت أتذكر أنفاسنا التي طالما تبعثرت هنا حيث كنا نقضي صيفنا، تتبعثر اليوم ذكرياتنا، تتناثر صورها، تترائى لي باهتة بلا ملامح مثلما أرى المكان بعدما تغيرت ملامحه بصحبة الطرقات والأشخاص، وكأنما ورثه قوم آخرون، أنظر يمينا ويسارا بعينين ماطرتين، وقلب يعتصر ذكرى، أمضي في عودتي من ذلك الطريق، حيث اتسع الطريق، واختنقت أنفاسي.